تلّ محمّد

نشر في 15-12-2018
آخر تحديث 15-12-2018 | 00:00
No Image Caption
(1)

(لازم ارجع... لازم ارجع... لازم ارجع)

كررتها مرات عديدة، كما قالت ماريا، قبل أن يوقظني ماء مُثلج سكبته على وجهي. نهضت مفزوعاً على وقع نبضات خفاقة أعاقت سحب أنفاسي وطرحها. أبلغتني ماريا أن صراخي أشعل المكان كما اعتادت مصحوباً بعبارة (لازم ارجع). كانت لا تفقه العربية، بيد أنها سجلته صوتياً وأسمعتني إياه لاحقاً، وطلبت مني ترجمته فقلت إن ما أقوله يعني (لازم ارجع). بعد ذلك، حين أود منها وصف ما جاء من حديث أثناء كوابيسي المعتادة، تجيب في الغالب بعربية ذات لكنة إنكليزية (لازم ارجااا).

لم تفلح الحبوب المهدئة التي توطّنت في أحشائي، حتى وقت قريب، في تذليل المشكلة، فهجرتها غير مأسوف عليها. وحين يملأ ضجيجي البيت في ساعة متأخرة من الليل، تسارع ماريا إلى الاتصال بالإسعاف فورا، فأُنقل إلى أقرب مشفى غالباً، أو يزورني الطبيب المختص. يُمرر سماعته على أعضاء جسدي ثم يتحسس معدتي بيدين ذواتي خبرة ويكتب لي دواء مهدئاً للأعصاب وبعض الفيتامينات غير مجدية النفع، فامتنع عن تعاطيها سراً، ما يؤدي لإصرار كوابيس مزعجة ومصحوبة بصراخ فظيع على اقتحام نومي مجدداً، حتى تعودت ماريا معايشة وضعي التعب وكفت عن الاتصال بالمسعفين.

(2)

وصلت لندن محطتنا النهائية قبل بضع سنين هرباً من السلطة العراقية، بعد أن غادرت بغداد بفضل أحد المزارعين الذي تولى عملية إيصالي إلى زاخو، متحملا عناء رحلة دامت أكثر من عشرين ساعة، وعلى جسدي تراكمت أكياس الخيار البلاستك وصناديق الطماطم السوداء. عبرت الحدود العراقية نحو الجنوب التركي مع رعاة غنم يعرفون المنطقة جيداً، وهناك التقيت مع أفغاني وإيراني علمت أنهما سيرافقانني الرحلة صوب حلمنا الكبير (لندن). قضينا أسبوعاً كاملا في قرية تركية. آخر ثلاثة أيام متواصلة منه لم تلامس لقمة واحدة بطوننا الخاوية، بعد أن أصبح المسؤول عن تهريبنا في عداد المنسيين. لم يعد أمامنا سوى تولي الأمر بأنفسنا والتصرف بمسؤولية عالية قبل فنائنا.

كانت لغة التفاهم مع نظيريّ الآخرين بضع مفردات إنكليزية غالباً ما ألفظها خاطئة، إضافة إلى إشارات مألوفة جداً مع اختلاف استعمال بعضها طبقا لثقافة كل بلد. فمثلا كان الأفغاني يُشير براحة يديه تجاه رقبته دلالة على قوله «هل تعاطيت الكحول؟» فيما أشير بأن أوجّه إبهامي صوب فمي حين أود قصد المعنى ذاته.

هرب الإيراني من بلاده رغبة بتنفس حريته بعد أن أعدمتها السلطة الدينية. أما الأفغاني الوسيم، صاحب العينين الزرقاوين والشعر الأسود القاتم والطول الفارع، فرحل حين قُتل أخوه على يد طالبان بعد اكتشافهم عن طريق المصادفة تأييده لرشيد رستم القائد الشيوعي المؤثر، والذي بسط سيطرته آنذاك على ست ولايات شمال البلاد. توعدوه هو الآخر بالقتل. بينما كانت أمه تشعل الورق والخشب لتسخين تنورها الطيني تمهيداً لإعداد الخبز، بعد أن ضربت البلاد أزمة وقود حادة، عثر أحد أفراد طالبان على أوراق متناثرة قرب بيتهم تحوي صوراً لكارل ماركس ولينين وستالين. اقتحموا بيتهم فوراً وفتشوه تفتيشاً جيداً، فوجدوا كتاب «رأس المال» لماركس وبعض الملصقات المؤيدة لرشيد رستم مخبأة جيداً في إحدى خزانات البيت الخشبية. اعتقلوا أخاه وقتلوه أمام الملأ بداعي الإلحاد بعد أن استقرت ثلاث إطلاقات نارية في رأسه. يقول إن والده توفي قبل ستة أعوام، فيما بقيت أمه وحيدة تصارع المرض، على أثر وفاة والده مرة وعلى قتل أخيه وتركه البلاد مرة أخرى.

(3)

حبسنا المُهرب قبل غيابه في إسطبل خيل رائحته تزكم الأنوف، وقدم لنا لائحة قواعد صارمة أهمها إن نختبئ تحت التبن ولا نغادر المكان حتى مجيئه. وبعد مرور يومين متتاليين انهكنا خلالهما الجوع والعطش والوسخ نفض صديقنا الأفغاني التبن عن جسده والتفت إلينا مخاطباً بإنكليزية بسيطة:

– أنصتوا لي... المهرب هرب لا محالة. علينا أن نتدبر أمرنا وإلا قضينا هنا. ألم تفهموا بعد أن خطته تنوي القضاء علينا تماماً؟ ألم تدركوا أن إيصالنا إلى وجهتنا المفترضة تحتم عليه صرف مبلغ إضافي يميل إلى صرفه في حانات التسكع وملاهي النساء وإن كلف الأمر حيواتنا، ففي النهاية نحن ثلاثة حيوانات لا يهمه إن فطسنا أو نفقنا. عدّوها وجهة نظره الشخصية، لكنها الحقيقة بلا شك.

قاطعته قائلا:

– أعتقد أنه سيعود قريباً، فلا يمكن له إلا أن يفي بعهده.

فرد بلكنة لم تخلُ من السخرية:

– لا تكن ساذجاً. المهربون عامة يصنفون ضمن قائمة الغش والخداع، فهم أكثر طبقات المجتمع انحلالا. اعلم أن يرقات المخمورين والمدمنين والمجرمين لا يمكن أن تفقس إلا في أديم تربتهم الخصبة.

خرجنا من الإسطبل ولاح في الأفق منظر أخضر خلاب. فركتُ عيني بقوة بعد أن خاصمت النور لثلاثة أيام متتالية. تقدم الأفغاني زمار وأخذ يقتلع العشب من الأرض ويمضغه بقوة كمن يقتلع حياته. أثار دهشتي التي لم تدم طويلا حتى كسرتها بأن التهمت باقة عشبية خضراء كما الخروف، وأخذت أمضغها بصعوبة بالغة مهدئاً جوفي الذي أصابه لاحقا خيط بسيط من وجع.

نزع زمار فانيلته الداخلية البيضاء، وقد تحوّلت إلى سوداء، بفعل قذارة أجسادنا التي مضى على فراقها الماء أكثر من أسبوعين. أخذ يغرف المياه الآسنة من بركة صغيرة احتضنت ما جادت به السماء من مطر واستعان بردائه الداخلي في تصفية الشوائب وإزالة الأوساخ. سكب الماء المصفى في قدح متوسط لا يزال يحتفظ برائحة كريهة. وقبل أن يحشره دفعة واحدة إلى أمعائه تقلصت عضلات وجهه وتغيّر لون عينيه كمن يجرع كحولا مُركزا أو ينفر من شيء بغيض. ننظر إليه، أنا والإيراني، وملامح وجهينا تنفر من سلوكه، قبل أن نقدم على فعلٍ ما كما لو كنا عديمي المسؤولية تجاه كل شيء حتى حياتنا.

انطلقنا صوب مجهول نتبع خطى زمار الذي طلّق خوفه، وأعلن شجاعة نادرة وبدا وكأن العشب زوده بطاقة سحرية. وبعد مضي ساعات قليلة من المشي في الحقل لمحنا «تركتر» زراعياً قادماً من بعيد فدّب الفرح في أنفسنا وتسابقت أقدامنا نحوه مسرعة كمن يهرب من حتفه.

اقترب منا صاحب الجرار الزراعي وحدثنا بلغة لم نألفها من قبل. فتجاوب معه الإيراني ببضع مفردات فارسية وإشارات جسدية ساعدت في فهمه أن بطوننا خاوية وحالتنا مزرية كما الظاهر، فاصطحبنا نحو بيت خشبي مرتب جداً على الرغم من صغره. افترش لنا الأرض ثم جاء بإناء ملون ملأه بالتفاح والخوخ والطماطم فدعانا إلى الأكل، وقال إنه سيعود بعد قليل.

أصر زمار على أن صاحب الحقل يعمل مع المخابرات التركية وينوي تسليمنا إليهم والا ما الذي يدعوه إلى إيوائنا وما الذي يجنيه من ذلك؟ قلت لهما: «إن كان تابعا للمخابرات التركية فمن الأفضل السير خلفه ليسلمنا إلى جهة مختصة تجد لنا حلا أفضل لنا مما نحن عليه الآن». كان البيت الخشبي محاطاً من الداخل بصور السيد المسيح وبعض الصلبان الخشبية ومسبحة طويلة وصورة قديمة للعذراء غير مؤطرة وآيلة للسقوط بعد أن هاجمتها الرطوبة. أثناء استلقائنا على الأرض وقبل استسلامنا للنوم شعرنا بوقع أقدام في الخارج تقترب صوبنا، فدخل علينا مالك البيت حاملا إناء مدوراً مُحاكاً بإتقان وحرفية بواسطة سعف النخيل وقد مُلئ بطعام ضم أنواعاً عديدة من الأكلات، بدءا من السمك المشوي وبعض الخضراوات وليس انتهاء بالخبز الأسمر الساخن. ثم سحب إناء الفواكه وبانت علامات الدهشة على وجهه حين رآه فارغاً تماماً مما جادت به يداه قبل أقل من ساعة.

وضع الطبق المُعد، وأخذنا نلتهم محتوياته على عجل، ونظرات صاحب الحقل تتوزع علينا مندهشة بما تراه، حتى أُتخمت بطوننا من أطايب الطعام والشراب، فاقترح علينا أن نتمشى قليلا في حقله الأخضر بغية هضم الأكل وإراحة المعدة، إلا أن نوماً عميقاً حال دون تلبية طلبه.

(4)

استيقظنا صبيحة اليوم الثاني، وفور تناولنا وجبة إفطار غنية بالخضار واللبن أخذ الإيراني يفهمه أن مسؤول تهريبنا حبسنا في إسطبل للخيول قريب من محيط الحقل، وسرق أموالنا التي حوّلناها إليه شريطة إيصالنا إلى لندن، بعد أن تيقنّا أنه هرب إثر غيابه ثلاثة أيام متواصلة. أبلغه الأفغاني أن علينا بلوغ ميناء المدينة وبعدها نتكفل بمصائرنا لوحدنا، فلم يبخل في تلبية طلبنا على الرغم من مخاطره.

وفي صبيحة اليوم التالي استقللنا سيارة صغيرة نوع تويوتا حمراء اللون وانطلقنا صوب ميناء المدينة. أعدّ الرجل لنا بعض اللفات الشهية وشراب فاكهة طبيعياً. كان يعاملنا معاملة نجهل مصدرها. ترى هل نبعت من عاداتهم وتقاليدهم في إكرام الضيف وتقديره، أم صدرت رأفة بنا وعطفاً علينا، أو قد تكون محاولة لجرّنا إلى فخ منظم نصبه بإحكام، كما يميل الأفغاني إلى إقناعنا. أثناء سيرنا اعترضتنا سيارة متنقلة للشرطة التركية واحتجزتنا لعدم وجود هويات شخصية معنا أو جوازات سفر. التفت إلينا الأفغاني قائلا: «ألم أقل لكم إنه يعمل مع المخابرات؟».

(5)

تم اقتيادنا إلى مركز شرطة المدينة بعد أن طوقت أيدينا قيود حديدية. تحدث إلينا الضابط بالتركية وجلس إلى جانبه شخص يتقن العربية الفصحى وينقل ما يقوله الضابط إلينا.

– ما علاقتكم بهذا الشخص «في إشارة إلى صاحب الحقل».

قلنا له إنه أنقذنا من موت فعلي بعد أن هرب مهربنا.

فالتفت إلينا مالك الحقل بعد أن رأى علامات القلق والتوجس باينة على محيانا وقال:

– لا تقلقوا، كل شيء سيكون على ما يرام.

كان بصحبتنا مبلغ مالي لا بأس به، وبعد أن عثر عليه الضابط بحوزتنا التفت مخاطبا:

– سأعطيكم تصريحاً للتواجد على أراضينا مدة أسبوع واحد لا غير ثم يقع عليكم اتخاذ قرار نهائي؛ إما بتسليم أنفسكم إلى الجهات المختصة كي تبدأ إجراءاتها الرسمية، أو أن تغادروا تركيا بطريقتكم الخاصة وبأقصى سرعة. وبخلاف ذلك سيتم ترحيلكم إلى بلدانكم بالقوة.

قذفنا مركز الشرطة خارج أسواره بعد أن سرق منا مبلغاً مالياً بداعي الرسوم المفروضة علينا، فوجدنا أنفسنا في الشارع مرة أخرى دون معيل أو كفيل. اقترح الإيراني أن نتجه صوب ميناء المدينة قبل أن تضرب جيوبنا أزمة مالية حادة.

استأجرنا صاحب عربة قديمة وطلبنا منه إيصالنا إلى الميناء، فأبلغنا أنه يبعد أكثر من مئة كيلومتر عن موقع تواجدنا. وافقنا في النهاية على إجرته التي رمى بها على مائدة التفاوض المستديرة ولم تكن كبيرة بخلاف ما كنا نتوقعه.

back to top