وطن لا يشبه وطناً

نشر في 29-08-2022
آخر تحديث 29-08-2022 | 00:08
 خولة مطر تحط الطائرة وتبقى متشوقاً أو مترقباً لذلك الهواء الساخن الذي عادة ما يلسع وجهك وأنت خارج منها في موسم الصيف الطويل، فبعض انبهار بذلك المطار الجديد أو ربما لنشوة هي نشوة العودة للوطن حتى لو لم تتباعد الأوقات كثيراً فأنت لم تغب سوى بضعة أشهر.

مع انتهاء الإجراءات المريحة كأهل بلدك الطيبين أو ربما الأحباء ودماث الخلق، لا بد من تلك اللسعة الساخنة مع الخروج من جنة المبنى الحديث جداً والبارد جداً أيضا إلى الشارع الخارجي.

هي ساعات الصباح الأولى والناس لا يزال معظمهم نياما إلا من بعض السهارى وبعض السياح من الدول المجاورة!! أو حتى العاملين الكادحين الحريصين على أن تكون البلاد في أجمل حلة ممكنة مع استيقاظهم من النوم، وهم ليسوا وافدين كما الحال عند «الجيران» بل كثير منهم من أهل البلد الباحث الكاد عن الرزق في زمن شحت فيه الوظائف، وأصبح العاملون هم المحظوظون، والباقي يبحثون عن مصدر رزق حتى لو كان أقل من الشهادات أو الخبرات التي يحملونها، فهذه دول تعيش على العمالة الرخيصة فقط!

يستقبلك ذاك الشاب ليساعد في وضع الحقائب في سيارات الأجرة التي يعمل عليها، ربما كل الذكور من العائلة، وهو أيضا عامل آخر للدلالة على شح الوظائف وعطش المواطن لفرصة عمل ودخل حتى لو كان أقل القليل!!!

تتحسس الشوارع والمباني والشمس تبدأ يومها الجديد، هو تحسس بصري، ذاك الذي يمر سريعا بحثا عن منزل هنا أو زقاق هناك أو شارع كان يعرفه، تبدو الشوارع والبيوت غريبة بعض الشيء، بل كل البلاد وفي الأفق يسرق ناظريك البحر الذي كان هو بوصلتك لكل الأمكنة التي تحب في بلدك، يغرق البحر ما بين ناطحات السحاب والجسور وكثير من الرمل القادم أو المتراكم على ضفافه، فالبحر في بلادي بدأ يصغر فيصغر حتى أصبح بعيدا عن نظر المواطن العادي، وتحول هو الآخر إما إلى مساحات لفنادق فخمة بنجوم أكثر من خمسة!! أو إلى مساحات لمقاهٍ ومطاعم، أو فقط يدفن ثم يدفن ثم يدفن بالرمل في حين العالم كله يتطلع للحفاظ على الطبيعة وعلى الأنهار والبحار والأشجار، وهي الأخرى اختفت تلك التي كانت تميز هذا الوطن، ألم يكن يدعى بلد المليون نخلة هو الآن يتحول تدريجيا إلى غابة من الكونكريت في محاولة للتشبه بتلك البلاد القريبة جداً والتي ذاع صيتها على أنها النموذج الأوحد، حتى تحولت إلى شيء من كل شيء، ولا يشبه بعضه بعضا!!! أو كما قال ذاك الذي كان يجلس على الكرسي الملاصق لكرسيي في تلك الطائرة التي حملتنا من لندن حين سأل عن رأيي في نماذج التنمية في المنطقة، ومن ثم قال بحذر أوروبي شديد «هذا الذي يسمى نموذجا للبلاد ليس بلداً بل هو نادٍ للأثرياء»، أو ربما لم يقل الأثرياء بل قال بالحرف «هو ليس كونتري بل كونتري كلب»!!

تستمر في البحث عن معلم ولو كان صغيراً ومتواضعاً تتعرف عليه لتستدل على مدينتك الأولى، حيث يكون المطار رغم أنه ينسب إلى العاصمة حتى الآن، وهو أمر غريب آخر ولكن لا يهم الأهم أن يبقى الوطن يشبه ما تعرفه أو ما تستطيع أن تتعرف عليه رغم معرفتك أن المدن تتغير وتتشكل فيما يسمى «التطور والمدنية»!

حتى ذاك الجسر الأول والأوحد لسنين اختفى خلف المباني، وكثير من الرمل وبعض القبح هو الذي كان السبب الأساس لولادتك في المنزل، فقد كان يفتح في ساعات معينة لمرور السفن الكبيرة، وكان المستشفى في العاصمة، فكان ما كان، وولدت في منزلكم في مدينتك التي لا تزال تسكن قلبك كما كانت في طفولتك الأولى، حيث كان المذياع أو «الراديو» هو وسيلة تواصلنا الوحيدة، وأيضا ربما وسيلة فكرنا ومعرفتنا وتذوقنا للموسيقى والأغاني الراقية، وأهمها طبعا ودون منازع أم كلثوم في ليلة الخميس، حينها يسود صمت الشوارع ويصدح صوتها من خلف كل نافذة أو مقهى أو دكان صغير، فقط أم كلثوم وخطابات الرئيس عبدالناصر كانت قادرة على إيقاف أصوات لاعبي «الكيرم» والدمينو في القهوة المسترخية في منتصف الباحة المطلة على حينا.

كم تغير الوطن هنا مع كل زيارة، ولم يبق سوى أهله الطيبين يستقبلونك بالسلام وابتسامة عريضة ويودعونك أيضا سائلين «متى الرجعة» أو بسؤال ألم يحن الوقت للعودة والاستقرار؟

* ينشر بالتزامن

مع «الشروق» المصرية

خولة مطر

back to top