ازاحات


نشر في 24-07-2009
آخر تحديث 24-07-2009 | 00:00
 محمد سليمان بسبب قدرته الفذة على الهجاء والسخرية من الكبار، عاش بيرم التونسي في المنافي عشرين سنة متنقلاً بين فرنسا وتونس ولبنان وسورية، لكنه كان دائم الفرار والعودة إلى بلاده. وكان زملاؤه الكتاب في الوقت نفسه دائمي الإبلاغ عنه وحث السلطات على إبعاده، وهو في مذكراته يحدثنا عن معاناته قائلاً «بعدما نفيت عام 1919 تمكنت من العودة باختصار اسمي في جواز السفر، ولازمت الشيخ سيد درويش أشترك معه في تأليف وتلحين رواية «شهرزاد»، بعيدا عن النشاط السياسي. ولكن إذا كان رجال السياسة لم يشعروا بي حينئذ فقد شعر الزملاء من أهل الأدب فأبلغوا السلطات عني وعن أمكنة وجودي وحركاتي وسكناتي، فقامت بترحيلي من جديد إلى خارج مصر!».

والمثير أن زملاء بيرم وأصدقاءه قاموا بالإبلاغ عنه أكثر من مرة رغبة في إزاحته والتخلص منه، وهو يحدثنا عن قرار السلطات الفرنسية بترحيله إلى بلد غير عربي لإخراسه تماماً!

وعن نجاحه في التسلل إلى بورسعيد من سفينة كانت تحمله إلى غرب إفريقيا يقول: «وعاد أصدقائي من أهل الأدب يبلغون سلطات الأمن بما كان من قرار إبعادي عن البلاد»، ثم يزهو بفشل زملائه في إقناع السلطات بطرده هذه المرة بسبب وفاة الملك فؤاد.

«عدوك هو ابن كارك»... يقول رجل الشارع ليحذرك من زميلك الذي يرى نفسه الأبرع والأمهر والأقدر، والآخرين أقصر قامة منه وأقل شأناً ومزاحمين يحسن التخلص منهم... وبوسعنا أن نختبر حكمة رجل الشارع في مجالات عديدة لندرك أنه لم يصغ حكمته إلا بعد متابعة ودراسة وتأمل.

ولا تقلل الاستثناءات التي تصادفنا في الحياة اليومية من مكانة هذه الحكمة الشعبية، كما لا تطيح بها إشادة أحدهم بزميل له أو استحسان شاعر قديم لقصيدة شاعر آخر، وقوله وددت لو أنها لي بنصف شعري أو بشعري كله، فالصراع كان ومازال أبرز وأعمق أثراً وأقدر على توجيه الحركة الإبداعية في كل المجالات وتاريخ الأدب والفن أو العلم يكشف ويبرز الوجه الإيجابي لهذا الصراع الذي يتمثل في التنافس والكد والسعي من أجل التجديد والاكتشاف والخروج على المألوف ومحاربة الجمود.

وأذكر هنا البيانات التي أصدرتها حركات وتيارات التجديد في كل الفنون، والتي انطلقت دائماً من ازدراء السائد، والتقليل من شأنه، وإبراز نواقصه، ومن ثم الدعوة إلى التمرد عليه وتجاوزه، وأظننا لم ننس بيان «الحركة المستقبلية» في أوائل القرن الماضي الذي دعا إلى تدمير المتاحف وإحراق المكتبات للتخلص من القديم الذي كرَّس الجمود وأفسد الأذواق، وبيانات الشعراء العرب المجددين على مدى قرن، والبيان الذي أصدره في الفترة الأخيرة كتاب أميركا اللاتينية وأعلنوا به موت الواقعية السحرية بسبب الاستغراق في الخيال والابتعاد عن الواقع وقضايا شعوب القارة.

لكن عنف هذه البيانات يظل في النهاية عنفاً كلامياً يشير أولاً وأخيراً إلى أحلام المبدعين الجدد وطموحهم وسعيهم إلى الإثراء والتجديد والإضافة. بينما تصبح الإزاحة والإيذاء الشخصي والتصفية الجسدية أحياناً أهم أهداف الوجه السلبي لهذا الصراع، خصوصاً عندما تصبح المواجهة الإبداعية أو الفكرية غير مجدية. من هذا المنطلق ظل زملاء بيرم التونسي يسعون إلى إزاحته وإبعاده بعد أن عجزوا عن قهره إبداعياً.

وفي تراثنا العربي حكاية طريفة أوردها المقري التلمساني في كتابه «نفح الطيب» بطلها المغني الشهير إسحاق الموصلي الذي هدد تلميذه «زرياب» بالقتل إن تشبث بالبقاء في بغداد بعدما استمع الخليفة الرشيد إلى غنائه وقدمه على أستاذه، فقد خلا إسحاق بتلميذه وقال له:

«يا علي إن الحسد أقدم الأدواء، والدنيا فتّانة، والشركة في الصنعة عداوة، ولا حيلة في حسمها، وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك، وعن قليل تسقط منزلتي وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه، ولو أنك ولدي فاختر لنفسك إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبراً، وإما أن تقيم على كرهي ورغمي... فخذ الآن حذرك مني فلست والله أبقي عليك، ولا أَدع اغتيالك باذلاً في ذلك بدني ومالي»... واختار زرياب الفرار إلى المغرب ومنه إلى قرطبة ليصبح أشهر المغنين فيها!

*كاتب مصري 

back to top