أبناء الجفاف!

نشر في 05-07-2018
آخر تحديث 05-07-2018 | 00:00
 مسفر الدوسري بعض الذين لا يعرفون هذه الأرض لا يرون فيها سوى الجفاف ويباس الريق في قيضه الذي ينهب الماء من شرايين الصبر، وشتائه الذي يجمد به الدم في العروق، كثير من الذين لا يعرفونها تلتهمهم الدهشة ويلوكهم العجب حين يخرج من رحم هذه الطبيعة الجغرافية القاسية نتاج إبداعي يساهم في تجميل الحياة الإنسانية ويثريها وينثر الشموس في شتى نواحيها المعتمة ليضيفوا عمقا فكريا ووجدانيا فيها، يتصوّر هؤلاء أن أناس هذه الأرض بسبب طبيعتها الممعنة في الصلافة والملامح الحادة المتجهمة يستحيل أن يكونوا قادرين على حياكة قطعة إبداعية خضراء سوى ما يشبه أشجار الحرمل، ذكر لي الصديق والشاعر سليمان الفليّح، رحمه الله، أن أحد الشعراء العرب جاء في زيارة لهذه المنطقة، في إحدى الفعاليات الثقافية، والتقى بعدد كبير من أبنائها من الأدباء والمفكرين والفنانين التشكيليين في جلسات احتفائية خاصة خارج جدول الفعاليات الرسمية للمناسبة، وتعرّف على نخبة مثقفيها من مترفيها وصعاليكها في تلك الجلسات، فوجئ بحميمية الاحتواء، وثراء تلك الجلسات بشتى أصناف الإبداع الفكري والإنساني، وفي ختام زيارته قال للفليّح بما يشبه الصدمة: من أين تأتون بهذا الجمال للحياة في هذه البيئة القاتلة لها؟!

إن بعض المثقفين من خارج هذه المنطقة لا يعترف بغير هذه الأرض صورة مطابقة للصورة المثبتة في الوثائق المرسومة بخرائطهم الذهنية لابنة لهب، ومن علاماتها الفارقة ثديان لا يسيل منهما سوى: السراب والسواد الحالك، وعندما تقود أحدهم خُطاه إليها إما بحثا عن لقمة مال أو باحثا عن لقمة معرفة، ويقابلها وجها لوجه، ويصافحها ويبادلها لحظة كشف، يصبح كمن دخل من ثقب ما بصورته الذهنية المعتمدة ليرى صورة أخرى على النقيض منها لتعرّي اما جهله أو فوقيته الزائفة، ليخرجوا دائما تحت معطف الخجل تحت مطر الدهشة وعكازة ذات السؤال الذي طُرح على الشاعر سليمان الفليح، رحمه الله، كيف يخلق أبناء هذه الأرض الحياة مما يشبه الموت بالنسبة لهم، في زمن جف فيه ضرع المعجزات؟! بينما أبناء هذه الأرض هم أبناء الجفاف، والعارفون كيف يُستحلب كل ما يجف، حتى وإن كان سحابة للمستحيل، وإن بالصلوات، يعرفون كيف يهتدون لمنابع الماء تحت كثبان الرمل، وكيف يقتفون أثر الفكرة الرطبة التي تمحوها السوافي ويخرجونها من مخبأها، وكيف "يقصّون جرة" الربيع ليصنعوا منه رداء لعقولهم، ولباساً لأرواحهم التواقة للجمال، وكيف يخبئون حلماً في جوف صخرة صلدة لينبت زهرة في الصباح!

لم يمنعهم شحّ المطر من أن يكونوا سحباً مثقلة بما يروي ظمأ الفكر ويغسل درن القلوب، ولا قلّ الزهر من ابتكار الشذى، واستحقوا أن يُدهشوا المدهشين!

كنت أمارس افتناني كعادتي حينما أدخل العالم السحري للشاعر محمد الثبيتي، رحمه الله، وحينما أغلقت الباب خارجاً أثارتني الشجون بما ذُكر أعلاه.

back to top