عبدالكريم الغائب الحاضر


نشر في 08-05-2011
آخر تحديث 08-05-2011 | 00:01
 سعود راشد العنزي جمع خلال مسيرة عمره من الأصدقاء ما لا يعد ولا يحصى، وعلى الرغم من كثرتهم فقد اهتم بهم جميعاً حتى شعر كل واحد منهم أنه الأقرب إلى قلبه، فلم يغفل عن أصغر تفاصيل حياتهم وأحوال أفراد أسرة كل واحد منهم.

كان طريح الفراش، منهكاً مجهداً هدّه المرض الذي صارعه ست سنوات قاسية، لكنه طلب مني الاتصال بصديق توفي ابنه ليقدم إليه العزاء ويعتذر عن عدم قدرته على مشاركته شخصياً هذا الألم، فأبلغته أن صديقنا على علم بحاله ولا حاجة إلى الاتصال به، فقال: في مثل هذا الوقت هو أحوج ما يكون إلينا جميعاً كأصدقاء!

بعدئذ وهو على آخر سرير لامس جسده حياً، وبينما هو مستعين بضغط الأكسجين كي يستمر في الحياة، نهض بصعوبة ورفع نصفه الأعلى بعد تعديل رأس السرير ليصبح في حالة أقرب إلى الجلوس، مد يده باحثاً عن هاتفه، وقال: «back to normal لازم الواحد يتابع حياته وما يخلي المرض يتحكم فيه»، فاتصل بصديق مشترك يوصيه خيراً بابن صديق ثالث يحتاج إلى مساعدة في بحثه عن عمل بعد تخرجه من الجامعة.

وخلال مكوثه في المستشفى كان معنياً بحال زواره وقلقهم عليه أكثر من أي أمر آخر، فتسأله عن حاله التي أنت أدرى بها منه فيرفع إبهامه بصعوبة فائقة ليطمئنك، ثم يستفسر عمن يجلس عند باب الغرفة ليطمئن أنه ليس عبئاً على أحد، وفي كل مرة يعرف أن أحداً من أبناء شقيقاته في الخارج يأمرهم بالمغادرة «روح شوف شغلك وحياتك، روح ادرس شمقعدك هنيه؟» مع «زفة» صريحة.

في أيامه الأخيرة كنت ألتقيه يومياً نحو التاسعة مساء، أنتظر حتى يوقظه أحد الممرضين لإعطائه جرعة دواء، فأدخل وإذا به كما لو كان في انتظار الزيارة، يطلب مني الاقتراب منه كي لا يجهده الكلام أكثر، ويتكلم بصعوبة بالغة وبصوت خافت، فأتوقع أن يطلب أمراً يخصه، فإذا به يسألني عن أحوال أبنائه وزوجته ومدى تحملهم لوضعه المتدهور، ويقول إنه يعلم أنها أيامه الأخيرة لكنه كما قاوم ستّ سنوات فإنه مستمر في المقاومة، ويطمئنني: «لاتحاتيني ترى ماني خايف من الموت»... ثم يسأل شقيقه عن ترتيبات سفر الأسرة في الصيف القادم، وهل حجز السكن والتذاكر والسيارة؟ هكذا لأنه اعتاد تنظيم حياته والترتيب المسبق لكل شيء حتى الموت.

عرفته في 2 أغسطس 1990 في واشنطن، إذ وصلت للتو لأبدأ مشوار الدراسة، فإذا بنا نعمل في «مواطنون لأجل كويت حرة». تولى هو إدارة مجموعات العمل الشعبية وبعد أقل من أسبوع قال في اجتماع قيادة اللجنة: «أرجو قبول تنازلي عن إدارة هذه المجموعة للأخ سعود، لأن تجربتي عسكرية، وهذا العمل يحتاج إلى أشخاص متمرسين في العمل الشعبي... هكذا من دون أن يطلب منه أحد ذلك».

عشنا صداقة يصعب تكرارها، فقد خلت من المصلحة، لم نفترق إلا لسفر أحدنا «وفي الغالب نستمر في التواصل إلكترونياً في هذه الفترات»، كوّنا أسرة كبيرة من أسرتينا وأصدقائنا... نلتقي بشكل دائم في مناسبات نخلقها كي نتواصل، ويكون نجمها عبدالكريم يناقش حين النقاش، ويفرح حين الفرح، ويعلق عندما يكون لتعليقه فائدة، ويصمت مستمعاً عندما يتحدث من هم أعرف منه في موضوع النقاش، لا أتذكر أنه كرر على مسامعي قصة أو حديثاً، فهو متجدد على الدوام. يجادل حتى المتدينين في حججهم مستخدماً المنطق من جانب ومعرفته الموسوعية في أمور الدين من جانب آخر، حتى إن كثيراً من أئمة المساجد التي يتردد عليها يحسبون لوجوده حساباً في خطبهم وما يسوقون من أدلة.

خلال فترة العزاء وما تلاها من أيام لم ألتقِ شخصاً يعرفه إلا روى لي قصة أبهرته عن «بوعبدالله» سواء عبرت عن شجاعة في مواجهة مسؤول مهما علا منصبه أو مكانته، أو عن حجته عندما يعترض على موقف معين أو يدعمه، أو عن خفة دمه وتعليقاته التي تضفي على أي اجتماع يشارك فيه جواً من المرح والبهجة.

أعرف أني لو عددت مناقب هذا الفقيد لما توقفت عن الكتابة، وأعرف أن ما لم أعرفه عنه، على الرغم من قربي منه، قد يفوق ما عرفته من خصال قلما وجدت مجتمعة في إنسان واحد، وأنا على يقين أنه ترك كل هذه السمعة لابنيه عبدالله وعبداللطيف، فما إن يذكر اسمه حتى يلهج السامعون بالدعاء له بالرحمة ويتذكروا مناقبه.

كما أعرف أنه ترك هذين الابنين الرائعين لدى رفيقة دربه التي صمدت، وساهمت في صموده طوال محنته التي عاشت تفاصيلها لحظة بلحظة، ولم أرها تبكي إلا قبيل وفاته بأيام عندما أبلغها هو ما قاله له الأطباء عن أيامه المحدودة، صمدت لأنها تعرف كم يعني له صمودها وهو يحارب هذا المرض الخبيث، فكتمت حزنها وألمها من أجله وأجل أبنائها... أعرف أن هناء ستكون لأبنائها خير أم وأب وصديق، ولذكرى المرحوم خير حافظة.

وأعرف أنه ترك من بعده الخالة أم عبدالكريم وأسرته من إخوة وأخوات وأزواجهن والأبناء الرائعين الذين تناوبوا على الوجود بقربه على مدار ساعات الليل والنهار، أعرف كم تأثر كل فرد منهم لأنه كان مثلهم الأعلى والموجه الخبير والناصح البصير، بل المتصدي لأي خطأ أو تخاذل في الدراسة والعمل.

أعرف أنه ترك من بعده أصدقاء لكل منهم رواية عن عمق علاقته بالراحل، ولكل منهم مواقف زامل فيها الفقيد إما في الدراسة وإما في الجيرة وإما في مراكز العمل المتنوعة... لكل هؤلاء قال عبدالكريم عبدالله السعيد في برنامج «واتس آب» على هاتفه النقال في أيامه الأخيرة: الحب والسلام للجميع.

لك السلام أيها الصديق الرائع ولنا الصبر وذكراك الجميلة.

back to top