ما قــل ودل: لا يجوز العفو عن العقوبة أو الجريمة إلا بعد صدور حكم التمييز

نشر في 11-03-2018
آخر تحديث 11-03-2018 | 00:10
لم أرَ من المناسب أن أخوض في موضوع العفو أمام تيار وطني كاسح يطالب بالعفو عن المتهمين في القضية المعروفة بقضية اقتحام المجلس، فالعفو عن العقوبة أو عن الجريمة وفقا لنصوص الدستور لا يجوز قبل صدور حكم نهائي باتٍّ في هذه القضية من محكمة التمييز.
 المستشار شفيق إمام أهنئ الشعب الكويتي بالحكم الذي أصدرته محكمة التمييز في تاريخ 18/ 2/ 2018 بوقف تنفيذ الحكم الصادر من محكمة الاستئناف بتاريخ 27/ 11/ 2017 بإدانة المتهمين في القضية المعروفة بقضية اقتحام المجلس، وهي القضية التي برأت فيها محكمة الجنايات (أول درجة) المتهمين من الاتهامات المنسوبة إليهم فيها، بالحكم الذي أصدرته بتاريخ 9/ 12/ 2013، والذي جاء حافلا بأسباب رسخ فيها حرية الرأي وحق التعبير عنه بكل الوسائل، وقد أمرت محكمة التمييز بإطلاق سراح المتهمين.

كما أطلق الحكم سراح قلمي الذي كان مغلولاً مقيداً، خلال الفترة التي كان المتهمون مقيدي الحرية، فلم أرَ من المناسب أن أخوض في موضوع العفو أمام تيار وطني كاسح يطالب بالعفو عن المتهمين، فالعفو عن العقوبة أو عن الجريمة وفقا لنصوص الدستور لا يجوز قبل صدور حكم نهائي باتٍّ في هذه القضية من محكمة التمييز، ونسوق للتدليل على ذلك ما يلي:

أولا- إهدار أصل البراءة في الإنسان

فالاتهام الجنائي الذي وجه إلى هؤلاء المتهمين، بارتكاب الجرائم المنسوبة إليهم قد خلق واقعاً جديداً يناقض افتراض البراءة في الإنسان، وهي قرينة ترتبط بالإنسان منذ ميلاده، إلى أن يصدر حكم قضائي ونهائي باتٌّ يتناقض وهذه القرينة، بإدانة المتهم في إحدى الجرائم، من واقع ما قدمته جهات التحقيق من أدلة وبيانات، ومن واقع ما حققته المحكمة بنفسها من وقائع الاتهام ومحّصته من أدلة وأوجه دفاع المتهمين.

وقد جسّد الدستور هذا المبدأ فيما تنص عليه المادة (34) من الدستور من أن "المتهم بري حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع"، فالعفو عن المتهمين قبل صدور حكم نهائي باتّ ينطوي على إهدار قرينة البراءة في الإنسان، إلى أن تثبت إدانته بحكم قضائي نهائي، وحق الإنسان في الدفاع وفي محاكمة منصفة وعادلة أمام قاضيه الطبيعي، وهو ما يقتضي أن يصدر العفو بعد المحاكمة وصدور حكم نهائي وباتّ بإدانة المتهم.

إذ يظل من يشملهم العفو من المتهمين موصومين بعار الجرائم التي نسبت إليهم، وخير شاهد على ذلك ما ورد في منطوق الحكم الصادر بإدانة المتهمين في قضائه بحبس المتهمين الخامس والستين والسابع والستين لمدة سنة مع وقف تنفيذ الحكم، وإلزامهما بتوقيع تعهد بعدم العودة إلى الإجرام مجددا.

فالعفو حتى لو كان عفوا شاملا للجريمة يمحو كل آثارها ويرد اعتبارهم القانوني فإنه لن يرد اعتبارهم الأدبي، ومنهم قامات رفيعة يدرّسون طلابهم في جامعة الكويت، وبعضهم لهم باع في العمل السياسي والبرلماني، ومواطنون شرفاء يدرأ عنهم الاتهام بالإجرام، وهو ما أثبته الحكم الصادر من محكمة الجنايات (أول درجة) بتاريخ 9/ 12/ 2013 ببراءتهم عندما قرر في أسبابه أن المتهمين هم أصحاب رأي، وأن نفوسهم ليست كنفوس المجرمين، فلم يقصد أي منهم الاعتداء على أحد بعينه أو مجرد الإيذاء أو تخريب الممتلكات العامة أو الخاصة، ولم يثبت إطلاقاً للمحكمة أن أي واحد منهم يعتنق رأياً منحرفاً أو يدعو إلى الفتنة أو تهوين الحكم في البلاد أو أراد الكيد بالوحدة الوطنية، أو حتى بواعثه إجرامية.

ولهذا رفض المتهمون في الجناية المعروفة بأحداث شارع محمد محمود في مصر العفو الذي أصدره رئيس الجمهورية في حقهم بتاريخ 19/ 1/ 2013، وعندما أوقفت المحكمة السير في الدعوى لصدور هذا العفو، دوّت قاعة المحكمة بهتافات المتهمين ضد الحكم، لأن العفو يبقيهم مدانين بالعار الذي لحق بهم من جراء الجرم الذي نسب إليهم، مؤكدين براءتهم رافضين قرار العفو الرئاسي.

ثانيا: حماية العدالة

ذلك أن من الضمانات في حماية العدالة ما تنص عليه المادة (163) من أنه: "لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائه، ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالة، ويكفل القانون استقلال القضاء ويبين ضمانات القضاة والأحكام الخاصة بهم وأحوال عدم قابليتهم للعزل".

وصدور عفو عن العقوبة أو عن الجريمة بإلغاء آثارها ينطوي على تدخل في سير العدالة، ويتمخض عدوانا على استقلال القضاء، ولهذا نص دستور فرنسا 1958 في المادة (65) فقرة ثالثة على وجوب أخذ رأي المجلس الأعلى للقضاء، ويصدر المجلس رأيه بناء على توصية وزير العدل.

كما يجب أن يوقع رئيس الحكومة ووزير العدل على قرار العفو إلى جانب رئيس الجمهورية طبقا للقرار رقم 58/ 1271 الصادر بتاريخ 22/ 12/ 1958.

وإذا كان دستور الكويت قد أقر العفو عن العقوبة والعفو عن الجريمة مطلقا من هذا القيد الذي فرضه الدستور الفرنسي على استخدام حق العفو فيما نصت عليه المادة 75 من الدستور من أنه "للأمير أن يعفو بمرسوم عن العقوبة أو أن يخفضها، أما العفو الشامل فلا يكون إلا بقانون وذلك عن الجرائم المقترفة قبل اقتراح العفو"، فإن القاعدة في تفسير النصوص الدستورية هي وجوب تفسيرها باعتبارها وحدة واحدة، فلا يجوز استخدام حق العفو عن العقوبة أو العفو الشامل عن الجريمة في قضية لا تزال منظورة أمام المحاكم، ولم يفصل فيها بحكم نهائي باتٍّ، لما ينطوي عليه ذلك من تدخل في سير العدالة والمساس باستقلال القضاء، وللحديث بقية في تفسير المادة 75 من الدستور التي قررت سلطة هذا العفو وفقا لدلالة عباراتها وألفاظها ومقاصد المشرع الدستوري بنصها، وهو تفسير يتوافق وأحكام المادتين (34) و(163) من الدستور في حماية العدالة وصون حق المتهم في محاكمة منصفة عادلة، فضلا عن التوافق مع أحكام المادة 162 مما نصت عليه من أن شرف القضاء، ونزاهة القضاة وعدلهم، أساس الملك وضمان للحقوق والحريات.

العفو حتى لو كان يشمل كل آثار الجريمة ورد الاعتبار القانوني للمتهمين فإنه لن يرد اعتبارهم الأدبي
back to top