خفايا

نشر في 29-12-2018
آخر تحديث 29-12-2018 | 00:00
No Image Caption
يقول العارفون بشؤون الدين: إن الله يمنّ على الأتقياء الصالحين ببعض الكرامات، ويجعلهم مميّزين من سواهم في استطلاع بعض الأمور قبل حصولها... وهي درجة لا يبلغها إلّا مهلكو أنفسهم في العبادة، المنقطعون لها، الصادقون في نفوسهـم، والمخلصون لله تعالى...

يروى الكثير من قصص هؤلاء، ويشهد الناس على وقوعها، ويكتب الكاتبون عنها، ويستشهدون بالمعاينين المباشرين مثل هذه الحالات...

ذلك ما كان يشغل جمال طاهر طوال خمس عشرة سنة، هي مدة اختفاء حوارييّه: صالح الشّطّي أوّلاً، ثمّ صافي مختار الذي لحق به ثانيًا بعد حين من الزمن، ولم يقنعه عثور أحد صيّادي «بيت الرجا» على هيكلين عظمييّن مقتعدين في زاوية أحد الكهوف المهجورة في غابة تقع شرقيّ البلدة. في مكان قصيّ من أحد أطرافها.. ظنّ كثيرون أنهما يعودان إلى صالح وصافي، ونفى قسم كبير من الأهالي هذا الظّن، وقد عاينوا طوليّ الهيكلين ووجدوهما أقصر من قامتيهما. حتى أنّ زوجتيهما وأولادهما قد شكّوا في ذلك.. وبقي أمر اختفائهما لغزاً لا يعرف أحد حقيقته... عاش جمال بعد هذا الاختفاء في قلق دائم، لكنه أدام قراءة أخبار الأولياء والصالحين والمتصوّفة، وتلقّف حكايا الجنّ من الكتب وأفواه الناس الذين كانوا يروونها... ظلّ يبحث عن إجابة عن تساؤله: أين اختفى صالح وصافي؟

إلى أين ذهبا؟ أين يسكنان؟ ولمَ فعلا ما فعلاه؟ ألم تعد الأرض تسعهما؟ أرحلا يبحثان في السّماء عن ركن بعيد وأخيراً وجداه؟

ظلّت عيناه الداخليّتان تتناوبان التبصّر: حيناً في الأرض، وحيناً في ما وراءها، وحيداً يرمق الهواء الحائر، يتطاير أمامه بخفّة، ثمّ يعود ويقوى، يصبح كالسهام الجارحة، يعذّب نفسه، ويعذّب موجودات الكون، ولا يكشف له سرّ صاحبيه اللذين عذّبهما هو نفسه، كما يعذّب الهواء الأقاحي والورود، يعرّيهما من الألوان والتناسق البديع، يحملهما إلى ديار أخرى، يسلّمهما إلى الغربة يردّد في أعماقه: «صحيح لا تدري نفسٌ بأيّ أرض تموت...» وأنا مثل العواصف، عذّبت صالحاً وصافياً، جادلتهما، وقفت لهما بالمرصاد في كلّ ما فعلاه وقالاه، وكنت في أعماقي مؤمناً بهما، بما يفعلان ويقولان، اليوم وقعت في الحالة نفسها، أجد نفسي أسلك طريقهما، في خاطري تتسابق الرؤى والأحلام، بعضها يتحقق، يصير واقعاً.. أسمع هاتفاً يكلّمني، أتيه في دنيا غريبة، أصدّق أن الله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء... تلك هي العلامات لديّ، تتجمّع، تحاصرني، تقنعني بأنني على الطريق، وأنني أستطيع العيش في عالم‏ الآخرين، أدخل إلى نفوسهم، أقرأ ما فيها، أحاول المساعدة، لكنّي أعيد ما أعرفه إلى كثرة المطالعة، إلى التّعرّف إلى سير الصالحين، أقتنع بها، فيتسرّب إلى داخلي عرفان يغمرني، يشعرني أنّني إنسان آخر، لديّ ما ليس لدى الناس.. أمعن في القراءة، أزداد حجماً عندما أختم كتاباً في وليّ مركونٍ في حفرة صارت مزاراً، تتصاعد الأنوار منها، أقترب أكثر، أحسّ أنني أمام عرشٍ من نور، يلبث ناظراي فيه طويلاً، أقتنع أكثر بأنّ روحي غير جسدي.

كان مضطرًا إلى أن يجيب عن أسئلة من يقصدونه في منزله الكائن قبالة بيتيّ صالح وصافي، بيوتٌ ثلاثة شكّلت برؤوسها المسنّنة مثلّثًا تراءى له يبتسم دائماً.. يرى من خلاله وجوه محمود مختار وصالح وصافي.. وطائراً يحوم فوق المثلّث. حائراً يكاد يلامسه.

سألته فاتن، زوجة صالح التي جعلت تنقّلها الدائم بين الإسكندرية و«بيت الرجا»، عن انقطاعه عن زيارتها وكثرة انزوائه، وعمّا يقال من أنّه يخاوي الجنّ، لمحت انكساره وطأطأة رأسه، قال بصوتٍ يكاد يخرج من بين شفتيه:

- ليقولوا ما يقولونه.. إلى الآن أنا لا أعرف ما يستبدّ بي.. لا أرى جنّاً ولا أدعي شيئاً. . أنا متأثّر، كما تعلمين بغياب صالح وصافي..

- إلى هذا الحدّ يبلغ بك التأثّر..؟

كان جمال يكنّ احتراماً، كبيراً لفاتن.. وهي التي شهدث ما شهدته من وقائع وأعمال جليلة قام بها زوجها صالح. ردّ وفي محيّاه ملامح هذا التقدير لها:

- أرى أنّ كلامك يحمل أنفاس الماضي... بقي لديك شيء منه، مازلت تذكرين المشادّات التي كانت بيننا على مسامعك.. نعم كنت معارضاً لصالح وصافي، ألم تلاحظي، في ذلك الزمن، أنهما كانا الصاحبين الوحيدين اللذين كنت أقصدهما؟ كنت، في أعماقي، مؤمناً بهما، أعماني الصّلف والغرور، أحالا الأوهام على القسم الظاهر من شخصيّتي.. تريدين أن تعرفي حقيقتي، أنا لم أكن أختلف عنهما، وهأنذا الآن مثلهما، أنا من سلالتهما.. مذ غادرا أشعر بأنني قطعت من شجرتهما.. كل ما حولي يبكي.. يشاركني في البكاء، أبحث في هذه الموجودات عن قلب أضناه الفراق حتى أطلعه على ألم الاشتياق يا أمّ راضي، هو الأنيس لكلّ من أبعد من حبيبه..

- نعم يا جمال، أنت على الطريق، صدرك الممزّق هذا من الفراق هو طاهر، جعلك ترتفع، تحاط بالأنوار.. دعني أرى فيك صالحاً وصافياً والصالحين كلّهم..

كان جمال، على الرغم من ميله إلى العزلة، بدأ يشعر بأنّ كثرتها تزيد في ألمه. وجد أيّامه متشابهة، ولا سبيل إلى التخفيف من هذا الألم إلا الخروج من هذه العزلة والتقاء الناس ومخالطتهم ودعوتهم إليه، لإسماعهم ما لديه والاستماع إلى ما لديهم.. خصوصاً عندما تأكّد من طهره وصفائه وإيمانه الشديد، والرغبة في مساعدة الناس، تماماً كما فعل صاحباه.. تبيّن بعض قدراته في العلم الذي رآه يجري أمامه عندما كان يخالط صاحبيه.. أخذ يقصد المسجد للصّلاة في الأوقات الخمسة.. أطال المكوث فيه.. كان إمامه الذي خلف الشيخ علي رأفت حامد الرّجاوي ذا ثقافة دينيّة عالية، في الثامنة والثلاثين من عمره، صادقه جمال، على الرغم من فارق السنّ بينهما.. احترمه وقدّره لأنّه انصرف كليّاً إلى شؤون الدين، ولم يشغله مال ولا منصب، ولم يدن بالولاء لأيّ سياسيّ أو متنفّذ.. حرّ الرّأي، واضح في مرامه.. وجد جمال فيه حسن العشرة والطيبة، يردّد في نفسه كلّما استمع إليه قول أحد المتصوّفة:

« كل من فرّقه الدهر عن أهل لسانه، يصبح بلا لسان حتى لو سمع له مائة ألف صوت»..

بعد صلاة العشاء من أحد أيام رمضان، اقتعد جمال إلى جانب الذين تحلّقوا حول الإمام حامد الرّجاوي.. معظمهم من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين سنة. بدأ حديثه قائلاً:

- سألتني يا محيي الدين، قبل الصلاة، عن رجلين من ضيعتنا، كانا صالحين، واختفيا من دون أن يعلم أحد وجهتهما وسرّهما، أصغيت إلى الحديث الذي دار بيني وبين الأخ جمال عندما أتينا على ذكرهما، وذكر غيابهما المهم الذي لم يعرف عنه أحدٌ شيئًا، وأنّهما كانا يعيشان معنا، طلبت معرفة حقيقتهما وسط الأقاويل الكثيرة التي انتشرت عنهما، كلٌّ يحكي كما يطيب له، من يحبّ يقل القول الحسن، ومن يكره يذر بسيرتهما إلى حدّ وصفهما بالدّجل...

back to top