التاريخ والملحمة

نشر في 16-06-2013
آخر تحديث 16-06-2013 | 00:01
 آدم يوسف يبدو التاريخ في بعض حالاته موضوعا ملائما للخطاب الإبداعي، بجميع صنوفه، شعرا، ورواية، ومسرحا، فقراءة التاريخ وبرغم ما تتضمنه من جمود معرفي، وسرد مرحلي مجرد، فإنها حافز جيد لإثارة المخيّلة الإبداعية، ولذلك نقرأ مقولات من قبيل أن التعمّق في التاريخ يضيف أعماراً إلى عمر الإنسان، وذلك باطلاعه على تجارب الأمم السابقة.

إلا أن السؤال هنا يتعلّق بمدى تمسك الكاتب بمصداقية الحدث التاريخي، في مقابل إتاحة المجال لانطلاق المخيّلة، سواء على مستوى الشخوص في الرواية، وكذلك الحدث، والمكان، أو حتى الزمان، ومعروف أن بنية العمل الإبداعي تتيح المجال لانطلاق المخيلة، أو إعادة توجيه مجريات الحدث ضمن الإطار ذاته، عن طريق التقديم أو التأخير، أو "المبالغة" الإبداعية في رسم الشخوص، وكلها من الأمور التي تثير جدلا فكريا في حال كان الحديث منصبا على "الرواية التاريخية".

أما في ما يتعلّق بالشعر فإننا نجد السرد التاريخي قائما في إطار الشعر الملحمي، الذي لا يخلو هو الآخر من مبالغة إبداعية، و"تمدد" في النص الشعري إلى حد يبلغ "التناسل" في بعض حالاته، فـ"الإلياذة والأوديسة، وكذلك الفردوس المفقود، والشاهنامه والمهابهارتا، وغيرها من الملاحم الأخرى، العربية تحديدا، والمتمثلة في عنترة بن شداد وسيرة بني هلال... إلخ. كلها لم تَرْسُ على رواية واحدة، أو نص حتمي، خال من الزيادة أو المبالغة، والأمر ذاته ينطبق على نصوص "الحماسة" العربية التي تُنظم في إطار الحروب، وباستثناء المبالغة في الفخر، نحن أمام سؤال جوهري يتعلّق بمدى مصداقية هذه النصوص، ودقتها، في ظل ما توارد إلينا بشأن "تدخلات" الرواة، وإضافاتهم الشعرية على النص الأصلي، وبعض هؤلاء الرواة، هو أكثر شاعرية من شاعر الملحمة ذاته، كما أن الإطار التاريخي لتعريف الملحمة بدأ يتّسع، ولم يعد قائما على الملاحم العالمية المعروفة للجميع، بل اتّسع ليشتمل العديد من النصوص الدينية المطوّلة، التي تأتي في إطار مديح الحسين رضي الله عنه، أو آل البيت، وثمة نصوص أخرى لتسجيل السيرة النبوية و"التأريخ" لبطولاتها.

ولم تعد تلك الحروب القائمة على "التحام" الجيشين متاحة في عصرنا، وإن كان هذا الالتحام مبرراً أو منطلقاً معقولاً لإطلاق مسمى ملحمة على هذه النوعية من النصوص. وكذلك فإن الحنين إلى القديم، وإعادة إذكاء الخطاب المحفز لروح القبيلة والطائفة والدين، الذي نشهده في أيامنا هذه مبرر قوي هو الآخر لإعادة إحياء هذه النصوص ضمن إطار الخطاب الإبداعي العربي ذاته، بعيدا عن الواقع المجتمعي في الثقافة الغربية التي تجاوزت هذه المرحلة منذ أمد بعيد، فالقصائد الملحمية المطوّلة التي تُردد في مناسباتنا المختلفة لم تعد مجرد طقوس مكانية أو زمانية، بقدر ما هي حاجة "روحية" ماسة، لرفع المعنويات.

 لنتأمل مثلا "انبعاثات" المضمون في القصيدة الشعبية العربية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، تحديداً الفترة التي سبقت ظهور النفط في المنطقة، إذ تخلّقت لدينا قصائد ملحمية تختص بقبائل بعينها، مرتبطة عادة بحدث قتالي بقصد التأريخ للبطولات، أو حدث آخر يتعلّق بالحكمة، والشهامة، وأصبح الرواة من أبناء القبيلة يتداولون هذه النصوص التي هي بمنزلة ملحمة خاصة، لا تخلو من الحنين وفي الوقت ذاته فإنها حافز معنوي للشعور بالفخر.

ويبقى أن النص المسرحي هو الأكثر ديناميكية في تقبل التعديل والمبالغة الإبداعية، إذ إننا أمام عناصر جديدة لم تكن مألوفة في النصوص السابقة، فخشبة المسرح، وكذلك تأثيرات الإضاءة، والموسيقى، والأزياء، جميعها عناصر مساعدة لتحفيز المخيّلة، وصنع "الفرجة" الممتعة، بعيدا عن عنصر "مصداقية" الحدث، الذي يتفاوت هنا، فيما يتعلّق بمقاربة الواقع، فهناك عناصر، أو "مشتركات" تاريخية لا يمكن إغفالها فيما يتعلّق بالسمات الرئيسية للشخصية المحورية في الحدث، بينما هناك أحداث وشخصيات مكمّلة، تمنح مساحة أكبر للتحرّك وصنع المفارقة الإبداعية.

back to top