قاسم سليماني... رجل الظل وصاحب القرار يُمسك بالأدوات والمصائر في الشرق الأوسط (1-2)

نشر في 28-09-2013 | 00:04
آخر تحديث 28-09-2013 | 00:04
عندما يظهر قاسم سليماني علنية (يلقي خطابًا في مناسبة لقدامى الحرب أو يلتقي خامنئي)، لا يحاول البروز وقلما يرفع صوته. أخبرني مسؤول عراقي بارز سابق: {إنه قصير القامة، إلا أنه يتمتع بحضور مذهل. يكون في الغرفة عشرة أشخاص، وعندما يدخل سليماني، لا يأتي ويجلس معك، بل يجلس وحده بكل هدوء في الجهة المقابلة من الغرفة. لا يتكلّم ولا يعلّق. يكتفي بالجلوس والإصغاء. لذلك يبدأ الجميع التفكير به}. {ذي نيو يوركر} ألقت الضوء على القائد الإيراني الذي يعيد صياغة الشرق الأوسط ويوجِّه حرب بشار الأسد في سورية.
في شهر فبراير الماضي، اجتمع بعض أهم القادة الإيرانيين في مسجد أمير المؤمنين في شمال شرق طهران داخل مجمع مسوّر مخصص لضباط حرس الثورة. قدِم هؤلاء القادة لتشييع رفيق لهم سقط أخيرًا. كان حسن شاطري أحد المسؤولين المخضرمين في حروب إيران السرية في أنحاء الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وقائدًا بارزًا في فيلق القدس، فرع النخبة في حرس الثورة. تشكّل هذه القوة إحدى أدوات السياسة الخارجية الإيرانية الحادة، وهي تعادل مزيجًا من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والقوات الخاصة. يعود اسمها إلى الكلمة الفارسية لمدينة القدس، التي وعد مقاتلوها بتحريرها. منذ عام 1979، كان هدفها التصدي لأعداء إيران وتوسيع نفوذ هذه الدولة في الشرق الأوسط. أمضى شاطري الجزء الأكبر من مسيرته في الخارج، أولاً في أفغانستان ومن ثم في العراق، حيث ساعد فيلق القدس الميليشيات السنّة على قتل الجنود الأميركيين.

قُتل شاطري قبل فترة على الطريق الممتد من دمشق إلى بيروت. قصد القائد سورية مع الآلاف من أعضاء فيلق القدس بغية إنقاذ رئيسها المحاصر بشار الأسد، الذي يُعتبر حليفًا أساسيًّا لإيران. في السنوات القليلة الماضية، عمل شاطري كرئيس لفيلق القدس في لبنان مستخدمًا اسمًا مستعارًا. فساهم في دعم حزب الله المسلح، الذي كان يوم تشييع شاطري قد بدأ بإرسال الرجال إلى سورية للقتال إلى جانب النظام. ظلت ظروف مقتله غامضة: ذكر أحد المسؤولين الإيرانيين أن {النظام الصهيوني (كما اعتاد الإيرانيون وصف إسرائيل) استهدف مباشرة} شاطري.

خلال مراسم الدفن، راح المشيعون يبكون، فيما أخذ البعض الآخر يضرب الصدور، كما يفعل الشيعة عادة. كان نعش شاطري ملفوفًا بالعلم الإيراني. وقد تحلّق حوله قائد حرس الثورة الذي كان يرتدي زيًّا أخضر، عضو شارك في التخطيط لقتل أربعة من قادة المعارضة المنفيين في أحد مطاعم برلين عام 1992، ووالد عماد مغنية، أحد قادة حزب الله الذي يُعتقد أنه مسؤول عن تفجيرات أودت بحياة أكثر من 250 أميركي في بيروت عام 1983. اغتيل مغنية عام 2008 على يد عملاء إسرائيليين، حسبما يُفترض. في ثقافة الثورة الإيرانية، تشمل خدمة الوطن الموت. وقبل تشييع شاطري، أدلى آية الله علي خامنئي، القائد الأعلى في إيران، بعبارة مديح: {شرب في النهاية كأس الشهادة العذبة}.

محور الممانعة

بين الراكعين في الصف الثاني على أرضية المسجد المغطاة بالسجاد كان اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، وهو رجل قصير القامة في السادسة والخمسين، شعره أبيض، لحيته مشذبة جيدًا، وعيناه تشعان تحفظًا وحذرًا. وسليماني هو مَن أرسل شاطري، صديق قديم يثق به، إلى حتفه. فبما أنهما من قادة حرس الثورة، انتمى سليماني وشاطري إلى فرق صغيرة تشكّلت خلال «الدفاع المقدس»، اسم أُطلق على الحرب الإيرانية-العراقية التي اندلعت بين عامَي 1980 و1988 وأدت إلى مقتل نحو مليون شخص. صحيح أن تلك الحرب كانت مريعة، إلا أنها وسمت، بالنسبة إلى إيران، بداية مشروع دام ثلاثة عقود وهدف إلى بناء محور نفوذ شيعي يمتد عبر العراق وسورية وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط. فمع حلفائها في سورية ولبنان، تشكّل إيران محور الممانعة الذي يتصدى للغرب وللقوى السنية المهيمنة في المنطقة. ولكن في سورية، لا يزال هذا المشروع معلّقًا. وكان سليماني يخوض معركة شرسة، حتى لو شمل ثمن النصر اندلاع حرب طائفية تلف المنطقة طوال سنوات.

تسلم سليماني قيادة فيلق القدس قبل نحو 15 سنة. وسعى منذ ذلك الحين إلى إعادة صياغة الشرق الأوسط بما يتناسب مع مصالح إيران. فعمل كوسيط داعم وقوة عسكرية. وشملت مناوراته اغتيال الخصوم، تسليح الحلفاء، وتوجيه شبكة من المجموعات المقاتلة، طوال عقد تقريبًا، لقتل مئات الأميركيين في العراق. كذلك فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على سليماني للدور الذي أداه في دعم نظام الأسد ورعاية الإرهاب. رغم ذلك، ظل بعيدًا عن النظر، بالنسبة إلى العالم الخارجي، حتى خلال توجيه العملاء وإدارته العمليات. أخبرني جون ماغواير، مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية خدم في العراق: «يُعتبر سليماني الناشط الأكثر نفوذًا في الشرق الأوسط اليوم».

خلال التشييع كان سليماني يرتدي سترة وقميصًا أسودين من دون ربطة عنق وفق الطراز الإيراني. وكان الألم باديًّا بوضوح على وجهه الطويل النحيل وحاجبيه المقوسين. فلم يسبق أن خسر فيلق القدس مسؤولاً كبيرًا مماثلاً في الخارج. في اليوم الذي سبق المأتم، توجه سليماني إلى منزل شاطري ليقدّم واجب العزاء إلى عائلته، فهو شديد التعلّق بالجنود الشهداء، ويزور غالبًا عائلاتهم. قال في مقابلة أخيرة معه في إحدى وسائل الإعلام الإيرانية: {عندما أرى أولاد الشهداء، أرغب في تنشق رائحتهم. فأفقد السيطرة على نفسي}. فيما تتالت مراسم التشييع، انحنى سليماني والمشيعون إلى الأمام ووضعوا جباههم على السجادة. ثم ذكر الإمام علي رضا بناهيان: {رحل أحد الرجال القلائل الذين أحضروا الثورة والعالم بأسره إليكم}. فشبك سليماني يديه ووضعهما على رأسه وراح ينوح.

مرحلة سيئة

شكّلت الأشهر الأولى من عام 2013، نحو الفترة التي قُتل فيها شاطري، مرحلة سيئة بالنسبة إلى التدخل الإيراني في سورية. فكان الأسد يخسر المناطق باستمرار أمام تقدّم الثوار، الذين ينتمون بغالبيتهم إلى السنة، خصوم إيران. وإن سقط الأسد، فستفقد إيران صلة الوصل بينها وبين حزب لله، قاعدتها المتقدّمة في صراعها ضد إسرائيل. ذكر ملا إيراني في أحد خطاباته: {إن خسرنا سورية، فلن نتمكن من حماية طهران}.

صحيح أن الإيرانيين يعانون أوضاعًا خانقة بسبب العقوبات، التي فرضتها الولايات المتحدة كي تمنع النظام من تطوير سلاح نووي، إلا أنهم بذلوا قصارى جهدهم لإنقاذ الأسد. ومن بين ما قدّموه منحوا الأسد قرضًا بقيمة سبعة مليارات دولار لدعم الاقتصاد السوري. أخبرني مسؤول أمني في الشرق الأوسط: {لا أظن أن الإيرانيين يحسبون هذه المسألة بالدولارات، بل يعتبرون خسارة الأسد خطرًا يهدد وجودهم}. أما سليماني، فاعتبر إنقاذ الأسد مسألة فخر، خصوصًا أنها تعني التميّز عن الأميركيين. أخبرني قائد عراقي سابق: {أكد لنا سليماني أن الإيرانيين سيقومون بكل ما هو ضروري. قال: نحن مختلفون عن الأميركيين. لا نتخلى عن أصدقائنا}.

طلب سليماني السنة الماضية من القادة الأكراد في العراق السماح له بفتح طريق إمداد عبر شمال العراق إلى سورية. فطوال سنوات، ضغط سليماني على الأكراد ورشاهم ليتعاونوا معه. لكنهم رفضوا طلبه هذه المرة. والأسوأ من ذلك أن جنود الأسد رفضوا القتال. وعندما حاربوا، قتلوا المدنيين عمومًا، ما دفع الشعب إلى دعم الثوار. قال سليماني لأحد السياسيين العراقيين: {الجيش السوري عديم الفائدة}. كان يتوق إلى الباسيج، تلك الميليشيا الإيرانية التي سحق مقاتلوها الانتفاضة الشعبية ضد النظام عام 2009. ذكر: {أعطني لواء واحدًا من الباسيج لأغزو البلد بأسره».

وفي شهر أغسطس عام 2012، أسر الثوار المناهضون للأسد 48 إيرانيًّا داخل سورية. فاحتج القادة الإيرانيون على عمل مماثل، مدّعين أنهم من الحجاج الذين يأتون للصلاة في مقام شيعي مقدّس. لكن الثوار ووكالات الاستخبارات الغربية أكدوا أنهم من فيلق القدس. في مطلق الأحوال، كان هؤلاء الإيرانيون بالغي الأهمية، حتى إن الأسد وافق على إطلاق أكثر من ألفي شخص من الثوار كان قد أسرهم بغية تحريرهم. ومن ثم قُتل شاطري.

أخيرًا، اضطر سليماني نفسه إلى السفر باستمرار إلى دمشق ليتولى شخصيًّا الإشراف على التدخل الإيراني. قال لي مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية: «يدير سليماني الحرب بنفسه». يُقال إنه يعمل في دمشق من موقع قيادة محصّن بشدة في مبنى لا يثير الشبهات، حيث يجمع عددًا من المسؤولين المتعددي الجنسيات: رؤساء الجيش السوري، قائد من حزب الله، ومنسق لأعمال الميليشيات الشيعية العراقية، التي عبّأها سليماني وحضها على المشاركة في القتال. وبما أن سليماني لم يستطع الحصول على لواء من الباسيج، رضي بالبديل الأفضل: العميد حسين الحمداني، نائب قائد الباسيج سابقًا. يُعتبر الحمداني، رفيق أخر من رفاق الحرب الإيرانية-العراقية، متمرسًا بإدارة نوع الميليشيات غير المنتظمة التي كانت إيران تحشدها بغية مواصلة القتال في حال سقط الأسد.

في أواخر السنة الماضية، بدأ المسؤولون الغربيون يلاحظون تزايدًا كبيرًا في رحلات الإمداد الإيرانية إلى مطار دمشق. فصارت الطائرات الإيرانية تقصده كل يوم، بدل بضع مرات في الأسبوع، حاملةً السلاح والذخيرة {بالأطنان}، حسبما أخبرني المسؤول الأمني في الشرق الأوسط. كذلك كانت تنقل ضباطًا من فيلق القدس. عمل هؤلاء الضباط، وفق مسؤولين أميركيين، على تنسيق الهجمات، تدريب الميليشيات، وتأسيس نظام معقّد، هدفه مراقبة اتصالات الثوار. كذلك أرغموا مختلف فروع أجهزة الأسد الأمنية (المصممة للتجسس أحدها على الآخر) على التعاون معًا. ذكر المسؤول الأمني في الشرق الأوسط أن عدد ناشطي فيلق القدس، فضلاً عن رجال الميليشيات الشيعية العراقية الذين أحضروهم معهم، بلغ الآلاف. وأضاف: {انتشروا في مختلف المناطق السورية}.

بلغت الحرب السورية نقطة تحوّل بارزة حين سيطر الثوار على بلدة القصير السورية قرب الحدود اللبنانية. وبغية دحرهم منها، كان على سليماني الاتصال بحسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، ليرسل أكثر من ألفَي مقاتل. لم تكن هذه عملية سهلة. تقع القصير على مدخل وادي البقاع، الممر الرئيس لنقل الصواريخ والمواد الأخرى إلى حزب الله. وإن أُقفل، سيصعب على الحزب الاستمرار. سليماني ونصر الله صديقان قديمان. فقد تعاونا طوال سنوات في لبنان وفي أماكن كثيرة حول العالم حيث نفّذ ناشطو حزب الله مهمات عسكرية بطلب من إيران. يذكر ويل فولتون، خبير في الشأن الإيراني في معهد {أميركان إنتربرايز}، أن مقاتلي حزب الله طوّقوا القصير، قاطعين كل الطرق، ثم هاجموها. قُتل العشرات منهم، فضلًا عن ثمانية ضباط إيرانيين على الأقل. وفي الخامس من يونيو، سقطت المدينة. يذكر ماغواير، الذي لا يزال ناشطًا في المنطقة: {تولى سليماني الإشراف على العملية بأسرها، وشكّلت انتصارًا كبيرًا بالنسبة إليه}.

رؤية خامنئي

تبدو الحكومة الإيرانية مجزأة. وثمة شخصيات كثيرة محيطة بخامنئي تساهم في صياغة السياسة الخارجية، مثل قادة حرس الثورة، كبار الملالي، ومسؤولي وزارة الخارجية. إلا أن سليماني أعطي مطلق الحرية ليُطبّق رؤية خامنئي. أخبرني مير داغان، الرئيس السابق للموساد: {يملك روابط مع كل زاوية من زوايا النظام. يتمتع بما أدعوه ذكاء سياسيًّا لأنه يقيم علاقات مع الجميع}. يصفه المسؤولون بأنه يؤمن بالإسلام والثورة. صحيح أن الكثير من كبار القادة في حرس الثورة كدّسوا الثروات من خلال سيطرة الحرس على أهم الصناعات الإيرانية، إلا أن سليماني حصل على ثروة شخصية كهبة من القائد الأعلى. لذلك يوضح ماغواير: {يحصل على كثير من الرعاية والدعم}.

على مرّ السنين، بنى فيلق القدس شبكة أصول دولية، بعضها مستمد من الإيرانيين في المهجر، الذين يمكن الاستعانة بهم لدعم المهمات. أخبرني مسؤول أمني آخر في الشرق الأوسط: «ينتشر هؤلاء في كل مكان». ففي عام 2010 شن فيلق القدس وحزب الله، وفق مسؤولين غربيين، حملة جديدة ضد أهداف أميركية وإسرائيلية كرد مزعوم على الجهود السرية الرامية إلى إبطاء برنامج إيران النووي، والتي شملت هجمات عبر الإنترنت واغتيال مجموعة من العلماء النوويين الإيرانيين.

منذ ذلك الحين، نظّم سليماني اعتداءات في أماكن بعيدة، مثل تايلاند، نيودلهي، لاغوس، ونيروبي (ما لا يقل عن ثلاثين اعتداءً خلال السنتين الماضيتين فقط). ولعل أفظعها خطة في العام 2011 لاستخدام عصابة مكسيكية تتاجر بالمخدرات بهدف تفجير السفير السعودي إلى الولايات المتحدة حين كان يتناول الطعام في مطعم على بعد كيلومترات قليلة من البيت الأبيض. ولكن تبيّن أن رجل العصابات الذي لجأ إليه عميل سليماني كان مخبرًا لإدارة مكافحة المخدرات الأميركية (يبدو أن فيلق القدس أكثر فاعلية في إيران ومحيطها، وخصوصًا أن عددًا من خططه في دول بعيدة أخفق). رغم ذلك، قال مسؤولان أميركيان سابقان للجنة تابعة للكونغرس إن من الضروري اغتيال سليماني، رغم فشل المؤامرة. ذكر أحدهما: «نراه في كل مكان. نالوا منه. حاولوا اعتقاله أو اقتلوه». أما في إيران، فوقّع أكثر من مئتي شخصية بارزة رسالة تنديد تدافع عنه. وقد أعلنت حملة في مواقع التواصل الاجتماعي: «كلنا قاسم سليماني».

توقف عدد من المسؤولين في الشرق الأوسط، أعرف بعضهم منذ عقد، عن الكلام عندما أثرت موضوع سليماني. قال مسؤول كردي في العراق: {لا نريد التدخل مطلقًا في هذا الموضوع}. وبين الجواسيس في الغرب، يبدو أنه يُدرج في خانة خاصة به. فيُعتبر عدوًّا يكن له كثيرون الكره والإعجاب في آن. إنه نظير شرق أوسطي لكارلا، الجاسوسة السوفياتية الماهرة في روايات جون لو كاريه. عندما اتصلت بداغان، رئيس الموساد السابق، وطرحت اسم سليماني، ساد الصمت للحظات. ثم قال بسخرية واضحة: {آه! صديق عزيز}.

عشية رأس السنة الإيرانية في مارس عام 2009، قاد سليماني مجموعة من قدامى محاربي الحرب الإيرانية-العراقية إلى نتوء صخري أجرد على الحدود العراقية. في عام 1986، شهد الموقع الكثير من المعارك المريعة للسيطرة على شبه جزيرة الفاو، حيث لقي آلاف الرجال حتفهم من دون التقدّم خطوة. يظهر في شريط سُجّل خلال هذه الزيارة سليماني وهو يقف على قمة جبل. فيروح يروي لرفاقه القدماء المعركة التي شارك فيها. يتحدث  بصوت رقيق فيما تُسمع في الخلفية موسيقى وصلوات.

يذكر سليماني، مشيرًا إلى الوادي تحته: {هذه طريق دشت عباس. كانت هذه المنطقة تفصل بيننا وبين العدو}. وقف سليماني والمجموعة بعد ذلك على ضفاف جدول ماء، حيث راح يقرأ بصوت عالٍ أسماء مَن سقطوا من الجنود الإيرانيين، فارتجف صوته من شدة التأثر. خلال استراحة قصيرة، تحدث إلى صحافي قابله، وراح يصف له القتال بعبارات شبه خيالية: {ساحة القتال جنة البشر المفقودة، جنة تبلغ فيها الأخلاق والسلوك الإنساني ذروتهما. يتخيل الإنسان عادة جنة فيها جداول ماء وعذارى حسناوات ومروج الغضة. ولكن ثمة نوع آخر من الجنات: ساحة القتال}.

انتفاضة شعبية

عندما كان سليماني في الثانية والعشرين من عمره عام 1979، أطاحت الانتفاضة الشعبية التي قادها آية الله روح الله الخميني باسم الإسلام بالشاه. فتأثر سليماني بالحماسة التي سادت تلك الفترة وانضم إلى حرس الثورة، قوة أسستها القيادة الدينية الجديدة في إيران لتمنع الجيش من تنفيذ انقلاب. ومع أنه لم يتلقَّ تدريبًا واسعًا (دورة دامت نحو 45 يومًا على الأرجح)، تقدّم بسرعة. وحين كان سليماني حارسًا شابًّا، أُرسل إلى شمال شرق إيران، حيث ساهم في سحق انتفاضة الأكراد.

بعد نحو ثمانية عشر شهرًا على انطلاق الثورة، أمر صدام حسين جيشه باقتحام الحدود الإيرانية، آملاً في استغلال الفوضى العارمة في الداخل. ولكن بدلاً من ذلك، عزز الغزو قيادة الخميني ووحد البلد للتصدي لهذا الاعتداء. وهكذا بدأت حرب خنادق عنيفة. أرسل سليماني إلى الجبهة بمهمة بسيطة: مدّ الجنود هناك بالماء. إلا أنه لم يرحل حتى النهاية. ذكر: {دخلت الحرب بمهمة مدتها خمسة عشر يومًا، غير أنني بقيت هناك حتى نهايتها}. تُظهر صورة التُقطت آنذاك سليماني الشاب وهو يرتدي بزة خضراء لا تحمل أي رتب وعيناه تحدقان في الأفق البعيد. أخبر سليماني أحد الصحافيين عام 2005: {كنا كلنا شبانًا نرغب في خدمة الثورة}.

ذاعت شهرة سليماني بسبب شجاعته واندفاعه، خصوصًا بسبب المهمات الاستطلاعية التي نفذها وراء الخطوط العراقية. وقد عاد من مهمات عدة حاملاً معزاة كان جنوده يذبحونها ويشوونها. أخبرني ضابط سابق في حرس الثورة هرب إلى الولايات المتحدة: {حتى أعداؤنا العراقيون أعجبوا بجرأته هذه}. وهكذا صار سليماني يُعرف عبر الإذاعة العراقية بـ{سارق الماعز}. يتحدث ألفونيه عن مدى فاعليته، قائلاً إنه عُيّن مسؤولاً عن لواء من كرمان ضم رجالاً من النوادي حيث اعتاد حمل الأثقال.

لحقت بالجيش الإيراني خسائر كبيرة، فاضطر قادته إلى اللجوء إلى تكتيكات قاسية ومكلفة. في هجمات «الموجة البشرية»، أرسلوا آلاف الشبان مباشرة إلى الخطوط العراقية للتخلص من حقول الألغام أحيانًا. نتيجة لذلك ارتفعت حصيلة الجنود القتلى بسرعة كبيرة. بدا سليماني شديد التأثر بخسارة هذه الأرواح البشرية كافة. فقبل إرسال رجاله إلى المعركة، كان يعانق كل واحد منهم ويودعه. وفي خطاباته، كان يشيد بالجنود الشهداء ويطلب منهم الغفران لأنه لم يستشهد هو أيضًا. وعندما أعلن مسؤولوه عن خططهم لمهاجمة شبه جزيرة الفاو، رفضها لأنها في رأيه متهورة وغير مدروسة. يتذكر ضابط حرس الثورة السابق أنه التقى بروحاني عام 1985 بعد معركة عانى فيها لواؤه الكثير من القتلى والجرحى. رآه جالسًا وحده في زاوية خيمة. يذكر هذا الضابط: «كان صامتًا يفكر في مَن فقدهم».

قُتل أحمد، القريب الشاب الذي سافر مع سليماني إلى كرمان، قُتل عام 1984. وتعرض سليماني نفسه لإصابة مرة على الأقل. رغم ذلك، لم يفقد حماسته لعمله. في ثمانينيات القرن الماضي، كان راوول مارك غيريشت ضابطًا شابًّا في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مقره في اسطنبول، حيث حاول تجنيد العملاء من آلاف الجنود الإيرانيين الذين قصدوا المدينة للتعافي. أخبرني غيريشت، الذي كتب الكثير عن إيران: «صادفت مجموعة واسعة من حراس الثورة. كان بعضهم من الملالي، في حين قدِم البعض الآخر إلى هذه المدينة لأجل الترويح عن النفس، فتيات الهوى، والشرب». قسّم غيريشت قدامى الحرب هؤلاء إلى فئتين، قائلاً: «ثمة المحطمون والمستنفدون بأعينهم الفارغة، رجال مدمرون. وثمة المتحمسون الذين تشع أعينهم حماسة وشوقًا للعودة إلى الجبهة. أدرج سليماني ضمن الفئة الثانية».

راودت راين كروكر، السفير الأميركي إلى العراق بين عامَي 2007 و2009، مشاعر مماثلة. فخلال حرب العراق، اضطر كروكر أحيانًا إلى التعامل مع سليماني بطريقة غير مباشرة من خلال القادة العراقيين الذين ما انفكوا يتنقلون من طهران وإليها. سأل كروكر ذات مرة أحد هؤلاء القادة عما إذا كان سليماني متديّناً جدًّا. فكان الجواب وفق كروكر: «لا ليس كثيرًا. يذهب إلى المسجد بين الحين والآخر. إلا أن الدين لا يحفّزه، بل القومية وحب القتال».

الحرب العراقية الإيرانية

تعلّم القادة الإيرانيون العبر من الحرب العراقية الإيرانية. ولعل أبرزها واقع أن إيران محاطة بالأعداء القريب منهم والبعيد. فقد اعتبر النظام أن هذا الغزو لم يكن مؤامرة عراقية بقدر ما كان مؤامرة غربية. فكان المسؤولون الأميركيون مطلعين على تحضيرات صدام لغزو إيران عام 1980. وزودوه لاحقًّا بمعلومات عسكرية استخدمها في اعتداءاته بالأسلحة الكيماوية. حتى إن الأسلحة بحد ذاتها صُنّعت بمساعدة شركات أوروبية غربية. ولا شك في أن ذكرى هذه الاعتداءات مرّة جدًّا. يوضح مهدي خلجي، باحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: {هل تعرف كم شخصًا ما زال يعاني تأثيرات الأسلحة الكيماوية؟ آلاف الجنود السابقين. ويعتقد هؤلاء أنهم استُهدفوا بأسلحة غربية مُنحت لصدام}. عام 1987، هوجمت فرقة بقيادة سليماني خلال إحدى المعارك مع الجيش الإيراني بقذائف مدفعية تحتوي على أسلحة كيماوية، فعانى أكثر من مئة من رجاله تأثيراتها.

أما العبرة الثانية التي استمدتها إيران من حربها مع العراق فكانت عبثية القتال وجهًا لوجه. فبعد أن طرد الإيرانيون القوات العراقية عام 1982، أمر الخميني رجاله بمواصلة الحرب وتحرير العراق والمضي قدمًا حتى القدس. وبعد ست سنوات أخرى ومقتل مئات الآلاف، قبِلَ بوقف لإطلاق النار. يذكر ألفونيه أن جنرالات كثيرين من جيل سليماني يعتقدون أن كان بإمكانهم النجاح في هذه المهمة لو أن الملالي لم يتراجعوا. يقول: {يشعر عدد كبير منهم أنهم طعنوا من الخلف. وقد أذكوا هذه الخرافة طوال ثلاثين سنة تقريبًا}. إلا أن القادة الإيرانيين أرادوا وقف إراقة الدماء. عوضًا عن ذلك، سعوا إلى بناء القدرة على شن حرب غير متوازنة، مهاجمين القوى الأكبر بطريقة غير مباشرة خارج إيران.

شكّل فيلق القدس الأداة المناسبة. أعدّ الخميني نموذجًا عن هذه القوة عام 1979 بهدف حماية إيران وتصدير الثورة الإسلامية. وجاءت فرصته الكبيرة الأولى في لبنان. أُرسل ضباط حرس الثورة إلى هذا البلد عام 1982 للمساعدة في تنظيم ميليشيات شيعية في الحرب الأهلية اللبنانية المتعددة الأطراف. فأدت هذه الجهود إلى تأسيس حزب الله، الذي نما تحت التوجيه الإيراني. وساهم قائد حزب الله الذكي والعنيف، عماد مغنية، في تشكيل ما صار يعرف بجهاز الأمن الخاص، جناح في حزب الله يرتبط ارتباطًا لصيقًا بفيلق القدس. وبدعم من إيران، ساهم حزب الله في تنظيم اعتداءات على السفارة الأميركية وثكنات الجيشين الأميركي والفرنسي في لبنان. يذكر ديفيد كريست، مؤرخ للجيش الأميركي ومؤلف كتاب The Twilight War (حرب الشفق): {في المرحلة الباكرة حين كان حزب الله يعتمد كليًّا على المساعدة الإيرانية، اعتُبر مغنية وغيره أصولاً إيرانية طيّعة}.

الحفاظ على المكاسب

رغم كل عدائية النظام الإيراني، بدأ جزء من حماستها الدينية يخبو. ففي عام 1989، توقف الخميني عن حضّ الإيرانيين على نشر الثورة، ودعا في المقابل إلى العمل للحفاظ على المكاسب التي حققتها. اقتضت المصلحة الإيرانية التمسك بالوضع القائم، حتى لو بدا إنجازًا باهتًا مقارنة بحماسة الثورة. في تلك السنوات، عمل سليماني على جبهة إيران الشرقية، مقدمًا المساعدة للثوار الأفغان في معركتهم ضد حركة طالبان. فقد نظر النظام الإيراني إلى هذه الحركة بعدائية كبيرة. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى اضطهادها الأقلية الشيعية الأفغانية (أوشكت الحرب أن تندلع بين هذين البلدين في مرحلة ما، حتى إن إيران حشدت نحو ربع مليون جندي وندد قادتها بحركة طالبان، معتبرينها إهانة للإسلام). وفي هذه المنطقة الغارقة في الفساد، صنع سليماني لنفسه اسمًا، محاربًا مهربي الأفيون على طول الحدود الأفغانية.

في عام 1998، عُيّن سليماني رئيس فيلق القدس، متوليًا إدارة وكالة كانت قد رسمت لنفسها صورة دموية: يعتقد المسؤولون الأميركيون والأرجنتينيون أن النظام الإيراني ساعد حزب الله في تنظيم عملية تفجير السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس عام 1992، ما أدى إلى مقتل 29 شخصًا، فضلاً عن الاعتداء على المركز اليهودي في تلك المدينة بعد سنتين، وقد ذهب ضحيته 85 شخصًا. حوّل سليماني فيلق القدس إلى منظمة واسعة النفوذ ركّزت فروعها على المعلومات، الشؤون المالية، السياسة، التخريب، والعمليات الخاصة. يقع أحد مقرات هذه القوة في مجمع السفارة الأميركية السابق في طهران، وهي تضم بين عشرة آلاف وعشرين ألف عضو موزعين بين مقاتلين ومدربين يتولون إعداد الأصول الأجنبية والإشراف عليها. يُختار أعضاء هذه القوة على أساس مهاراتهم وولائهم لعقيدة الثورة الإسلامية (فضلاً عن روابطهم العائلية أحيانًا). تذكر الصحيفة الإسرائيلية {إسرائيل اليوم} أن المقاتلين يجندون من مختلف أرجاء المنطقة، يدرّبون في شيراز وطهران، يُلقنون العقائد الأساسية في {جامعة عملية القدس} في مدينة قم، ومن ثم {يُرسلون في مهام تدوم أشهرًا في أفغانستان والعراق كي يكتسبوا خبرة في العمل الميداني. يُسافرون عادة تحت غطاء أنهم عمال بناء إيرانيون}.

بعد تولي سليماني القيادة، وطّد العلاقات مع مغنية والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله مع لبنان. بحلول تلك الفترة، كان قد مضى على احتلال الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان 16 سنة، وكان حزب الله تواقًا للسيطرة على البلد. لذلك أرسل سليماني ناشطي فيلق القدس لدعم  الحزب. يؤكد كروكر: {كان وجودهم كبيرًا، مقدمين التدريب والنصح والتخطيط}. في عام 2000، انسحب الإسرائيليون بعدما أنهكتهم هجمات حزب الله المتواصلة. فشكل هذا انتصارًا بالغ الأهمية بالنسبة إلى الشيعة و{مثالاً آخر يظهر لدول مثل سورية وإيران أنها تستطيع خوض لعبة طويلة الأمد، لأنها تدرك أننا نعجز عن ذلك}.

منذ ذلك الحين، قدّم النظام الإيراني المساعدة لعدد من المجموعات الإسلامية المحاربة المناهضة لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، مثل المملكة العربية السعودية والبحرين. ولم تقتصر هذه المساعدة على الشيعة، بل شملت أيضًا مجموعات سنية، مثل حماس، ما ساهم في ظهور مجموعة تحالفات تمتد من بغداد إلى بيروت. أخبرني دبلوماسي غربي في بغداد: {لم يرسم أحد في طهران خطة كبيرة لبناء محور الممانعة، إلا أن الفرص تسنت لإيران. ففي كل حالة، كنا نلاحظ أن سليماني أذكى وأسرع من أي شخص آخر في المنطقة، وقد تمتع بالموارد الأفضل. وباقتناصه الفرص التي أتيحت أمامه، بنى هذا المحور ببطء إنما بثبات}.

(غداً حلقة ثانية)

حياة بيروقراطي

يقيم سليماني في طهران ويبدو أنه يعيش حياة بيروقراطي في منتصف العمر. قال لي المسؤول العراقي، الذي يعرف سليماني منذ سنوات وهو يهز رأسه غير مصدّق: «يستيقظ في الرابعة من كل صباح ويخلد إلى الفراش نحو الساعة التاسعة والنصف كل ليلة». عانى سليماني من مشاكل في غدة البروستات وألم ظهر متكرر. كذلك أخبرني المسؤول الأمني في الشرق الأوسط أنه «يحترم زوجته» ويصطحبها أحيانًا معه في أسفاره. لديه ثلاث أبناء وابنتين، وهو أب صارم إنما محب. يُقال إنه قلق جدًّا بشأن ابنته نرجس، التي تعيش في ماليزيا «لأنها بدأت تحيد عن سبل الإسلام»، وفق المسؤول الأمني في الشرق الأوسط.

أخبرني ماغواير: {يُعتبر سليماني أكثر رقيًّا من كثيرين. فيمكنه التنقل في الأوساط السياسية بسهولة. لكنه يتمتع بالصفات الضرورية ليزرع الخوف في النفوس}. صحيح أنه يُعتبر عادةً شخصية جامحة، إلا أن ذوقه تقليدي. أوضح المسؤول الأمني في الشرق الأوسط: {لا أظن أنه يستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية. ولا أعتقد أن الموسيقى الأوروبية تستهويه}. صحيح أن سليماني لم ينهِ دراسته، لكنه {إستراتيجي ذكي على نحو مخيف وبالغ الحنكة}، وفق المسؤول العراقي البارز السابق. تشمل أدواته رشوة المسؤولين في الشرق الأوسط، تخويفهم عندما تدعو الحاجة، وقتلهم كحل أخير.

بطل حرب

رغم كل أعمال سليماني القاسية، يعتبره الإيرانيون المتدينون بطل حرب لا غبار عليه ومقاتلاً سابقًا مكرّمًا شارك في الحرب الإيرانية-العراقية، التي أصبح خلالها قائد فرقة وهو بعد في عشرينياته. في العلن، يبدو متواضعًا على نحو مبالغ فيه. فخلال ظهور علني أخير له، وصف نفسه بأنه «الجندي الأصغر»، وفق الصحف الإيرانية، ووبّخ بعض الأشخاص من الحضور عندما حاولوا تقبيل يده. تنبع سلطته عمومًا من علاقته الوطيدة مع خامنئي، الذي يقدّم الرؤية الموجِّهة للمجتمع الإيراني. فقد وصف خامنئي، الذي يخص عادةً الجنود القتلى بأهم عبارات المديح والثناء، سليماني بأنه «شهيد الثورة الحي». ويُعتبر سليماني داعمًا متشددًا للنظام الإيراني المستبد. ففي أوج التظاهرات الطالبية في يوليو عام 1999، وقّع مع غيره من قادة حرس الثورة رسالة تحذّر الرئيس المصلح محمد خاتمي من أنه إذا لم يقمع الثورة، فسيقوم الجيش بذلك، مطيحًا ربما بخاتمي نفسه. كتب الجنرالات: «نفد صبرنا». نتيجة لذلك، سحق رجال الشرطة الثورة، تمامًا كما فعلوا بعد نحو عقد.

دَين العائلة

ولد سليماني في رابور، قرية جبلية فقيرة في شرق إيران. عندما كان طفلاً، طلب والده، على غرار كثير من المزارعين، قرضًا زراعيًّا من حكومة الشاه. فكان يدين للحكومة بتسعمئة تومان (نحو مئة دولار حينذاك) ولم يتمكن من سدادها. وفي مذكراته الموجزة، كتب سليماني عن مغادرته قريته برفقة قريب شاب يُدعى أحمد سليماني، الذي واجه بدوره وضعًا مماثلاً. ذكر: {لم نستطع أن نغفو في الليل لأننا كنا نفكر في أن عملاء الحكومة سيأتون لاعتقال والدينا}. سافر سليماني مع قريبه إلى كرمان، المدينة الأقرب، ليحاولا سداد دين العائلة. لكنهما لم يلقيا الترحيب. كتب سليماني: {كنا في الثالثة عشرة من عمرنا وكان جسدنا صغيرًا نحيلاً. لذلك رفض الناس استخدامنا أينما ذهبنا، إلى أن وجدنا ذات يوم عملاً كأجيرين في موقع لبناء مدرسة في شارع خاجو عند طرف المدينة. تقاضينا تومانين في اليوم}. وبعد ثمانية أشهر، ادخرا ما يكفي من المال ليعودا إلى المنزل. إلا أن ثلج الشتاء كان عاليًا جدًّا. لذلك نُصحا بالبحث عن سائق محلي يُدعى بهلوان كان {رجلاً قويًّا يستطيع رفع بقرة أو حمار بأسنانه}. وهكذا {كان يحمل الجيب ويضعه جانبًا} كلما غرق في الثلج أثناء الرحلة. أخبر سليماني أن بهلوان من أشد منتقدي الشاه. فقد قال للصبيين {أن عليهما اللعب والاستمتاع بهذه المرحلة من حياتهما، لا العمل كأجيرين في مدينة غريبة. ألعن الحياة التي يقدمونها لنا}. عندما وصلا إلى القرية، {كانت الأنوار قد بدأت تُضاء داخل منازلها. وحين انتشر خبر عودتهما في القرية، عمت الفوضى}، وفق سليماني.

عندما كان سليماني شابًا، لم يبدُ طموحًا. يذكر علي ألفونيه، خبير في الشأن الإيراني في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، أن سليماني اكتفى بالتعليم الثانوي وعمل في مصلحة المياه في بلدية كرمان. ولكن سرعان ما حلّ زمن الثورة. وكانت الاضطرابات المتنامية تهز البلد. بعد الانتهاء من العمل، اعتاد سليماني تمضية ساعات في حمل الأثقال في النوادي الرياضية المحلية، التي قدّمت، على غرار نوادٍ كثيرة في مختلف أرجاء الشرق الأوسط، التدريب الجسدي والطموح للروح المحاربة.

وخلال شهر رمضان، حضر خطابًا ألقاه داعية جوال حجة كمياب مقرب من خامنئي، وكانت تلك أولى شرارات تأثره باحتمال نشوب ثورة إسلامية.

back to top