نصوص دستورية تغلّفها رطانة ووعود مجانية وأخرى تبيح أحزاباً دينية وتقيد الحريات `

نشر في 05-08-2013 | 00:01
آخر تحديث 05-08-2013 | 00:01
المادة (44) التي تحظر الإساءة للأنبياء مستحدثة بهدف مغازلة الإسلاميين
ينظر كثير من الباحثين إلى الوثائق الدستورية العربية باعتبارها وعوداً مرائية بالحقوق والحريات والممارسات الديمقراطية يقصد من ورائها خداع مواطني الشعوب العربية والمراقبين الأجانب ومحاولة إخفاء ملامح سلطة الحكم المطلق وتمويهها خلف ستار دستوري مخملي زاهي الألوان. إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للدساتير التي يتم كتابتها في الظروف الاعتيادية، فما بالنا بالأوضاع الاستثنائية والحرجة التي جرى فيها كتابة الدستور المصري الاول للجمهورية الثانية في مصر، لذا فإن الأمر استلزم قراءة متأنية ومتعمقة لنصوص ذلك الدستور الذي يحلو لكثيرين تسميته بـ«دستور الإخوان»، وهو ما قام به الخبير الدستوري الدكتور محمد طه عليوة في دراسة أجراها للدستور المصري الجديد 2012، وتنشرها الجريدة على أربع حلقات، واستعرض فيها الظروف والملابسات التي جرى فيها صياغة الدستور وإعداده وسلبياته وإيجابياته والتداعيات والمخاطر التي انطوت عليه بعض الصياغات التي فتحت الباب لوجود مساحات مطاطية رمادية يمكن ملئها مستقبلاً بنصوص تلاقي أهواء تيارات إسلامية بعينها. 

وفي ختام دراسته يخصص الخبير الدستوري د. عليوة حلقته الأخيرة لوضع تصوراته لمقترحات وتعديلات يتعين إجراؤها لتلافي أوجه القصور والعوار التي شابت صياغة دستور «الإخوان».

تأتي المادة الخامسة من باب "الدولة والمجتمع" لتعادل المادة (3) من دستور 1971 وتنص على أن "السيادة للشعب يمارسها ويحميها ويصون وحدته الوطنية، وهو مصدر السلطات، وذلك على النحو المبين في الدستور"، مع تقديم وتأخير في الصياغة، وهي معيبة في الحالتين إذ كان يكفي القول بأن السيادة للشعب وهو مصدر السلطات. فالمادة ترد في الدساتير أصلاً لتأكيد أن الشعب هو السيد، وهو مصدر السلطات وليس الملك ولا الكهنة.

والمادة (6) من دستور 2012 تحدد أسس النظام السياسي بأنه "يقوم على مبادئ الديمقراطية والشورى، والمواطنة التي تسوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات العامة، والتعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان وحرياته وذلك كله على النحو المبين في الدستور. ولا يجوز قيام حزب سياسي على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدين".

 

إشكالية المساواة

 

والمادة فيها تضمين لعدة مواد من دستور 1971، منها المادة (40) التي كانت تنص على أن "المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة"، ومنها المادة (64) التي كانت تنص على أن "سيادة القانون أساس الحكم في الدولة"، والمادة (5) الخاصة بالأسس التي تقوم عليها الأحزاب. 

ونص المادة (40) في الدستور القديم أفضل في الإشارة إلى عدم التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو الدين أو العقيدة. 

وجاءت إضافة الشورى إلى جوار الديمقراطية في نص المادة (6) للجمع بين أصل من أصول الدولة الحديثة وما درج الإسلاميون على المطالبة به من استخدام اللفظة المعادلة للديمقراطية في تاريخنا. 

أما المواطنة "التي تساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والحريات العامة"، فكان يكفي النص أن يقول إن النظام السياسي يقوم على المواطنة والمساواة، باعتبارهما أصل كل الحقوق والحريات الأخرى في النظام الدستوري الحديث. وما زاد على ذلك فرطانة لفظية هدفها تجنب استخدام لفظة المساواة، ربما لما يعتقده فريق من واضعي الدستور من أن المسلم والذمي والعلماني والملحد لا يستوون أبداً.

 

إباحة المحظورات

 

أما ما أوردته المادة من أسس الحياة السياسية والحزبية "التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان وحرياته"، فهي من أسس النظم السياسية والدستورية الحديثة التي لا خلاف عليها.

أما الفقرة الأخيرة من المادة التي تحظر قيام حزب سياسي على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدين، فقد حلت محل المادة (5) من دستور 1971 التي عدلت في استفتاء 2007 لتنص على أنه "لا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أساس أي مرجعية أو أساس ديني، أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل"، فأباحت المادة السادسة من الدستور الجديد قيام الأحزاب على أساس المرجعية الدينية وأصبح الأساس الديني مباحاً بعد أن كان محظوراً.

أما المادة (7) التي نصت على أن "الحفاظ على الأمن القومي والدفاع عن الوطن وحماية أرضه، شرف وواجب مقدس والتجنيد إجباري وفقاً لما ينظمه القانون"، فجزء منها يقابله نص المادة (58) من الباب الثالث من دستور 1971 "الدفاع عن الوطن وأرضه واجب مقدس والتجنيد اجباري وفقاً للقانون"، وأضيف إليه الحفاظ على الأمن القومي، وجعل الجندية شرف، وهي إضافات بلاغية يشملها النص دون ذكرها بمقتضى الضرورة.

 

الباب الثاني: "الحقوق والحريات"

 

في ما يتعلق بالباب الثاني الخاص بـ"الحقوق والحريات"، فيجب النظر إليه على ضوء أن الدور الرئيسي للدستور، بوصفه القانون الأسمى في الدولة الذي تعلو أحكامه على القواعد القانونية جميعها، هو أن يعَرف سلطات الدولة ويحدد لكل منها صلاحياتها، ويحوطها بسياج من حماية حقوق المواطنين. 

والجهة التي يمكن اللجوء إليها لإعمال أحكام الدستور قسراً هي المحكمة الدستورية العليا التي يتم اللجوء إليها للفصل في دستورية القوانين واللوائح، ورقابتها رقابة إلغاء... وليست ولاية تقرير أو إلزام، فعندما يصدر قانون يتعارض مع الحقوق المحمية بالدستور يمكن ان تبطله المحكمة، ولكن إن قصرت الحكومة في حماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية كانت ساحات العمل السياسي هي مجال محاسبتها.

 

شطط التيارات

 

وقد اتسم الباب الثاني من الدستور الجديد في فصله الأول (الحقوق الشخصية)، والثاني (الحقوق المدنية والسياسية)، والرابع (ضمانات الحقوق والحريات) بصياغات أكثر إحكاماً وانحيازاً للحريات ومعاداة لتقييدها، بالنظر إلى أنه (رغم ملابسات تشكيل اللجنة التي وضعته) كان نتاج ثورة أطاحت بحكم استبدادي، كان واضعو الدستور من التيارات الإسلامية أبرز ضحايا قمعه الشرس، وإن كان ذلك قادهم إلى نوع من الشطط في تفصيل النصوص وتضمينها أحكاماً ليس موضعها الدستور، بل القانون، وأحياناً اللوائح، إلى حد يصعب على من يلتزم بتلك الأحكام أن يدير الدولة، وهذا بالفعل ما كشفت عنه ممارسة "الإخوان" للسلطة خلال الفترة الوجيزة التي أعقبت وضع الدستور.

أما الفصل الثالث (الحقوق الاقتصادية والاجتماعية) فقد كان مجالاً خصباً لكل الوعود والأمنيات الطيبة في كل المجالات ولكل الفئات باعتبارها وعوداً مجانية تسمح لكل حالم أن يعيش فيها حلمه. 

ومن العجيب أن كثيراً من نقاشات شباب الثورة وجمعيات حقوق الإنسان والحركات النسوية كانت منصبة على هذا الفصل، في حين أنه لا يعدو كونه وعوداً والتزامات أخلاقية أو في حدها الأقصى سياسية، موضعها برامج الأحزاب وسياسات الحكومات، تقاس شعبيتها ويحكم على نجاحها وفشلها بمقدار ما تنجزه منها.

 

دور العبادة 

 

وهناك بعض المواد في باب "الحقوق والحريات" التي صيغت بشكل يهدف إلى إسباغ بعض السمات الدينية على الدستور بما يجاوز الحد الذي عرفته الدساتير المصرية السابقة. ومن ذلك المادة (43) من الفصل الثاني (الحقوق المدنية والسياسية) التي تنص على أن "حرية الاعتقاد مصونة. وتكفل الدولة حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة للأديان السماوية". وذلك على النحو الذي ينظمه القانون". وتقابلها المادة (46) من دستور 1971 التي كانت تنص على أن "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية"، ورغم أن النص القديم قد خلا من أن حرية ممارسة الشعائر هي لاتباع الديانات السماوية الثلاث حصراً فقد استقر قضاء المحكمة الدستورية ومجلس الدولة على ذلك، وأضافت المادة (43) أن الدولة تكفل أيضاً إقامة دور العبادة للأديان السماوية، ويحتمل النص القول بأن الدولة تتحمل تكلفة إقامة دور العبادة، ولكن الأرجح أن المقصود أن الدولة تسمح بذلك الحق وتحميه. والكنائس المسيحية هي المقصودة بتلك الإضافة، لما كان يثيره بناؤها من مشكلات، وإن كان ذلك يرجع إلى تخلف الوعي وتدني الثقافة وعزف بعض الدعاة الإسلاميين على وتر الاحتقان الطائفي، وقانون البناء يكفي في هذا الشأن دون حاجة إلى تضمينه في الدستور، لأن الأساس هو التنوير وترقية الوعي والثقافة.

 

مغازلة المسلمين

 

ومن ذلك أيضاً المادة (44) التي تنص على أن "تحظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة"، وهي مستحدثة، ولا تعني أكثر من مغازلة المسلمين والمزايدة على المظاهرات التي كانت تندلع بين حين وآخر للاحتجاج على إساءات تقع بالفعل (أو تقدم إلى الجمهور المحتقن بفعل أزماته المعيشية وبؤسه الفكري على أنها كذلك) ضد النبي "صلى الله عليه وسلم" في بعض دول أوروبا حيث حرية تناول الأديان أوسع بكثير مما لدينا، ولا تملك الدولة المصرية شيئاً حيالها لأن لا سلطان لها خارج حدودها. 

والمواد (98 و160 و161) من قانون العقوبات التي تعاقب على ازدراء الأديان أو تعطيل شعائرها أو الإساءة لرموزها أكثر فاعلية في هذا الباب، لأنها مقترنة بعقوبة ولأنها هي التي تملك المحاكم المصرية تطبيقها على ما يدخل في ولايتها من جرائم. وهي تمثل الحل الذي أخذت به الدولة الحديثة (التي لا تعتنق ديناً وتحترم جميع الأديان) لمواجهة مثل تلك الإساءات من منطلق حماية مشاعر اتباع الديانات كافة من المساس بمقدساتهم. وقد وضعت أحكام القضاء في مصر والسوابق القضائية الحدود الواضحة لما يعتبر إساءةً إلى الأديان أو ازدراء بها. 

 

مخاطر الخلط

 

أما في الفصل الرابع "ضمانات الحقوق والحريات"، فهناك مادتان تسترعيان الانتباه، أولهما الإضافة الواردة في المادة (76) من الدستور الجديد، والتي تقابل المادة (66) من دستور 1971، التي كانت تنص على أن "العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون"، فجاءت المادة (76) من الدستور الجديد بتعديل لصياغة الجملة الثانية من المادة لتصبح "... ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص دستوري أو قانوني..." وفي هذا خطأ وخطر، لأن قانون العقوبات بمعناه الواسع، أي قانون العقوبات والنصوص التي تتضمن عقوبات في أي قانون آخر، هو الذي يحدد الجرائم وعقوباتها، بمعنى أنه يحدد أركان الجريمة، ونموذجها التشريعي، والعقوبة المقررة لها، وليست مواد الدستور مما تحتمل بطبيعتها نصوص التجريم والعقاب. والمقصود من الإضافة أن تكون مواد الدستور، وبشكل محدد الشريعة الإسلامية بوصفها المصدر الرئيسي للتشريع وبتفسيرها المنصوص عليه في المادة (219)، مصدراً مباشراً للتجريم والعقاب مما يفتح الباب لتطبيق الحدود الشرعية. 

وقد جاء ترك قانون العقوبات المصري الحدود الشرعية لمصلحة العقوبات الوضعية، نتيجة تطور طويل استند في بداياته على حق ولي الأمر في فرض العقوبات التعزيزية، اتساقاً مع تطور قانون العقوبات من جهة، وما يحيط تطبيق الحدود، بما يتطلبه من يقين بوقوع الجرم، من قيود شديدة قد تجعل تطبيقها متعذراً من جهة أخرى. 

 

تأويلات محتملة

 

في ختام تناولنا لهذا الفصل نشير إلى المادة (81) من الدستور الجديد، وهي مستحدثة ولا مقابل لها في دستور 1971، وقد جرى نصها بأن "الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً ولا انتقاصاً، ولا يجوز لأي قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها. وتمارس الحقوق والحريات بما لا يتعارض مع المقومات الواردة في باب الدولة والمجتمع بهذا الدستور".

وبينما جاءت الفقرتان الأوليان من المادة إضافة محمودة، وإن كانت ترداداً لقاعدة مستقرة في أحكام المحكمة الدستورية منذ أمد بعيد، فقد جاءت الفقرة الثالثة لتنقض ذلك، بل وتنقض كل ما ورد في باب "الحريات والحقوق"، بأن فرضت عليها قيداً مستمداً من مقومات "الدولة والمجتمع" الواردة في الدستور، التي تفتقر للتحديد القانوني، وتتسع- بعد إضافات المتأسلمين إليها- لتأويلات تسمح بوأد أغلب الحريات، سيما منها ما يتصل بحرية الفكر والإبداع، وبفرض قيود ذات طبيعة دينية على ممارسة الحريات كافة.

 

back to top