تداعيّات الطائر الصحراوي في المدينة الراحلة (1-2)

نشر في 07-10-2008
آخر تحديث 07-10-2008 | 00:00
No Image Caption
 سليمان الفليح إيه، ها هو إذن طائر الصحراء يحطّ على قمة برج زجاجي حديث لم يألفْه قبلا في المدينة التي تستوطن القلب، وها هو يحدّق بعينين شرستين كسائر أعين الجوارح التي تتّقد بالشرور والصلافة والكبرياء، ويتأمل في شوارعها اللولبية القديمة الضيقة التي تبتعد عنه كلما أمعن النظر فيها، لذا خطرت له فكرة جامحة لم تخطر على بال اي طائر على مرّ الزمان ومنذ أن خلق الله الكائنات، ومن هنا قرر ان ينفض ريشه الصلب حتى التساقط الكلي ويرتدي ثوبا فضفاضا كما يفعل سائر أهل هذه المدينة، وان يتوج رأسه العنيد بـ«غترة» بيضاء تلتف على هامته الضخمة بطريقة الـ«جريمبة» المميزة التي لا يتقنها سوى أهل هذه المدينة بالذات، منذ أن ركبوا البحر في سالف الزمان وحتى اواخر السبعينيات الميلادية من القرن المنصرم، ثم انتقل خفا «زبيريا» مزركشا مصنوعا من جلد الثور او «ثفنة» الجمل وانحدر مزهوا كعشاق ذلك الزمان، ليدور في الشوارع و«السكيك» لا كطائر جارح، بل كفتى في مقتبل العمر، حينها احسّ بنشوة الصباح وجسارة الجوارح من الطير، وبالطبع حينما دلف الى مدخل المدينة احس انه قد اصبح انسانا لا طائرا مداره الفضاء، ثم اخذ يهجس بتداع ٍغريب:

* اسير في شوارع الكويت

أدور في الشوارع التي / عرفتها / ألفتها

في ميعة الصبا / تلك التي ضياؤها خبى.

من أعيني لأنها تغيرت / أو انها تطورت / أو انها تحورت

حاولت ان أزيلها / كما قد زال جيلها

أو انني احيلها / الى مستودع العدم

لكنما فؤادي المفتون في غرامها أبى

لأنني تركت في عطفاتها / بعض الشظايا منه

والتجربة المخضرمة / وبصمة القدم

لأنني علقت في شرفاتها / قصائدي المخبولة الهوى،

مشاعل لجولة الظبا / تقودها «الجازية» التي تكون في المقدمة

باسمة، ضاحكة، مهمهمة / تأسرها / عبارة معسولة ومبهمة

من أحد الشباب في الزحام والبضائع المكوّمة

وإذ «عبدالله الفضالة» / يصدح في الاسماع

بصوته المشحون بالأسى / ينّسل من «بشتخته» قديمة مرنّمة:

«يا أم عمر وجزاك الله مكرمة» / فقلت أي مكرمة؟!

يا عمنا المغني العظيم / فالأمة المأزومة المنهزمة

تلك التي تقعي كما / شحاذة / كسيره وهرمه

تستجدي الامجاد من تاريخها / وتشتمه

***

أسير في «السكيك» ولا ارى سوى العمائر المهجورة المهدمة

ابحث عن صديقتي العجوز «ام عوف» / وابنتها الجميلة «الهنوف»

تلك التي تحني الكفوف / وتنثر العطور / والبخور / من «مبخر» يدور

في «سوق واجف» القديم / وحينما تطوف

يهفهف «النفنوف» / والبرقع الشفاف والعباءة الرهيفة المنمنمة

ينتعش الرواد / وينتشي «جواد» / بائع الخزف فيطلق الموال

«يا مال يايا مال / يا مال يايا مال»

يهز جاره الهندي «مسلمان» رأسه الصغير / ويحمل الـ«سيتار»

مدوزنا أوتاره المشدودة المنتظمة / مغمغما «يالالي لالا لال». وتستمر الغمغمة.

أسير في شوارع الكويت / ترتح في مسامعي الدفوف

من فرقة «ام زايد» الشعبية / او فرقة «المعيوف»

ابحث في الاسواق عن:

دكان «بوعثمان» / ذاك الذي قد كان

يكرع في حانوته «القدوّ» / في سالف الزمان

تحيط به ثلّة من البدو / جاؤوا من الصحراء

بحثا عن السلف / كي يشتروا العلف

ان جاء وقت الجدب / أو يلجأوا اليه / في احلك الظروف

وعندما يطلبهم الامير / في العزم / أو في الجرم / ايام وقت السلب

وان يسددوا ديونهم اليه / ان جاء وقت الخصب / وباعوا «القعود» والخروف ومحبكات السدو

***

أسير في الكويت / بحثا عن «المرقاب»

ومسكن العزاب / لانه قد كان

يقطنه صديقي المهري «باعطب» اذ كان يولم لي «برمه» لحم التيس

و«الحلبة» العجب / وحزمة من الجرجير / والبرير / والريحان

والقهوة الخضراء / وسلة من الرمان والعنب

لكنه كما سمعت - مات - في آخر الحروب في اليمن

لانه خطب / خطبته الشهيرة العصماء ضد الحرب

وكانت السبب.

back to top