«غرافيتي} الفقراء في مواجهة مونديال البرازيل

نشر في 15-06-2014 | 00:02
آخر تحديث 15-06-2014 | 00:02
رسم البرازيلي باولو إيتو (فنان شارع برازيلي) على جدار في أحد أحياء مدينة ساو باولو البرازيلية رسم غرافيتي لطفل يبكي، تبدو عليه علامات الفقر والجوع ويجلس على طاولة لتناول الطعام ولكنه لا يجد على الطبق أمامه سوى كرة قدم. كان هذا الرسم كافياً لإشعال قضية الفقراء في الوجدان، القضية الكبرى التي ما عادت تهمّ الإعلام كثيراً أمام الهوس بالمشاهير والقضايا الميديائية والباباراتزية ومنها الى نجوم كرة القدم وعشيقاتهم وثرواتهم وثيابهم وأنماط عيشهم وأماكن سكنهم، وحتى علاقاتهم الخاصة.
من غير قصد، حرَّك كأس العالم 2014 في البرازيل قضية الفقراء. أراد الرسام باولو إيتو أن يعبِّر عن معاناة فقراء الشعب البرازيلي الذي يرى جزء كبير منه أن الدولة تنفق مواردها بكثافة على تنظيم كأس العالم 2014، فى حين أنها تهمل المواطن العادي ولا تهتم بحقوقه وطرق عيشه.

جدارية {إيتو} وغيرها من رسوم غرافيتية تختصر الواقع البرازيلي في خضم المونديال، إذ اقترن التحضير لهذا الحدث في البرازيل وللمرة الأولى بمزيد من تظاهرات شعبية احتجاجية، لم تقتصر على العاصمة ريو دي جانيرو، بل امتدت إلى المدن البرازيلية الأخرى وشملت أوساطاً شعبية واسعة. وكان يتوقع أن تحصل إضرابات في البرازيل في اليوم الأول لافتتاح المونديال ولكن عمَّال مترو المدينة في سان باولو صوتوا ضد تجديد إضرابهم الذي هدّد بتعطيل تدفق الجمهور لمتابعة المباراة الافتتاحية لكأس العالم. فبعد إضراب استمر خمسة أيام شكَّل حالة من الفوضى في عاصمة البرازيل الاقتصادية حيث يقطن عشرون مليون نسمة، جاء تصويت عمال المترو الأربعاء الفائت بعدم التحرك مجدداً رغم عدم استجابة الحكومة لمطلبهم بإعادة توظيف 42 عاملاً تم فصلهم على خلفية الإضراب الأخير... كذلك كانت شهدت مدينة ساو باولو احتجاجات ضد الإنفاق الحكومي على كأس العالم الذي وصل إلى 650 مليار دولار، باعتبار أن ثمة أماكن فقيرة في البرازيل أشد احتياجاً لهذا المال. وذكرت تقارير صحفية برازيلية، أن رسوم الغرافيتي أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك، تويتر)، وألهبت سخط الفقراء في بلادها التي تشهد احتجاجات مندّدة بتنظيم المونديال الكروي، مشيرةً إلى أن بعض مواطنيها لا يتعدى أجره الشهري 30 أورو في حين أنفقت الحكومة أغلفة مالية ضخمة على تنظيم المونديال و{تدليل} لاعبي المنتخب، ووصلت القيمة إلى 11 مليار دولار.

وتطرقت رسوم غرافيتية كثيرة إلى الأزمة التي تسببها المونديال والإنفاق عليه، أبرزها صورة لفتى برازيلي يبكي من شدة الفقر في مقابل إنفاق الكثير على كرة القدم، ورسم يصور علم البرازيل وقد تم بيعه لأجل الانفاق على المونديال، وطفل يمسك بكأس العالم وينتظر أن يأتيه الطعام، فضلاً عن عبارة {سحقاً للفيفا} التي تكسو عربات المترو، ورسم يوضح تبادل الأموال الباهظة بين لاعبي المنتخب وبين مسؤولي الحكومة البرازيلية، ورسم يكشف عن تلقي الجوهرة السوداء بيليه أموالاً كثيرة نظير استضافة مونديال كأس العالم.

فقر وجوع

كلَّف المونديال مليارات في البرازيل مع أن المواطنين لا يريدون ملاعب كرة قدم، بل مستشفيات ومدارس وطرقات ونقلاً عاماً. وفي التظاهرات تُرفع شعارات مثل: {لدينا الحق في حياة أفضل أكثر مما لديكم أنتم الحق في الاستمتاع بكرة القدم على أرضنا}. ومن المثير للحنق والسخرية أن البرازيل حظيت بسبع سنوات للتحضير للمونديال وهي أطول مدة في تاريخ هذا الحدث. ووعدت الحكومة بأن التمويل سيأتي كاملاً من القطاع الخاص، لكن العكس حصل ودفعت الحكومة المال كله من ميزانية الدولة، أي من جيوب المواطنين. ووضعت السلطة البرازيلية يدها على نسبة شاسعة من أراضي الأحياء الفقيرة والمهمشة، وطردت كثيراً من السكان الذين عاشوا في كنفها لعقود طويلة، حيث اختفت في حملة التهجير الجماعية الصارمة، قرابة 490 عائلة من أحياء {كاماراجيت} وحدها وحلّ محلهم موظفون وعمال بناء الملاعب، وذلك بعدما وعدتهم السلطات بالحصول على تعويضات مالية مجدية تؤمن لهم العيش في مناطق أخرى، والتي لم يعوض منها سوى القليل بسبب الإهمال وأساليب البيروقراطية المملة والفساد الإداري، الأمر الذي أجج الاعتراضات والانتقادات الوطنية والحقوقية الدولية.

بشكل من الأشكال، لا تبدو فئة كبيرة من الشعب البرازيلي سعيدة بوجود كأس العالم على أرض بلادها، فهي تكاد لا تعرفها، فقد تغيرت قواعد اللعبة، وبالتالي تغير البرازيليون كثيراً، أمام معاناتهم المشاكل في التعليم والصحة والبنى التحتية وتدني الأجور، لذا لم تعد كرة القدم تشكل الهاجس الأهم،  يقول أحد اللاعبين في نادي «فلامنغو»: «ينبغي أن يجلب كأس العالم للبرازيليين ولكل الناس الذين يعيشون حول الملاعب الكثير من المكاسب والأهداف لبناء المستقبل. أعني، تشكيل برامج صحية فاعلة، وتحقيق تعليم أفضل. هذا هو الإرث الحقيقي، وليس فقط بناء ملاعب لا يستطيع الناس الذهاب إليها».

جورجي أمادو

 وكان لافتاً انتباه الكاتب المصري أشرب عبد الباقي، المهتم بثقافة كرة القدم إلى رأي الروائي البرازيلي جورجي أمادو في البرازيل وكرة القدم: {ولدت بين بشر نشاطهم الرئيس زراعة الكاكاو، يعانون سوء التغذية وعدم التوزيع العادل للثروات... لكنهم يحبون الحياة وكرة القدم}. جورجي أمادو الذي انشغل في أعماله الروائية بكرة القدم كجزء من حياة سكان العشوائيات التي عاش فيها، كان يرى عظمة البرازيل تسكن بين أقدام الموهوبين: {إننا شعب مخلوق لتلك اللعبة وهي مخلوقة لنا. هي تسلية الفقراء ومتعتهم. الفلاحون، عساكر الجيش، لاعبو الكرة، المجرمون هم أبطال رواياتي}. لكن ماذا كان سيكتب أمادو لو عاد إلى الحياة الآن، ماذا سيقول عن فقراء مدن الصفيح أو الفقراء الذين يحرمون من متابعة المونديال؟ ماذا سيقول عن كرة القدم الرأسمالية أو التجارية... هل مات عبق كرة القدم لصالح الهوس الاحتكاري والمالي؟

الصورة ملتبسة عن علاقة الفقراء بالمونديال وكرة القدم، وعلاقة البرازيليين بكرة القدم المعولمة. يشهد العالم تظاهرات ضد المونديال وثمة من يقول إن كرة القدم خبز الفقراء. في المقابل، سيمثل المونديال البرازيلي فرحة الحياة لملايين من الفقراء الذين يعيشون في مدن الصفيح في المرتفعات التي تحيط بريو دي جانيرو، والذين فضلوا ترك بيوتهم البسيطة لتأجيرها لزوار وسواح يزورون البرازيل لمشاهدة المونديال. وتعتبر هذه المبادرة حلاً لآلاف ليس بمقدورهم الحصول على غرف في الفنادق التي تحولت إلى جحيم بسبب قفز الأسعار بشكل جنوني.

القضية لا تتعلق بالمنشآت الرياضية الضخمة وتداعياتها على الشعب البرازيلي فحسب، إذ بات الحصول على تذاكر لحضور المونديال أحد الأحلام الصعبة أو شبه المستحيلة، وذلك بعدما تسببت المافيا التي تضارب في السوق السوداء في مضاعفة الأسعار بصورة غير مسبوقة وبلغت 10 أضعاف السعر الطبيعي. وصرَّح نجم كرة القدم البرازيلية السابق وأبرز المهاجمين الهدافين في تاريخ كرة القدم روماريو، عبر أحد برامج القنوات الفضائية البرازيلية، حول الأنشطة المحمومة ضد فقراء البلاد، بأن ما يحدث عبارة عن {خزي وعار} تتحمل مسؤوليته السلطة البرازيلية والاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، الذي اتهم رئيسه السويسري جوزيف بلاتر، بسرقة أموال فقراء البرازيل، بسبب إصراره على فرض أسعار باهظة على تذاكر المباريات، التي لا بد، بحسب روماريو، من أنها تثقل كاهل الفقراء والمهمشين، الذين يفضلون مشاهدة المباريات مباشرة في الملاعب.

احتكار

حتى متابعة المونديال عبر شاشات التلفزة باتت قضية شائكة في ظل احتكار نقل مباريات المونديال من قناة {بي إن سبورت} القطرية التي اشترت واحتكرت حقوق بث مباريات كأس العالم لكرة القدم أعوام 2014 في البرازيل، و2018 في روسيا، و2022 في قطر، لتواصل بذلك احتكارها للبطولة الأكثر مشاهدة في العالم حتى عام 2022، وهي سبق لها أن بثت النسخة الماضية من البطولة ذاتها عام 2010، والتي أقيمت في جنوب أفريقيا. وفي لبنان، عاش الجمهور على أعصابه بانتظار أن يجد طريقة لمشاهدة المباريات وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي طرق شرعية وغير شرعية توصل المواطنين لمشاهدة المباريات، وثمة من لجأ إلى المقاهي والملاهي لمتابعة المباريات كأنه يتابع فيلماً سينمائياً ويدفع بدله، في وسط بيروت والحمرا ومناطق أخرى، فيما نصب بعض أصحاب المقاهي شاشات عملاقة في الساحات. وانتظر البعض من عشاق البقاء في المنزل، أن تتكرَّم قطر على اللبنانيين بالمشاهدة المجانية كما حصل في مرات سابقة ولكن الانتظار باء بالنكسة والحسرة، وخلا المشهد هذه المرة من عبارة {شكراً قطر}.

قرصنة

دخلت جماعات {الهاكر} على خط المواجهة والبلبلة، إذ هددت مجموعة {أنونيموس} العالمية، المتخصصة في اختراق المواقع الإلكترونية، بالهجوم على القناة الرياضية القطرية والتشويش عليها، وتدمير موقعها الإلكتروني الرسمي. وعزا قراصنة {أنونيموس} الدولية تهديداتهم إلى احتكارها نقل مباريات كرة القدم في البرازيل، وحرمان ملايين الفقراء من الاستمتاع بمشاهدة المباريات.

ودعا {الأنونيموس} العرب إلى استخدام {هاشتاغ} محدد للتعبير عن غضبهم تجاه تصرفات القناة، قبل أن يحذروا القناة القطرية من جدية تهديداتهم وترداد شعارهم المعروف {نحن الفيلق، نحن لا نغفر، نحن لا ننسى}.

حتى في أوروبا ثمة طيف أزمة، فقد كسبت Zdf الألمانية وهي إحدى أهم القنوات التلفزيونية الأوروبية، القضية المرفوعة ضدها من قنوات {بي إن سبورت}، حول بثها مجاناً مباريات نصف نهائي لدوري أبطال أوروبا ونهائي رابطة الأبطال لكرة القدم، التي طالبت القناة القطرية بتشفيرها، حيث رفضت القناة الألمانية ذلك. واستطاعت من خلال طريقة قانونية أن تبث المباراة لجمهورها بحسب ما نقلت الوكالات.

هكذا دخلت المستديرة الساحرة في فم الوحش الرأسمالي، وباتت أضخم سلعة موسمية تجارية يتحكم فيها بعض الرأسماليين ويجني منها أرباحاً طائلة.

تسليع

سرق الأغنياء لعبة كرة القدم، اللعبة الشعبية الأولى في العالم ولعبة الفقراء الذين ليس بإمكانهم مشاهدة لعبتهم المفضلة اليوم والاستمتاع بمباريات كأس العالم إلا بواسطة {باقة} القنوات.

لم تعد القضية تتعلق بأموال طائلة تهدر في سبيل منشآت ضخمة في وقت يعاني الملايين من المواطنين الحرمان والفقر والتشرد، بل إن القضية وصلت إلى تسليع حتى مشاهدة المباريات، وصارت حكراً على من يدفع ثمن التشفير. وعلى هذا، لم يكن غريباً أن نجد الكثير من رسوم الغرافيتي التي تندد بمسار المونديال في البرازيل، ولم يكن غريباً أن تقوم التظاهرات ضد المونديال في البلد المضيف، فكأن المونديال أصبح في يد مافيا ولا علاقة {وطنية} للبلدان التي تستضيفه به، أو كأن المواطنين يعيشون غربة عن هذه اللعبة بسبب الجشع في الاحتكار والرأسمالية {المتوحشة}. هكذا الكرة التي كانت لعبة الفقراء أو يلعبها الفقراء في الزواريب والأحياء الهامشية والريفية، بدءاً بـ{كرة الجوارب}، وانتهاء بالكرة المطاطية أو البلاستيكية أو الجلدية، أصبحت منجماً للثراء غير المحسوب، فعدا الشركات الاحتكارية والأندية، تحسب ساعة اللاعب الأرجنتيني ليونال ميسي بعشرات آلاف الدولارات، ومثله مئات اللاعبين الذين يمضون عقوداً خيالية ولكنها في الواقع تشبه الإذلال لهم وتشوِّه منطق كرة القدم... هي لعبة الفقراء أصلاً، لكن زمن الاستهلاك جعلها أشبه بسباق الأحصنة للمراهنات والاحتكارات، ونجومها أدوات للقمار. وربما فقدوا متعة التسلية بلعبتهم أمام المخيلة المالية والأجساد المازوشية. سباق أحصنة عالمية، لكن الأحصنة هذه المرة من فصيلة البشر...

أصرّت الحكومة البرازيلية على تنظيم كأس القارات 2013 ومونديال 2014 وأولمبياد 2016، في حين طالب بعض السياسيين ونشطاء الجمعيات المدنية بتوجيه الاهتمام إلى الجانب الاجتماعي على غرار ملفات العمل والسكن والعلاج والبيروقراطية والفساد. يبلغ عدد سكان البرازيل 202.6 مليون نسمة (2014). يتوزعون عمرياً على النحو التالي: 0-14 عاماً: 23,8%، 15-24 عاماً: 16.5%، 25-54 عاماً: 43.7%، 55-64 عاماً: 7.6%، 65 عاماً فما فوق: 7%. ومنه يتبين إن نسبة من هم في سن العمل تصل إلى 67.8% من مجموع السكان، علماً بأن نسبة النمو السكانية السنوية تبلغ 0.8%. وسكان البرازيل يتوزعون بنسبة 87% حضر و13% ريف، ويتقاسم اللإناث والذكور عدد السكان تقريباً. وتشير المعلومات المتوفرة إلى إن 107.3 مليون نسمة هم من القوى العاملة (2013)، وأن نسبة البطالة الرسمية تصل إلى 5.7% في العام 2013. وتشير الأرقام الرسمية أيضاً إلى أن معدل حصة الفرد من السكان من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2013 بلغ 12100 دولار أميركي، وإن مديونية البرازيل الخارجية بلغت في العام نفسه 475.9 مليار دولار أميركي. ووفق المعلومات العامة المتوافرة فإن نسبة البطالة في البرازيل تبلغ أكثر من الرقم الرسمي بكثير، وهي تشمل خصوصاً الجزء الأسمر من الشعب البرازيلي الذي تبلغ نسبته 43.1% من مجموع السكان، في حين تصل نسبة البيض 47.7%، والسكان الآسيويين 7% على وفق إحصاء العام 2010.

وأطلقت الحكومة البرازيلية خطة للقضاء على الفقر الشديد الذي يعانيه حوالى‏ 16,2 مليون شخص في البرازيل بحلول عام ‏2014، وهم الذين لا يتمتعون بأي برامج ضمان اجتماعي راهناً‏. ‏وتحمل الخطة اسم {البرازيل بدون فقر مدقع}، وكانت نسبة التضخم في البرازيل حتي عقد تتجاوز المعدلات المقبولة مع انتشار الفقر والمجاعة والبطالة‏،‏ وخلال عقد تحققت أكثر من معجزة يرجع الفضل فيها إلى الرئيس السابق لولا دي سليفا، من بينها السياسة المتوازنة بين البرامج الاجتماعية للأسر الفقيرة والاتجاه إلى التصنيع لأجل التصدير اعتماداً على عدد كبير من الشركات العملاقة.

back to top