روسيا وإيران ومخاطر ما بعد حكم الفرد المطلق

نشر في 04-10-2022
آخر تحديث 04-10-2022 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت في بعض الأحيان، قد تشكل دورة الأخبار أكثر من مجرد ضوضاء، فهي تزودنا من حين إلى آخر بإشارة صاخبة وخارقة حول ما قد يكون كامنا وراء الأفق، حدث شيء من هذا القبيل الشهر الماضي، عندما ظهرت إلى الوجود تطورات جيوسياسية أكثر تبشيرا، وأشد خطورة، ومختلفة جذريا، في غضون أيام قليلة حرفيا شهدنا شبه انهيار الجيش الروسي في أوكرانيا وإذلال النظام في شوارع المدن الإيرانية.

كشف جنود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن كونهم مجرد جماعة من الغوغاء، فبعد أن عذبوا وأساؤوا معاملة المدنيين الذين وقعوا تحت سيطرتهم، تخلوا فجأة عن مواقعهم وفروا هاربين حرفيا مولين الأدبار للقوات الأوكرانية المتقدمة، وربما تتحول دولة الأمن القومي ذات الميول الفاشية بقيادة بوتين إلى رماد، ويكشف تهديد بوتين بشن حرب نووية عن حقيقة مفادها أن الأنظمة الاستبدادية تبلغ أشد مستوياتها خطورة في السنوات التي تسبق سقوطها.

أما عن إيران، فقد تجلى خزي النظام وسوء سمعته بين رعاياه في أوضح صورة، مع الاحتجاجات الحاشدة التي اجتاحت عشرات المدن والحشود التي تطالب بنهاية الجمهورية الإسلامية. هذا الغضب، الذي عملت وسائط التواصل الاجتماعي على تأجيجه، اشتعلت شرارته بسبب مقتل مهسا أميني على يد ما يسمى شرطة الأخلاق، مهسا أميني امرأة تبلغ من العمر 22 عاما كانت محتجزة لعدم ارتدائها الحجاب على النحو الصحيح، لكن عشرات السنين من القمع والفساد، والاقتصاد المخرب، كانت الوقود الذي غذى الاحتجاجات.

غيرت الحرب الدائرة في أوكرانيا بالفعل الأوضاع الجيوسياسية الأوروبية والعالمية، لكن نهاية نظام بوتين من شأنها أن تؤدي إلى تحولات لا حصر لها: فقد يتفكك الاتحاد الروسي ذاته، في حين يتوسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي شرقا، وعلى نحو مماثل، قد يُـفـضي سقوط نظام رجال الدين في إيران إلى تغيير الشرق الأوسط بأسره، وينهي فعليا الحرب الطائفية بين السُـنّـة والشيعة التي دامت عقودا من الزمن، ويحسن بدرجة كبيرة من الوضع الاستراتيجي لإسرائيل والدول العربية المحافظة، بل قد يؤدي سقوط هذا النظام إلى تعزيز استقرار العراق، ناهيك عن لبنان وسورية.

لا يواجه النظام الروسي ولا النظام الإيراني الآن تهديدا مباشرا بشكل خاص، فكل منهما قادر على الاستمرار لسنوات، لكن هذا الشهر قدم لنا لـمحة عن زوال النظامين في نهاية المطاف، لأن بوتين لا يستطيع الفوز في حربه في أوكرانيا أو حتى الخروج منها متعادلا، ولأن الملالي (رجال الدين) مبغوضون صراحة بين قطاعات واسعة من مواطنيهم، فيجب أن يُـنـظَـر إلى مسألة سقوطهم على أنها مسألة وقت، وفي عالَـم حيث من الممكن أن تنتشر أخبار هزيمة عسكرية، أو عمل عنيف، أو تصرف غامض ورمزي، في التو والحال على وسائط التواصل الاجتماعي، يعجز رجال من أمثال بوتين والمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي عن النوم ملء جفونهم.

ولكن في حين أن هذه الأنظمة ليس لها مستقبل حقيقي فلا يوجد بديل واضح وقابل للتطبيق مؤسسيا يحل محلها، وهنا يكمن الخطر الجيوسياسي، فنحن لا نتحدث عن أي دولتين، حيث إن روسيا قوة عظمى مسلحة نوويا، وإيران دولة محورية رئيسة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وعلى وشك أن تتحول إلى قوة نووية.

حتى عندما تنجح الديموقراطية، فإنها لا تنشأ بين عشية وضحاها في دول لا تعرف تقاليدها الحقيقية، وكثيرا ما يترتب على حلولها المفاجئ سنوات من الاضطرابات، كانت تسعينيات القرن العشرين في روسيا، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، فترة اتسمت بتفشي الجريمة، والفوضى الاقتصادية، والإصلاحات الرديئة الإدارة التي تركت ما يقرب من 70% من الروس يعيشون عند أو دون خط الفقر، ومن هذه الدوامة من الديموقراطية المختلة وظيفيا ظهر بوتين أخيرا.

من عجيب المفارقات أن إيران مرت عبر مرحلة انتقال سياسي أقل إيلاما وأقصر أمدا في عام 1979، لأن الديموقراطية لمن تكن قَـط أحد أهداف الملالي، بل سارعوا إلى وضع استبداد رجال الدين في محل استبداد الشاه، لكن الملالي دمروا مجتمعهم إلى الحد الذي ربما أصبحت معه إيران ما بعد حكم رجال الدين غير قابلة للحكم أو قد تتفكك حتى على أسس عِـرقية وجغرافية عديدة.

وعلى هذا فإن الغَـلَبة الديموقراطية التي ستصاحب سقوط هذين النظامين في السنوات المقبلة سرعان ما ستفسح المجال أمام إدراك واقعي للفراغ السياسي الهائل في موسكو وطهران، حيث ربما تنتظر في الكواليس قوى أكثر راديكالية، مثل القوميين الروس المتطرفين في روسيا والحرس الثوري في إيران، وكلما كان الطغيان أشد تدميرا كانت الفوضى اللاحقة أكثر تغلغلا. في هذا العالَـم الفوضوي الذي تجلبه نهاية الطغيان والاستبداد، سيكون الهدف المهيمن البحث عن النظام، وبين المثقفين وصناع السياسات، سيحل الخوف من الفوضى محل الخوف من الاستبداد، ومن الأسهل أن نتخيل هذا السيناريو عندما نضع في الحسبان مدى صعوبة تحقيق الاستقرار في الدول والمجتمعات المنهارة تماما التي سيخلفها بوتين والملالي في أعقابهم، ومن الواضح أن انحدار حكم الفرد المطلق لن يؤدي إلا إلى جعل عمل الديموقراطية أصعب إلى هذا الحد.

* رئيس قسم الدراسات الجيوسياسية في معهد أبحاث السياسة الخارجية وأحدث مؤلفاته الكتاب المرتقب «العقل المأساوي: الخوف، والمصير، وعبء القوة».

*روبرت د. كابلان

Project Syndicate

back to top