مواجهة محتدمة بين الغرب وبقية دول العالم

نشر في 24-06-2022
آخر تحديث 24-06-2022 | 00:04
كان بوتين يرغب في إضعاف «الناتو» منذ وقتٍ طويل، لكن يبدو أن حربه ضد أوكرانيا حققت هدفاً معاكساً فهي لم تُجدّد قوة الحلف فحسب بل منحته هدفاً جديداً بعد تجربة أفغانستان، ووسّعت نطاقه، نظراً إلى احتمال انتساب السويد وفنلندا إليه.
ارتكب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أربعة أخطاء كبرى في حساباته قبل إطلاق الغزو ضد أوكرانيا، فقد بالغ في تقدير كفاءة الجيش الروسي وفاعليته، واستخف بقوة إرادة الأوكرانيين وتصميمهم على المقاومة، وأخطأ أيضاً حين افترض أن الغرب المنشغل بملفات أخرى يعجز عن توحيد صفوفه سياسياً للتصدي للهجوم الروسي، وظن أن حلفاء الأوروبيين والأميركيين في آسيا لن يدعموا العقوبات المالية والتجارية الواسعة أو القيود المفروضة في مجال الطاقة لأي سبب.

لكنه أصاب في توقّع واحد: لن يدين المعسكر غير الغربي روسيا أو يفرض عليها العقوبات، ففي يوم اندلاع الحرب، حرص الرئيس الأميركي جو بايدن على تحويل بوتين إلى «زعيم منبوذ على الساحة الدولية»، لكن لا تعتبره معظم دول العالم منبوذاً.

على مر العقد الماضي، طوّرت روسيا علاقاتها مع دول الشرق الأوسط، وآسيا، وأميركا اللاتينية، وإفريقيا، وهي المناطق التي انسحبت منها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، كذلك حرص الكرملين على التقرّب من الصين منذ ضم شبه جزيرة القرم في 2014، وعندما حاول الغرب عزل روسيا، تدخلت بكين دعماً لموسكو واتخذت خطوات عدة مثل التوقيع على صفقة خط أنابيب الغاز «قوة سيبيريا».

صوّتت الأمم المتحدة ثلاث مرات منذ بدء الحرب: مرتَين لإدانة الغزو الروسي، ومرة لتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، ومرّت هذه القرارات، لكن عند احتساب حجم الشعوب الموجودة في الدول التي امتنعت عن التصويت أو صوّتت ضد تلك القرارات، سيتبيّن أنهم يشكّلون أكثر من نصف سكان العالم.

باختصار، لم يتوحّد العالم لاعتبار العدوان الروسي غير مبرّر، ولا يبدي جزء كبير منه استعداده لمعاقبة روسيا على أفعالها، بل تسعى دول معيّنة إلى الاستفادة من وضع روسيا الراهن، ومن المتوقع أن يجد الغرب صعوبة متزايدة في السيطرة على علاقاته مع حلفائه وأطراف أخرى اليوم وبعد انتهاء الحرب، نظراً إلى تردد المعسكر غير الغربي في تهديد علاقاته مع روسيا خلال عهد بوتين.

الصين هي الدولة التي تقود المعسكر غير الغربي الذي يرفض إدانة أفعال روسيا، فما كان بوتين ليغزو أوكرانيا أصلاً لو لم يكن متأكداً من الدعم الصيني لروسيا مهما حصل، إذ يؤكد بيان مشترك وقّعت عليه الصين وروسيا في 4 فبراير، وحين زار بوتين بكين في بداية الألعاب الأولمبية الشتوية، على شراكتهما «اللامحدودة» والتزامهما بالتصدي للهيمنة الغربية. قال سفير الصين في الولايات المتحدة إن الرئيس الصيني شي جين بينغ لم يطّلع على خطط بوتين المرتبطة بغزو أوكرانيا حين اجتمع الرئيسان في بكين، لكننا لن نعرف يوماً حقيقة ما قاله بوتين لنظيره الصيني، سواء ألمح إلى ما ينوي فعله أو كشف معلومات أخرى صراحةً.

كانت عودة روسيا إلى الشرق الأوسط من أبرز النجاحات التي حققها بوتين خلال العقد الماضي، فأعاد بذلك ترسيخ علاقاته مع دولٍ انسحبت منها روسيا بعد الحقبة السوفياتية وطوّر علاقات أخرى مع بلدان لم تكن مرتبطة بالاتحاد السوفياتي.

اليوم، أصبحت روسيا القوة العظمى الوحيدة التي تتواصل مع جميع دول المنطقة، بما في ذلك البلدان السنّية مثل المملكة العربية السعودية، والدول الشيعية مثل إيران وسورية، حتى أنها على علاقة مع جماعات متورطة في جميع النزاعات القائمة، واتّضحت نتائج التواصل مع دول الشرق الأوسط منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.

صوّتت معظم الدول العربية على قرار إدانة الغزو الروسي خلال أول تصويت في الأمم المتحدة، لكن لم تتخذ جامعة الدول العربية المؤلفة من 22 دولة خطوة مماثلة لاحقاً، وامتنع عدد كبير من الدول العربية عن التصويت على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، ولم يفرض أقوى حلفاء واشنطن، بما في ذلك السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، أي عقوبات على روسيا، كذلك، تكلم بوتين وولي العهد السعودي محمد بن سلمان مرتَين منذ بدء الحرب.

يتأثر الموقف الإسرائيلي بالدعم الروسي لنظام بشار الأسد في سورية حيث تنتشر القوات الروسية والإيرانية معاً، وتفاوضت إسرائيل على اتفاق لمنع تضارب المصالح مع روسيا، مما يسمح لها بضرب الأهداف الإيرانية في سورية، إذ تخشى إسرائيل أن تضعف قدرتها على الدفاع عن حدودها الشمالية إذا قررت معاداة روسيا، فقد أرسلت مستشفىً ميدانياً ومساعدات إنسانية أخرى إلى أوكرانيا، لكنها لم ترسل أي أسلحة. حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، لعب دور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا لفترة وجيرة، لكن لم تنجح مساعيه.

يتأثر موقف دول الشرق الأوسط تجاه روسيا أيضاً بتشكيكها بالولايات المتحدة واعتبارها شريكة غير جديرة بالثقة أحياناً في تلك المنطقة، وبانزعاجها من الانتقادات الأميركية لسجلها في مجال حقوق الإنسان، لكن تبقى سورية الدولة الوحيدة الموالية لروسيا صراحةً، إذ كان رئيسها بشار الأسد سيسقط منذ فترة طويلة لولا الدعم العسكري الروسي.

على صعيد آخر، رفضت القارة الإفريقية عموماً إدانة روسيا أو فرض العقوبات عليها نظراً إلى عودة روسيا إلى إفريقيا في السنوات الأخيرة والدعم الذي يمنحه مرتزقة «مجموعة فاغنر» إلى القادة المحاصرين هناك. امتنعت معظم الدول الإفريقية عن التصويت لإدانة الغزو الروسي، وصوّت عدد منها ضد تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان.

برأي عدد كبير من الدول الإفريقية، تُعتبر روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي الذي دعمها خلال الصراعات المناهضة للاستعمار، وكان الاتحاد السوفياتي داعماً كبيراً للمؤتمر الوطني الإفريقي خلال حقبة الفصل العنصري، وتشعر قيادة جنوب إفريقيا اليوم بالامتنان تجاه روسيا، وكما يحصل في الشرق الأوسط، تؤثر العدائية تجاه الولايات المتحدة أيضاً على الآراء الإفريقية بالغزو الروسي.

في الوقت نفسه، تتكل روسيا على داعمين لها في جوار الولايات المتحدة، حيث دعمت كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا موسكو، كما كان متوقعاً، لكن رفضت دول أخرى إدانة الغزو أيضاً، وقد أعلنت البرازيل موقفاً «حيادياً»، وزار الرئيس جايير بولسونارو بوتين في موسكو بعد فترة قصيرة على بدء الغزو وأعلن تضامنه مع روسيا، وتجدر الإشارة إلى أن البرازيل تتكل حتى الآن على واردات الأسمدة الروسية.

لكن يبقى رفض المكسيك الانضمام إلى جبهة أميركا الشمالية الموحّدة مع الولايات المتحدة وكندا وإدانة الغزو الروسي الموقف الأبرز في هذا المجال، حتى أن حزب «مورينا» بقيادة الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور أطلق «تجمّع الصداقة بين المكسيك وروسيا» في مارس، ثم دعا السفير الروسي إلى إلقاء خطاب أمامه، وقد تفسّر النزعة اليسارية التقليدية والمعادية للولايات المتحدة، كتلك التي سادت خلال السبعينيات، جزءاً كبيراً من هذا الدعم لروسيا، وهي تمنح موسكو فرصاً جديدة لنشر الخلافات في الغرب.

قد يشكّل المعسكر غير الغربي أكثر من نصف سكان العالم، لكنه الجزء الأكثر فقراً وهو يتألف من دول أقل تطوراً، حيث يتفوق الغرب بأشواط على نفوذ الدول التي رفضت إدانة الغزو أو معاقبة روسيا، من حيث الناتج المحلي الإجمالي والقوة الاقتصادية والثقل الجيوسياسي.

لكن من المتوقع أن تُحدد الانقسامات الراهنة بين الغرب والمعسكر الآخر شكل أي نظام عالمي قد ينشأ بعد انتهاء الحرب، إذ تبقى الصين والهند أهم بلدَين مؤثرَين، فهما تضمنان ألا يصبح بوتين منبوذاً على الساحة الدولية بعد انتهاء الصراع. سبق أن أعلنت إندونيسيا، التي تستعد لاستضافة قمة مجموعة العشرين في شهر نوفمبر، أنها سترحّب بحضور بوتين، لكنها أرسلت دعوة إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أيضاً.

بعد انتهاء هذه الحرب الوحشية، ستتمكن الولايات المتحدة من تعزيز وجودها العسكري في أوروبا وقد تنشر قوات عسكرية دائمة في بلد واحد أو أكثر على الجناح الشرقي لحلف الناتو، فقد كان بوتين يرغب في إضعاف الناتو منذ وقتٍ طويل، لكن يبدو أن حربه ضد أوكرانيا حققت هدفاً معاكساً فهي لم تُجدّد قوة الحلف فحسب بل منحته هدفاً جديداً بعد تجربة أفغانستان ووسّعت نطاقه نظراً إلى احتمال انتساب السويد وفنلندا إليه، ومن المتوقع أن يعود الناتو إلى سياسة الاحتواء المكثّف لروسيا طالما سيبقى بوتين في السلطة وخلال المرحلة التي تلي عهده على الأرجح، ويتوقف هذا القرار على هوية الرئيس الروسي المقبل.

لكن خلال النسخة الجديدة من الحرب الباردة في القرن الحادي والعشرين، قد ترفض الدول غير الغربية الانحياز إلى طرف معيّن كما فعلت بلدان عدة خلال الحرب الباردة الأصلية، ومن المتوقع أن تظهر نسخة جديدة من حركة عدم الانحياز التي شهدتها سنوات الحرب الباردة، لكن المعسكر غير الغربي سيحافظ هذه المرة على علاقاته مع روسيا، حتى لو تعامل الأميركيون وحلفاؤهم مع بوتين كزعيم منبوذ.

أخيراً، قد يتراجع الاقتصاد الروسي ويخسر حداثته، ويصبح البلد أكثر اتكالاً على الصين إذا نجح في إنشاء «شبكة إنترنت مستقلة»، لكن ستبدي دول كثيرة استعدادها للتعامل مع روسيا وستحرص على عدم معاداة موسكو في جميع الظروف.

* أنجيلا ستينت

* أنجيلا ستينت – فورين بوليسي

من المتوقع أن تظهر نسخة جديدة من حركة عدم الانحياز التي شهدتها سنوات الحرب الباردة لكن المعسكر غير الغربي سيحافظ هذه المرة على علاقاته مع روسيا

كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا دعمت موسكو كما كان متوقعاً لكن دولاً أخرى رفضت إدانة الغزو مثل البرازيل التي أعلنت موقفاً «حيادياً»
back to top