شعار الدولة الواحدة (4) سيناريوهات محتملة

نشر في 05-10-2008
آخر تحديث 05-10-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد في نهاية الملحمة الطويلة لا يصح إلا الصحيح: أي دولة فلسطينية واحدة في كل فلسطين تحت الانتداب.

ولكن هذا هو «الحل النهائي» الحقيقي أو في الحقيقة بدايته الشرعية. أما الطريق للوصول إليه فلن يكون في الوقت الحالي شيئا آخر غير الدولة الفلسطينية، قد يبدو ذلك أمراً متناقضا، ولكن التناقض مرفوع لأسباب كثيرة. أولها أن المروق الفوري لدولة واحدة مرفوض إسرائيليا أكثر بكثير حتى من التسليم بإعادة كل الأراضي المحتلة في يونيو 1967. ومنها أيضا أنه حتى لو وافقت إسرائيل فلن تكون هذه الدولة سوى اتحاد مظهري أو قانوني صرف بين مجتمع يهودي بالغ التقدم من النواحي السياسية والتكنولوجية والاقتصادية ومجتمع فلسطيني لا يزال يحبو في طريقة لتلمس أبجديات بناء دولة حديثة ومؤسسات هذه الدولة. وهذا يعني استبدال الاستعمار الخارجي باستعمار داخلي. وقد يكون الأخير أشد وطأة على النفس الفلسطينية من الأول. ولهذا قلنا إن بناء دولة فلسطينية والأهم إعادة بناء المجتمع الفلسطيني شرط بالغ الأهمية للمروق إلى الدولة الواحدة بنهاية المطاف. وما إن تنشأ دولة فلسطينية حقيقية تقوم بإشعال محرك التطور الحضاري العام في المجتمع الفلسطيني حتى يصبح قاب قوسين أو أدنى من الدولة الواحدة ثنائية القومية الصحيحة. فبناء تجربة سياسية وطنية أصيلة يقلل كثيرا المسافات بين «القوميتين» الفلسطينية واليهودية ويمهد لعلاقات متكافئة لا تماثل الاستعمار الداخلي. بل قد تمهد لإذابة المجتمع اليهودي في فلسطين في المحيط العربي والشرق أوسطي الأوسع.

الأسئلة الكبرى

ولكن تبقى مشكلات كبيرة وأسئلة لا حصر لها في هذه الرؤية: هل يمكن للمجتمع الفلسطيني أن يسرع الخطى في بناء دولة حديثة بعدما فشل طوال هذا الوقت؟ هل يمكن أصلا بناء دولة حديثة في ظل الاحتلال الذي قد يتغير في الشكل ويبقى جانب كبير من مضمونه؟ هل يمكن أن ينجح في تعبئة الموارد والقدرات الفلسطينية التي تبعثرت لأجيال في الدياسبورا؟ هل يستطيع أن يوفر الظروف الثقافية المناسبة للوعي بضرورة التخلي عن استراتيجية النضال المسلح بينما الغضب يأكل القلوب ويحيل العقول الى شيء ثابت واحد وهو إن لم يكن التحرير بالقوة فهو الانتقام للشرور والجرائم الطويلة التي ارتكبها الصهاينة في أكثر من مئة عام من الاضطهاد؟ والأهم هل يمكن أن تتوافر لدى أي قوة فلسطينية أو تيار من التيارات التاريخية للوطنية الفلسطينية وضوح الرؤية والمكاشفة السليمة لإعلان تبني مثل هذه الاستراتيجية والتخلي عن النضال المسلح؟ وهل تملك هذه التيارات خبرة بناء وإدارة مجتمع حديث وهي التي حصرت خبراتها أساسا في النضال المسلح وإدارته سياسيا؟ وما موقف التيار الإسلامي الذي يهمه أكثر بناء دولة إسلامية أكثر من أي شيء آخر؟

هذه الأسئلة تصعب الإجابة عنها حاليا قبل أن نخلص من الإجابة النظرية عن السؤال الأساسي في ما طرحناه حتى الآن، وهو بناء دولة فلسطينية تكون مرحلة تمهيدية لدولة واحدة في كل فلسطين. هذا السؤال هو: كيف يمكن أن يتم ذلك وعبر أي سيناريوهات سواء من الناحية السياسية-القانونية أو من الناحية الفعلية.

سيناريوهات بديلة

لدينا هنا سيناريوهات متعددة. طرح الفكر الفلسطيني صيغة الدولة الفلسطينية التي تنشأ بصورة تفاوضية، ولكن هذا السيناريو مليء بالإعاقات، فإسرائيل ليست في وضع تفاوضي إلا على سبيل التلاعب وشراء الوقت، ولن يكون من الممكن تتويج هذه المفاوضات بأي حل يقترب من صيغة دولة كاملة السيادة القانونية عاصمتها القدس الشرقية وعلى كل الأرض المحتلة في يونيو 1967 قبل أن يقترب الرئيس الأميركي الجديد من نهاية ولايته الأولى. وعندها ستكون خطط الاستيطان قد مضت مشواراً أطول بكثير. ولذلك يبدو الأمل في هذا السيناريو في الحقيقة محصورا في فك الصلة بين المفاوضات وأميركا، والبديل الوحيد العملي والقابل للتجربة في الأمد القصير والمباشر هو تدشين مفاوضات عربية إسرائيلية شاملة، والشرط الأساسي لنجاح هذا السيناريو هو أن يملك العرب الإرادة السياسية للتركيز على نيل مطلب الدولة، وهو ما يعني الاستعداد أيضا لدفع استحقاقات النجاح والفشل.

ولا أعارض شخصيا هذا السيناريو ولكني أجده بعيد المنال في الوقت الحالي لا لسبب سوى انهيار النظام العربي وعجزه الكلي عن إسناد مطلبه بقوة واقتدار سياسي واستراتيجي بما يشمل دفع ثمن في حالة النجاح ومعاقبة إسرائيل بكل قوة في حالة الفشل. وتحديداً لا يملك العرب الإرادة السياسية للعودة لسياسة صراع وتطويق كاملين وفعالين.

فإن كان هذا السيناريو بعيد المنال لا يبقى أمامنا سوى سيناريو آخر تماما، فالافتراض الجوهري في الاستراتيجية البديلة التي اقترحتها في هذا المنبر خلال الأسابيع الخمسة الماضية هو إطلاق القدرات الحضارية للشعب الفلسطيني في الصراع من أجل تحرير الشعب الفلسطيني. ويقوم السيناريو الثاني إذا على بناء تجربة سياسية وحضارية أصيلة في الأرض المحتلة بغض النظر عن المفاوضات ونتائجها، ومع ذلك يحتاج هذا السيناريو لإطار قانوني سياسي يضمن للفلسطينيين على الأقل كامل الحقوق المدنية. إذ يستحيل على سبيل المثال القيام باستثمارات كبيرة ودعوة جميع الأطراف ذات الصلة بدعم وإسناد هذا البناء الحضاري من دون ضمان أمن هذه الاستثمارات الكبيرة. وأرجح أن يكون من الممكن بسهولة الحصول على هذه الضمانات في ظل اتفاق أوسلو ومن خلال سلسلة من الاتفاقيات التي يدخل فيها الاتحاد الأوروبي طرفا. ويمكن بكل تأكيد إبرام سلسلة من الاتفاقيات الوظيفية بين السلطة الوطنية في إطارها القانوني الحالي وإسرائيل، خصوصا إن دخل الأوروبيون طرفاً أصيلا فيها أو ضامنا لها.

وبينما لا يحتم هذا السيناريو حلا سياسيا فهو يسمح بإطلاق القدرات الحضارية للشعب الفلسطيني والوفاء بالشروط الأساسية لبناء دولة فلسطينية ذات معنى أو المروق المباشر لحل الدولة الواحدة في ظل نجاح هذا السيناريو الحضاري. وميزة هذا السيناريو مع ذلك أنه في الحقيقة يلبي متطلبات التعديل الجوهري لعلاقات وتوازنات القوى على الأرض وتحديدا القوى الناعمة التي هي أكثر تأثيراً في الواقع الفعلي عن القوة الصلبة أو العسكرية. ومن ناحية أخرى لا يكون الفلسطينيون قد تنازلوا عن أي شيء يتعلق بحقوقهم التاريخية، بل إنه يجنبهم مأساة التنازل الجزئي أو الكلي عن كل أو بعض حقوق العودة والتعويض كما نص عليه القرار الدولي 194.

وثمة سيناريو ثالث وأخير يقوم على البناء الفعلي لدولة فلسطينية في كل شبر من الأرض المحتلة ليس نتيجة لمفاوضات ناجحة إنما بقوة الأمر الواقع. ويكون ذلك ممكنا بشكل أفضل بكثير لو تم «تدويل المسؤولية» عن بناء دولة واقتصاد فلسطيني ولو في ظل الاحتلال. وفكرة التدويل قديمة وتجددت بشكل آخر من خلال مطلب الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، وفشلت فكرة التدويل أساسا بسبب اختلاطها مع الاستمرار في استراتيجية التحرير العسكري. وإن تخلّى الفلسطينيون بوعي عن هذه الاستراتيجية الأخيرة لقاء تبني استراتيجية التحرير الحضاري فسيكن من السهل القيام بتدويل فعلي للمسؤولية عن بناء الاقتصاد والدولة أي بحماية هذا البناء.

ونعني بتدويل المسؤولية عن بناء الاقتصاد والدولة إحداث قفزة هائلة في مستوى المشاركة العالمية في إدارة البناء الفعلي ومستوى تنوعها. إذ يمكن دفع الاتحاد الأوروبي وعدد كبير من المنظمات الدولية الحكومية بأدوار متنوعة في رعاية عمليات بناء نظم العمل الفلسطينية. وفي نفس الوقت تقوم المنظمات المدنية والقوى الشعبية المناضلة من أجل العدالة الدولية بدور مباشر في العمل المشترك مع المجتمع المدني الفلسطيني. وفي لحظة معينة سيكون الأوربيون وغيرهم قد صاروا طرفاً مسؤولا على الأرض بما يحتم عليهم التفاوض مع إسرائيل عبر إسناد الموقف الفلسطيني أو حتى نيابة عنه حول الاستقلال وبناء الدولة على قاعدة القانون الدولي.

وتبقى بالطبع الأسئلة الكبيرة التي أثرناها من قبل حول مدى الاستعداد الفلسطيني لتوفير استحاقات هذه الاستراتيجية البديلة. ولا أرى سبيلا لضمان توفير أكبر قدر ممكن من هذا الاستعداد سوى خوض حوارات مكثفة عربيا وفلسطينيا.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

back to top