صانعة النجوم عاشت في أحضان الأُنس والألم... (11) بديعة مصابني... حياة المحظيات

نشر في 23-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 23-08-2010 | 00:00
انتهت حفلات بديعة مصابني ونجيب الريحاني في مدينة الإسكندرية ولم ينتهِ الأخير بعد من إعداد الرواية الجديدة ولم يكن أمامهما سوى العودة إلى القاهرة، فأيقنت بديعة أن أمام الريحاني فترة طويلة ليفكّر في عمل جديد لأنه ينعم ببحبوحة مالية.

آنذاك، تعرّفت بديعة إلى فيولا، وكانت فنانة أجنبية، فأقنعتها بأنها تهدر حياتها مع الريحاني، تقربت بديعة منها وصارحتها بأنها تعشق مدينة الإسكندرية وتفضل العمل فيها على القاهرة، إلا أنها لا تجد من يساعدها في تدبير الحياة في هذه المدينة، وكشفت لها أن الـ 500 جنيه التي جاءت بها من لبنان أوشكت على الانتهاء وأن الريحاني سبب أزمتها وباتت تشك بقدرته على العمل أصلاً.

في اليوم التالي ذهبت بديعة مع فيولا إلى مقهى «تريانون» (ما زال موجوداً في منطقة الرمل في الإسكندرية) حيث أبلغتها الأخيرة أن وجهاً مصرياً بارزاً يودّ التعرف إليها، وأنها اتفقت معه على اللقاء في الحادية عشرة مساءً. في الموعد المحدد ذهبت بديعة مع فيولا وما إن رأته حتى تذكرت وجهه، إذ كان يجلس في حفلاتها في الصف الأول دائماً ويدعى أحمد وكان برفقته أحد أصدقائه ويدعى عبد العظيم، فقدّمتهما فيولا الى بديعة.

كان أحمد في الأربعين من عمره، قليل الكلام، تبدو عليه علامات العقل والرصانة، لا يحبّ التباهي بثرائه أو مركزه الاجتماعي، فترك الكلام لعبد العظيم الذي قال لبديعة: «صديقي أحمد بك بيحبك يا ست بديعة، وهو على استعداد لتلبية كل طلباتك، وسيفرش لك منزلاً جميلاً في القاهرة بالموبيليا الفاخرة والسجاد العجمي والستائر القطيفة، وستكون بإمرتك عربة حنطور بحصانين»، فوافقت بديعة على صداقته ثم افترقا على موعد بلقاء جديد.

قصر بديعة

عادت بديعة إلى الفندق فوجدت الريحاني نائماً، لم توقظه كي لا يلمح السعادة البادية على وجهها، بل راحت تسمعه صوتها وهي تقول له: «سأنتظرك في المطعم»، وبعد انتظار طويل، لم يأتِ، فأصابها اليأس وتناولت طعامها بمفردها وأخذت تفكّر في طريقة للتخلّص منه من دون أن تتسبب بمشكلة تؤدي إلى الخصام، فاهتدت إلى فكرة أن تأخذ أمتعتها إلى المسرح ثم تهرب من هناك.

في الموعد المتفق عليه مع أحمد بك، قصدت بديعة المقهى فوجدته في انتظارها، وكان معه من الهدايا ما لم تتخيله بديعة أو تحلم به، إلا أنها طلبت منه أن يحتفظ بها حتى تذهب إليه في القاهرة، فأرشدها أحمد بك إلى فندق تقيم فيه الى أن يجهَّز المنزل، ثم راح يستوضح عن بياناتها الحقيقية ليتمم إجراءات نقل المنزل إلى ملكيّتها.

أصبحت بديعة صاحبة بيت أشبه بقصور ألف ليلة، فبعد العذاب كله الذي ذاقته أصبح لديها قصر فيه خدم وحشم وإسطبل خيل وخادمة، وعندما دخلته للمرة الأولى.

في مساء ذلك اليوم، جاء أحمد بك ومعه عبد العظيم، وكان برفقتهما الشيخ أبو العلا محمد، وفي أثناء العشاء استفاض الشيخ أبو العلا في الحديث عن عبقرية أم كلثوم وصوتها الساحر، وكانت بديعة إحدى المعجبات بأم كلثوم وعبد الوهاب، ثم أعطاها أحمد بك مستندات ملكية المنزل.

عاشت بديعة في منزلها الجديد كأنها في حلم، أحضرت ابنتها بالتبنّي جولييت للإقامة معها، ثم أحضرت لها معلمة خاصة عوضاً عن المدرسة، لتتمكن بديعة من التفرّغ لعملها مع الريحاني. كانت معلمة جولييت فتاة فقيرة ويتيمة تدعى كلير تسكن غرفة صغيرة، أدخلتها بديعة بيتها وأحبتها وتعاملت معها كصديقة، وكانت تعطيها مرتباً قدره خمسة عشر جنيهاً شهرياً، إضافة إلى الهدايا التي كان يغدقها عليها أحمد بك لتعتني بجولييت، إلا أن كلير هذه كانت إحدى لعنات الزمن، فراحت تتجسس على بديعة وأحمد بك وتستدرج بديعة في الحديث عن الريحاني ثم تنقل إليه كل الأخبار، وكانت سعادة بديعة بحياتها مع أحمد بك تحول دون أن تفكّر في أي شيء آخر.

مارست كلير لعبة دس السمّ في العسل فكانت تردد على مسمع بديعة أن أحمد بك كريم ابن أصل، إلا أنه متزوج من امرأة أخرى وله أولاد، فلماذا لا تبحث هي عن زوج شرعي يخلّصها من هذه الحياة. كانت كلير ماكرة وتستكثر على بديعة النعمة التي تعيش فيها.

الريحاني في بيت بديعة

ذات يوم رنّ الهاتف في منزل بديعة، ولما رفعت السماعة وجدت صوت الريحاني، فارتبكت واهتزت السماعة في يدها، لم يترك لها الريحاني فرصة التكلّم ولو كلمة واحدة، واندفع يقول لها: «أنا قادم إليك فافتحي الباب كي لا أتسبب لك بفضيحة أمام الجيران»، خشيت بديعة أن يأتي إليها ويحرجها أمام أحمد بك، وغرقت في التفكير حول ما يريده الريحاني منها، وبينما هي على هذه الحال سمعت دقات عنيفة على الباب وعندما فتحته رأت الريحاني أمامها، فأُغمي عليها، عندها أحاطها الريحاني بذراعيه وساعدته كلير على نقلها إلى غرفة النوم.

عندما أفاقت بديعة ثارت على أفعال الريحاني باكية، فقال لها: «ما رأيتك أجمل ولا أبدع من هذه اللحظة»، وأخذ يقبلها ويضمها إلى صدره، كان ذلك بوجود كلير، إلا أن بديعة استطاعت أن تلاحظ النظرات والغمزات بين الريحاني وكلير وأيقنت أن أمراً غامضاً يدور في الكواليس بينهما، فثارت عليه واتهمته بأنه يريد خراب بيتها.

في تلك اللحظة طلب الريحاني من بديعة أن يتزوجاً ويسافرا إلى أميركا، لكنها أبلغته بأنها يئست من مشاريعه الوهمية ووعوده الكاذبة وكسله واستهتاره وطلبت منه أن يتركها في حال سبيلها لأنها سعيدة من دونه ولأنها تخشى أصطحابه إلى أميركا فيموتان جوعاً في بلاد أخرى. أجابها الريحاني: «أخشى أن ينتهي صباك وينقضي عهده، ثم يذوي جمالك ويضيع وأنت تعيشين حياة المحظيات، قد يأتي يوم تندمين فيه، ساعتها لن يفيد الندم، لقد عرضت عليك آخر وأغلى فرصة وأجمل عرض يمكنني أن أقدمه لامرأة»، فقاطعته بديعة ساخرة: «أتظن أن العرض الثمين هو الزواج منك؟»، أجابها: «نعم ولم لا؟»، فردت عليه: «لو تزوجتك هل سأرتاح من العمل في المسارح ومن التشرد من بلد إلى بلد وارتداء الملابس الخليعة وعرض ساقاي العاريتين والسهر حتى الصباح والرقص والترفيه عن أناس لا يسعدني السلام عليهم أصلاً؟»، فقال لها الريحاني بغرور: «لكنك ستتزوجين نجيب الريحاني، الفنان الذي تجهله واحدة مثلك، ولا تقدره بلاده، لذا أعرض عليك أن نذهب إلى بلد آخر قد ألاقي فيه حظي ولم يسبقني إليه أحد الزملاء بعد أن يسطو على رواياتي لينسبها إلى نفسه، كما حدث لي في لبنان وسورية وفلسطين، عندها ستشاهدين بنفسك ريحانياً آخر يتفانى في عمله، لقد عرضت عليك عرضاً وأتمنى أن توافقي عليه». ثم اقترب وهمس في أذن بديعة: «لن أطلب الرد منك الآن»، سأتركك إلى الغد، ثم انصرف وتركها.

«البرنسيس»!

لم تنم بديعة ليلتها من الحيرة، فكيف تهجر الرجل الذي أكرمها وجعل منها سيدة مجتمع؟ ولما عاد أحمد بك مساءً شعر بأن ثمة أمراً غريباً ينتابها، لكنها لم تبح له بما حدث، وفي اليوم التالي قصد الريحاني منزلها وطلب منها العودة إلى التمثيل، وقطع علاقتها بأحمد بك، ووعدها بتقديم رواية جديدة تدرّ عليهما المال فيتزوجان ثم يرحلان إلى أميركا.

استحسنت بديعة فكرة التمثيل التي كانت خير مقنع لها في الرجوع إلى الريحاني، والمخلص من الملل الذي كانت تعيشه في كنف أحمد بك، لا سيما بعدما زاد وزنها، فتمكّن الريحاني من انتزاعها منه، وفي المساء عاد أحمد بك بصحبة صديقه عبد العظيم، فبادرته بديعة بقولها: «مللت من هذه الحياة الهادئة المملة، وأرغب في العودة إلى حياة المسارح»، فاستنكر عبد العظيم ما قالته بديعة بزعم أنها ليست في حاجة إلى العمل، وقال لها أحمد بك إن ذلك سيدفعها إلى مخالطة الراقصات والمغنيات، ورجاها أن تقلع عن هذا الحديث.

بعد أيام انتشر في الوسط الفني أن الريحاني يعدّ رواية جديدة بطلتها بديعة مصابني، فاستفسر أحمد بك من بديعة عن هذا الأمر، فأجابته بخجل: «هل لديك مانع في عملي أمام الريحاني؟»، فأجابها أحمد: «لا أريد أن أكون عائقاً بينك وبين هوايتك، إلا أنه يصعب عليَّ أن أتخيّل نفسي محروماً منك، فأنتِ أعز مخلوق لدي يا بديعة، لم أنسَ ما كان بين الريحاني وبينك، وكيف أرضى بعملك معه بهذه السهولة؟». راحت بديعة تخفف من همّه وقالت له: «دعنا من هذا الحديث الآن، كل ما قيل هو مجرّد إشاعات، وحين يعود الريحاني إلى العمل يكون الله قد هدانا إلى حل لهذه المشكلة».

بعد أيام اتصل الريحاني ببديعة ليخبرها بأمر الرواية الجديدة التي انتهى من كتابتها، وعرض عليها أن يأتي إلى منزلها، إلا أنها رفضت وطلبت منه أن يلتقيا في أحد المقاهي المنعزلة في منطقة مصر الجديدة، حيث أطلعها على دورها في الرواية، وكان اسمها «البرنسيس»، لكنه لم يعطها فكرة عن مضمون الرواية، واتفقا على أن يتصل بها بعد تحديد موعد البروفات.

ظل الريحاني يخفي عن بديعة مضمون الرواية وكان يردد عليها كلما سألته: «انشغلي بدورك أفضل لك». عمّ الإعلان عن الرواية شوارع القاهرة ولاقت نجاحاً ساحقاً، على رغم أن الريحاني أظهرها بمظهر المرأة الجشعة التي فضلت رجلاً غنياً عليه، إلا أن هذا العرض حقق لها شهرة لم تكن تحلم بها جعلتها حديث الصحف والجماهير، ولم يكن الريحاني نفسه يتوقع هذا النجاح لها لدرجة أنه شعر بالغيرة منها.

الخروج من الجنّة

استمر عرض الرواية شهرين وتعمّد الريحاني خلالهما، إشاعة خبر زواجه من بديعة وسفرهما معاً إلى أميركا، ولما وصل الخبر إلى أحمد بك قال لها: «زواج نجيب منك مجرد مصلحة له، فهو لا يستطيع الاستغناء عن موهبتك الكبيرة، علاوة على أنك تقدمين أدواراً تمثيلية صعبة وتجيدين الرقص والغناء، وهذا هو السبب الرئيس لإقبال نجيب الريحاني عليك وإصراره على الزواج منك والسفر معك إلى أميركا، على كل حال أنت حرة في ما تريدين فعله، أما أنا فلن أقف في طريق مستقبلك، ما أودّ أن تعرفيه أنك وجهتِ إلي صفعة على وجهي من دون أن تدري، لكن هذا ذنبي، لقد ضيعتِ أحلامي وقضيتِ عليها».

قالت بديعة لأحمد بك: «أنت رجل ثري وكريم وبإمكانك أن تجد من هي أفضل مني تنسيك أيامي، ومن يعرف ربما تكون صديقتك الجديدة أكثر إخلاصاً ووفاءً مني لك»، ثم أحضرت بديعة الهدايا التي قدمها لها أحمد بك، وقالت له: «لا أطمع في شيء ولم يكن سرّ صداقتي لك أنك رجل ثري، بل لأنني احترمت فيك نبلك وصدقك ووثقت بك، خذ هداياك إذ لم أترك منها سوى ثيابي، لن أنساك طول حياتي، أرجو أن تعفو عني وتسامحني»، ثم ارتمت على صدره وأخذت تبكي بحرقة شديدة، فأبعدها أحمد بك وسألها: «هل حددتم موعد الإكليل؟ سأعتبرك من اليوم كابنتي، كما سأعتبر هذا المنزل بكل ما فيه من هدايا هدية عرسك، أقدمها لك متمنياً أن تجدي في زواجك من الريحاني السعادة التي تنشدينها، كذلك أرجو ألا تندمي في يوم من الأيام على هذه الخطوة»، ثم انصرف أحمد بك، أنبل شخص عرفته بديعة مصابني في حياتها.

الهجرة إلى المجهول

كانت حياة الريحاني سلسلة من المغامرات والآلام، الأفراح والدموع، النجاح والإخفاق، اللذة والملل، الراحة والقلق، النشاط والكسل، وبعدما ترك أحمد بك بديعة في المنزل الذي اشتراه لها راحت تنظر حولها، فصعب عليها أن تتمتع بهذا العزّ بعدما هجرت صاحبه، ففاتحت الريحاني في بيع المنزل بالأثاث الذي يحتويه، فوافق هذا الأخير قائلاً لها: «على كل حال سنسافر إلى أميركا بعد زواجنا مباشرة، ولا نحتاج هذا المنزل ومحتوياته»، ثم انتقلا للإقامة في فندق «الكونتيننتال»، وباعا محتويات القصر بالمزاد العلني، وحصلت بديعة على مبلغ كبير.

في هدوء تام وبعيداً عن أعين الناس، تزوّج الريحاني من بديعة في منزل الدكتور خليل جودة الذي كان الشاهد على الزواج، وكانت كلير هي الشاهدة الثانية، وبعد انتهاء المراسيم الدينية انطلق العروسان إلى ضفاف النيل في عربة حنطور، وعادا صباحاً إلى الفندق حيث استقبلهما المصريون والأجانب بالهتاف تعبيراً عن مشاركتهما فرحة الزواج.

أمضى الزوجان شهر العسل بين الإسكندرية ورأس البر، ثم سافرا إلى البرازيل واصطحبا معهما جولييت ومجموعة من الممثلين، في رحلة بحرية طويلة زادت على الشهر، ثم حطّت بهما السفينة في بلد غريب وتشتّت من كان معهما، وبدا لهما أنهما في موقف صعب.

في الميناء التقيا رجلاً يتحدّث العربية، وسألهما عن مقصدهما فقالت له بديعة: «نحن فرقة فنية وباستطاعتنا الغناء والرقص»، وقال الريحاني: «لا نغني ولا نرقص فحسب بل نمثل أيضاً»، فأجابهم الرجل من دون اهتمام: «لن تتمكنوا لسوء الحظ من العمل هنا، لأن هذا البلد ليس فيه من يفهم في التمثيل أو يقدّره، لكن لو كان معكم مطربون وموسيقيون لاستطعتم جمع ثروة طائلة»، فتوجّهت بديعة إلى الريحاني بالفرنسية وقالت له: «دعنا نحاول ولا بد من أن الله سيفرجها علينا».

ترك الريحاني وبديعة الميناء، واصطحبهما محدّثهما إلى فندق كان هو صاحبه وكان يذهب إلى الميناء لجلب الزبائن، فظهرت مساء الجاليات اللبنانية والسورية من أبناء الجبل وبيروت وطرابلس وحلب والشام وحمص وحماة، وما إن انتشر خبر أن في الفندق فرقة فنية عربية، حتى راح الجميع يسأل عن المغنية العربية التي جاءت من بلادهم، وطلبوا من بديعة الغناء، فاختارت «فستق مملح ولذيذ يا أفندي»، وما إن بدأت في أولى مقاطع الأغنية حتى وقف أحد المستمعين وقال: «سمعت هذه الأغنية من مغنية شهيرة في حلب»، فسأله الريحاني: «ما اسم هذه المغنية؟»، فأجابه الرجل: «بديعة مصابني»، سأله الريحاني: «إذا رأيت هذه المغنية ستعرفها؟» أجابه الرجل: «طبعاً»، فقال له الريحاني: «إذن لماذا لم تتعرف إليها حتى هذه اللحظة؟»، فدقق الرجل في بديعة وقال: «كنت أشعر بذلك إلا أنني خفت أن أصرّح بالأمر كي لا يتهمني من معي بالجنون». راح الرجل يشرح للمستمعين من هي بديعة مصابني، وماذا كانت بالنسبة إلى حلب.

back to top