حين تصبح الدبكة عنوان الهوية اللبنانية... انتقلت من مسرح الريف إلى التلفزيون

نشر في 10-03-2013 | 00:01
آخر تحديث 10-03-2013 | 00:01
No Image Caption
في كل عرس أو حفلة في المشرق العربي، يسارع الناس إلى مواكبة الفرح من خلال ما يسمى «حلقة دبكة» يصطف فيها الراقصون إما على شكل صف أو على شكل قوس أو دائرة، ويدبكون بطريقتهم، ولا يحتاج الراقصون إلى كثير من الموسيقى بل يكفيهم شخص يحمل دربكة (طبلة) أو مجوزاً ليضبط إيقاع خطواتهم. وتتميز «الدبكة» بكثرة حركاتها وخطواتها وهي تختلف طبقاً للموسيقى المؤداة وتقام في الأعراس والحفلات والأعياد وغيرها، سواء كان ذلك في المدينة أو في الريف. ويبقى فحواها الرئيس الحفاظ على التراث.
النافل أن الدبكة رقصة جماعية، فيها يذوب الفرد في الجماعة، وينخرط الجسد الفرد في الجسد الجماعي. يقود الرقصة أول الراقصين، ويحدد عموماً منحى الرقصة، ويؤدي عادة حركات إضافية تظهر مهارته ورجولته. تنشد خلال الدبكة الأغاني الشعبية الشهيرة كـ{الدلعونا» و{ظريف الطول» و{الهوارة» و{الميجانا»، وهي ليست أغان ثابتة بل على الأكثر لازمات معروفة ومن أغاني الحداء وهو نوع من أنواع الزجل.

 ورغم أن الدبكة هي الرقصة المشتركة لأرياف المشرق العربي وشرق أوروبا، إلا أنه يصعب الحديث عن دبكة لبنانية أو سورية أو فلسطينية أو أردنية أو عراقية، فالدبكة لها مشهدية مشتركة عموماً وفي الخصوص لكل منطقة أو عشيرة أو اثنية رقصتها وطقوسها، بدءاً بعشيرة آل دندش في البقاع مروراً بأهل حوران في سورية وصولاً إلى الأكراد في القامشلي. ولا ننسى رقصات أبناء البترون في جبل لبنان، وقد أحصي أكثر من 10 أشكال منها.

يلاحظ أن دبكة الناس العاديين تختلف عن تلك التي تقدمها الفرق المحترفة، فإذ كانت الأولى تقوم على متعة الحركة للراقصين أنفسهم وتثير الملل لدى المتفرج، فالثانية تكون أكثر سرعة وحيوية وتنوعاً ومخصصة لترفيه لجمهور، وهذا ما يتجلى في فرقة «كركلا» الشهيرة وذات الطابع الشعبي والفرق المحلية اللبنانية وهي كثيرة، وباتت توظف مهاراتها في حفلات الأعراس وحتى في بعض الحفلات أو الفيديو كليبات الغنائية كما هي حال فرقة «هياكل بعلبك» التي ينتمي أعضاؤها إلى آل صلح في بعلبك، وشاركت في كليبات لنانسي عجرم وعاصي الحلاني وملحم زين، (تتميز الدبكة البعلبكية بتوقيع الخطوات وسرعة الحركة وقوة الخبطة). في مشاركات لبنان في معظم المهرجانات الفنية والثقافية في بعض البلاد العربية، تعتمد وزارة الثقافة اللبنانية فرقاً عدة، أبرزها: «برجا للفنون»، «الفرسان للفنون الشعبية»، «أصايل»، «موليا للرقص الشعبي»، و{فهد العبد الله للرقص الشعبي»...

مراحل التبدل

بين الدبكة كطقس شعبي يمتد إلى الزمن الوثني وبين الدبكة كفرق فنية محترفة تقدم عروضها في المهرجانات والحفلات جوانب ينبغي التطرق إليها، تبين مراحل التبدل والتحول التي طرأت على مسار الدبكة وطقوسها. يروي الباحث اللبناني كمال ديب في كتابه «بيروت والحداثة» (صدر عن دار «النهار») أن في عام 1956، دعت اللجنة الوطنية اللبنانية للآونيسكو الخبير الروسي (السوفياتي السابق) في الرقص الشعبي إيغور موزاييف وفرقته إلى بيروت لتقديم عرض راقص. وأعجبت زلفا شمعون (زوجة الرئيس الراحل كميل شمعون) كثيراً بالعرض إلى درجة أنها كلفت موزاييف وفرقته بزيارة المناطق اللبنانية، خصوصاً الريفية منها، فقدم تقريراً للجنة في بيروت كشف انحداراً كبيراً في الفولكلور اللبناني وأن الناس خارج بيروت وفي الأرياف بدأوا «يتمدنون» ويتركون الملابس التقليدية ويرتدون ملابس المدينة، ويستمعون إلى الراديو الذي يبث الموسيقى العصرية والأغاني المصرية ويهملون أغانيهم القروية من الزجل والأناشيد ويتركون الإيقاع الراقص. وأكد الخبير الروسي على أن الدبكة، شأنها شأن سائر الرقصات البدائية، بطيئة ورتيبة وتكرارية فقد حذر، في عملية تطويرها، من مغادرة التقاليد، معتبراً أن التجديد لا يمكن أن ينجح إلا إذا كانت التقاليد قاعدته الراسخة. وأولى موزاييف أهمية خاصة للالتزام بارتداء الثياب الفلولكورية خلال أداء الرقصات، لأنها تعزز من الوظيفة الإغرائية التي تمارسها الألوان في الرقص.

كانت نصيحة موزاييف أنّ على لبنان تأسيس فرقة محترفة للرقص الشعبي تقدم الرقص بأسلوب راق ومتطور وفني، على أن تحفظ الحركات والخطوات الأصلية الريفية كافة في أعمالها، وأن يرى الجمهور اللبناني أنها حافظت على الخطوات التقليدية، وأن تكون أعمالها انعكاساً للأصالة الريفية التي هي منطلق ثقافة الشعب وتراثه.

أخذت اللجنة الفرعية للفكلور اللبناني، المنبثقة عن لجنة مهرجانات بعلبك، تقرير موزاييف بمنتهى الجدية وأوفدت الراقصين مروان ووديعة جرار إلى مدرسة موزاييف في روسيا. وعاد الراقصان بعد فترة يحملان مهارات رقص انتشرت في لبنان وأدت الى تأسيس فرق الرقص الشعبي وفتحت مجالات لم تكن متوافرة سابقاً لنبش وتطوير الدبكة وغيرها من فنون الرقص.  

تحتاج الدبكة إلى دراسات مطولة باعتبار أنها منتشرة في البلدان المشرقية كافة، وكل بلد له أغانيه وطريقته المختلفة نسبياً في الرقص. ولكن ما يمكن قوله إنه قبل مجيء الأخوين رحباني وفيروز، لم تكن «دبكة لبنان» موجودة، بل كانت كل منطقة تمارس أشكالاً متنوعة من هذا النوع من الرقص بحسب المناسبة، وهذا ما يشير إليه فواز طرابلسي في دراسته «رقصة الدبكة، طقوس وتحولات». ولا يعني ذلك أن منطقة أو بلدة معينة لم ولن تتعلم رقصات منطقة أخرى، لكن ببساطة لم تكن فكرة دبكة لبنانية قياسية أو نموذجية معروفة آنذاك. وهو بالضبط ما خلقه في ما بعد الأخوان رحباني.

بالتعاون مع عائلة جرّار، قدّم الأخوان رحباني نسخاً لبنانيّة مختلفة من الدبكة في أعمالهم القليلة الأولى. كتب الباحث جان الكسان: أصبح الفولكلور بين أيدي الرحابنة شيئًا آخر، ذلك أنهم تجاوزوا الفولكلور اللبناني وابتكروا فولكلوراً أكثر تطوراً... غسلوه، طوّروه، نمّوه، وجعلوه رحبانيّاً خالصاً. أخذوا عطايا الفولكلور من مصادره الأوليّة: أنغامه وإيقاعاته، وأحيوه مجدداً. أو يمكن القول إنهم أدركوا الوجدان الفولكلوريّ العميق، قبضوا على الوجدان الشعبيّ، الجمعيّ والتاريخيّ، وأطلقوه إلى فضاء جديد، فضاء مفتوح على الإمكانات الإبداعيّّة كافة. لم يبقَ الفولكلور مع الرحابنة، خصوصاً عاصي، مادة ثابتة وببغائية، بل تحوّل إلى كائن حيّ ينمو ويتطور، يتفرّع ويرتفع.

وبينما كان الرحابنة مأخوذين بعفوية الدبكة بين «الفلاحين»، كانوا أيضاً واعين بحدّة لضرورة صقلها. يُنقل عن الرحبانيين قولهما عن موضوع التدريب: الباليه ليست مجرد مسألة خطوات... والمشكلة مع الفلاح أنه لا يعرف كيف يتمرّن».

كواليس

اللافت أن الدبكة، أو الفولكلور اللبناني عموماً لم يولد في مهرجانات بعلبك بسهولة على عكس ما يشاع، فقد حصلت قصص في الكواليس لها معانيها ودلالاتها. كان جوهر الصراع بين لجنة مهرجانات بعلبك والرحابنة، بحسب كمال ديب، على ماذا سيكون وجه لبنان الثقافي في ما بعد، ذلك المرتبط بأوروبا وحضاراتها بشكل سافر أم الذي يستند الى التراث اللبناني ويستعير أدوات الغرب في التعبير الفني والثقافي؟ فمنذ البداية، اعترضت عضوات لجنة مهرجانات بعلبك، ليس على الأخوين رحباني وفيروز فحسب بل عما إذ كان مقبولاً من الأساس إضافة فقرة فلكلورية شعبية إلى المهرجان الذي يجب أن يحتفظ بنكهته العالمية. يقول منصور الرحباني إن لجنة المهرجان دعت الأخوين رحباني إلى اجتماع في ربيع 1957 في وقت كان الجميع يعلم أن المهرجان سيقتصر على أعمال أوروبية من مسرح وأوبرا ورقص باليه. ولكن زلفا شمعون كانت قد قررت إضافة فقرة «الليالي اللبناني» إلى أعمال المهرجان. وكان الاجتماع مع سيدات اللجنة في مكتب وزير الداخلية حبيب أبو شهلا، حيث اتضح أن عضوات اللجنة لم يكن متحمسات لفكرة شمعون، ولكنهن احترمن إرادتها وحضرن الاجتماع لرفع العتب... ولكن تبين لاحقاً أن نجاح المهرجان برمته أو فشله كان متوقفاً على الرحابنة. فقد فاق حضور «الليالي اللبنانية» أي عمل عالمي آخر، فكان ريع العمل الفيروزي الرحباني يغطي نفقات استقدام الفرق الأجنبية عبر السنين. ويفسر انقلاب موقف لجنة المهرجان رأساً على عقب من الرحابنة من الشك والتردد إلى الإيجابية والحماسة بعد السنة الأولى. ولكن بعد عام على النجاح الذي حققته «موسم العزّ» عام 1960، اكتشف الأخوان رحباني أن لجنة مهرجان بعلبك كان لها بعض التحفّظات على مسرحيتهما الغنائية البعلبكية، والتي تدور قصتها حول العلاقة بين فتاة (تؤدي دورها فيروز) من بلدة بعلبك وآلهتها، لأنها كانت أكثر ميثولوجية منها فولكلورية.

في العام التالي، عاد الرحابنة إلى طرائقهم الفولكلورية مع مسرحية «جسر القمر». في العام الذي تلاه، قدّموا مسرحية «الليل والقنديل»، التي لا تقلّ عنها فولكلورية، على مسرح «كازينو لبنان». وفي العام الذي بعده فوّتوا مهرجان بعلبك أيضاً بعدما طلبت إليهم وزارة الخارجية تقديم شيء في «مهرجان الأرز» لذلك العام، والذي تصادف مع لقاء للمغتربين اللبنانيين. هنا قدّموا مسرحية «بيّاع الخواتم» العالية في فولكلوريتها، وقد وُصفت بـ «تاج» المراحل المبكرة في مسيرة الرحابنة المسرحية الغنائية بحسب الباحث كريستوف ستون في كتابه «الثقافة الشعبية والوطنية في لبنان: وطن فيروز والرحابنة (2007)، في الوقت الذي كان فيه الأخوان رحباني يصلان ذروتهما الفولكلورية، كانت ثمة علامات على أن هذه الموضة (أي الفولكلور)، التي ساعدا في زيادة شعبيتها، بدأت تتراجع.

ليست الدبكة مقتصرة على لبنان بل هي الرقصة الشعبية أيضاً في فلسطين وسورية والعراق، كما هي الرقصة الشعبية لتركيا والأكراد ودول البلقان، كاليونان ومقدونيا وصربيا، وبعض دول أوروبا الشرقية كروسيا ورومانيا وبلغاريا. عندما زار الرحابنة لندن للمرة الأولى سنة 1962، جاء من خبراء الكوريوغرفيات من نصحهم بأن رتابة الدبكة وكثرة التدبيك بالأقدام فيها لا يستسيغها الجمهور البريطاني. فعمد الرحابنة إلى خفض عدد الدبكات في البرنامج إلى حده الأدنى وأسلبوا ما تبقى منه، حاذفين الكثير من دبكات الأرجل على الأرض. على أن رد الفعل كان لافتاً، إذ لاحظ أكثر من ناقد فني أنه لم يشاهد في الرقصة اللبنانية ما يميزها عن رقصات بلاد البلقان. على هذا، ثمة التباس في أصل الدبكة. تقول الباحثة شريفة زهور إن أسلوب الرقص الذي يتضمن الركل ومد الفخذ إلى الأمام وحتى الصيحات السريعة التي يطلقها بعض الراقصين، ليس من تراث المشرق ولكنه أنتشر بكثرة في الأعمال الاستعراضية على المسرح في لبنان وسورية وفلسطين والأردن منذ أوائل الستينيات. ومصدر هذا الأسلوب المستحدث تراث أوروبا الشرقية وانتشر بفضل نشاط روسيا في المنطقة.

فولكلور حديث

بمنأى عن أصل الدبكة وفصلها، يذكر الباحث اللبناني فواز طرابلسي في دراسته عن الدبكة أنه مع نمو عمليّة رسلمة المجتمع اللبنانيّ، خصوصًا بعد الاستقلال، «نزلت» الدبكة من الريف إلى المدينة، ونزحت مع من نزح من أهالي الريف في عمليّة التمايز الاجتماعي المتسارعة والمرتبطة بنمو القطاع التجاريّ – الماليّ والسياحي وتوسعه. خلف النازحون في الريف الأرض تبور فيها الزارعة وتنحسر وظيفتها الإنتاجية لصالح الوظيفة السكنية - الاستهلاكية. خلال تلك العملية، ولد الفولكلور بمعناه الحديث، بما هو عملية إحياء للثقافة الشعبية على المستوى الوطني العام. فانتقلت الدبكة من الحقل والبيدر إلى المسرح ومن ساحة القرية إلى استوديوهات الإذاعة والتلفزة والملاهي الليلية. لم تعد الدبكة رقصة أبناء الأرياف وحدهم، يؤدونها بالسليقة أباً عن جد، صار يؤديها راقصون محترفون درسوها في المعاهد. و{تدريجاً، صارت لازمة من لازمات الاحتفالات الوطنية».

سياحة

لم تجد وزارة السياحة اللبنانية في الزمن الراهن إلا الدبكة لتكون عنواناً لها للسياحة. في أحد الإعلانات التلفزيونية تعلو فجأة أغنية «الهوارة» للفنان الراحل آلان مرعب في مطار رفيق الحريري، لنشاهد تفاعل النّاس معها وتتحوّل أرض المطار الى مسرح دبكة لبنانيّة، تؤدّيها مجموعة من الشباب والشابات، فينضمّ إليهم بعض الأخوان العرب والأجانب، كما المضيفات وقباطين الطائرات، إضافة الى الأطفال وكبار السنّ، وسط دهشة الناس. بمعنى آخر، أكتسبت الدبكة باعتبارها من الفولكلور وظيفة جدية وأكيدة، هي المساهمة في بناء «الهوية» الوطنية اللبنانية، مع كل ما تنطوي عليه من إشكالات والتباسات، وباتت العنوان الأبرز لإثارة الحنين إلى ريف يندثر، وإلى لبنان. كذلك أصبحت الدبكة عنواناً للفرح في المدراس أو حفلات التخرج، أو صارت خاتمة السهرات التي يستهلك فيها آخر الصراعات والمستحضرات الغربية، واجتاحت الدبكة على أيقاع أغاني علي الديك ومحمد اسكندر وملحم زين وفارس كرم وعاصي الحلاني ونجوى كرم أفخم المنتجعات، حيث نساء يرتدين أحدث الأزياء بعيداً عن الفولكلور يتسابقن إلى الدبكة على «الوحدة ونص».

وعدا عن الكليبات، دخلت الدبكة الأفلام السينمائية.

وفي ولوج الدبكة دائرة الموضة، تمكن مهاجرو لبنان في كندا من إدخال رقصتهم الشعبية «الدبكة» إلى موسوعة «غيني للأرقام القياسية»، بعدما تمكن اتحاد الطلبة اللبنانيين في مونتريال من دخول عقد أطول حلقة دبكة في العالم، والتي بلغ عدد المشاركين فيها 4475 شخصاً، فعلى أنغام «راجع يتعمر لبنان» وبأجواء حافلة بالحماسة وبآهات الحنين الى الوطن، اشتبكت أيادي الكبار والصغار ورقصوا الدبكة لمدة خمس دقائق كانت كفيلة بإدخالهم التاريخ.

ورغم أن الدبكة دخلت موسوعة «غينس» وامتزجت بثقافة الحداثة، لكنها ما زالت تحمل دلالات بدائية كثيرة. في مسرحية «شي فاشل»، استعار الفنان زياد الرحباني النزاع القروي المألوف في الدبكة ليصور النزاع السياسي بين الطوائف. تروي المسرحية قصة فرقة رقص شعبي تتمرن استعداداً لاحتفالات القرية فينفرط عقدها بسبب الخلاف الذي ينشب بين أعضائها حول «من يمسك رأسا» في الدبكة!

وأكثر من مرة طالعتنا الأخبار اللبنانية بأن قتيلاً سقط وعدد من الجرحى بسبب خلاف على الدبكة في أحد الأعراس اللبنانية، وعلى هذا راج البيتان التاليان:

اذا اختلفنا على دبكتنا -  مين بعد قادر على صلحتنا

على دلعونا كانت صحبتنا - وعابوز المدفع صارت دلعونا.

back to top