غل يد المدين... من الغاية إلى الوسيلة

نشر في 21-06-2022
آخر تحديث 21-06-2022 | 00:00
المحامي هشام عماد العبيدان
المحامي هشام عماد العبيدان
تتمتع البيئة التجارية بطبيعة خاصة متداخلة مع دورة رأس المال؛ لأن التاجر لا يقوم بالشراء نقداً لجميع السلع أو الخدمات، رغم أنه يبيعها نقداً؛ وهو ما يُسمى بالائتمان التجاري.

وسبب استخدام التاجر آلية الائتمان هذه، هو أنَّه يُحاول استخدام اسمه ومركزه وثقة السوق به للحصول على تمويلٍ بالاقتراض؛ بغاية توسيع أعماله، ففي النهاية سيقوم التاجر بردِّ الدين، لكن بعد أن يُحقق أرباحاً مضاعفةً عمَّا إذا كان قد تعامَل بما يملكه من أموالٍ سائلةٍ فقط.

لكن مجتمع الأعمال التجارية أكثر تعقيداً من هذه الصورة؛ حيث إنه يحتوي على صراعات مصالحٍ، وترى فيه العلاقات متشابكةً ومُتَصَارِعَةً بين الشركات.

وبالتالي، فإنَّ تعارض المصالح المخفي بين التاجر المدين للبنك مع تاجرٍ منافسٍ له وعضو في مجلس إدارة نفس البنك الدائن له، هو أمرٌ واردٌ.

لذا، قد يحاول الدائن في البيئة التجارية تحصيل حقِّه مع إلحاق أكبر ضررٍ ممكنٍ بالتاجر المدين؛ مدفوعاً بغاية الإضرار به، وليس لأجل إرجاع مبلغ الدين فقط، خاصةً إن كان الدائن من الأقلية التي لم تقبلْ بالتسوية أو الهيكلة.

ولا توجد طريقة أفضل للإضرار بسمعة المدين التاجر أكثر من تقديم طلب إلى قاضي الإفلاس بغاية غل يد المدين عن إدارة أعماله وأمواله؛ هذا الإجراء القاسي الذي يَسحَبُ من التاجر أهلية التصرف بأمواله بشكلٍ كاملٍ حتى تنتهي الإجراءات القانونية بغرض ضمان حقوق الدائنين.

وبالنظر إلى الأضرار الجسيمة التي ستَلْحَقُ بالتاجر المغلولة يده، فقد حَصَرَ قانون الإفلاس رقم 71/2020 إمكانية غل يد المدين في حالةٍ واحدةٍ فقط من حيث المبدأ، وهي البدء بإجراءات شهر الإفلاس (م/144 إفلاس) بما يَشمَل جميع أمواله التجارية والشخصية (م/146، إفلاس)؛ ذلك حينما يكون المدين عاجِزَاً عن تسديد ديونه أو مُتَوَقِّفَاً عن تسديدها، دون أن يكون من أملٍ يُرتَجَى لاستمرار مشروعه.

بهذه الطريقة فقد حَمَى المشرع المدين التاجر من غل يده إلا إذا تعثرت أحواله المالية وكان مشروعه فاشِلاً لا يُتَوَقَّع أن يستعيد طريق الربح من جديد، عندها يكون غل يد المدين أمراً منطقياً لسببَيْن:

• أنَّ المدين قد يقوم بإفقار نفسه خلال إدارته لأعماله.

• أن المدين قد يقوم بمحاباة دائنين على حساب آخرين من نفس الفئة لوجود مصالحٍ تربطه معهم.

لكن النقاش الإشكالي ينشأ بخصوص الإجراءات الأخرى التي قد يتم تطبيقها على المدين التاجر بسبب تعثره المالي.

ففي حالة التسوية الوقائية: يبقى المدين مديراً لأعماله وفق قانون الإفلاس (م/60، إفلاس)؛ والسبب أنَّ المدين - بموجب افتتاح إجراءات التسوية - يكون قد بَرهَنَ على حُسن نيته وجدارَةِ مشروعه بالبقاء من خلال تصديق الدائنين على مقترح التسوية الذي يتقدَّم به المدين.

لذا، اعتبر المشرع أنَّ غل يد المدين في هذه الحالة يُشكِّلُ إضراراً غير مُبرَّرٍ له.

وفي حالة إعادة الهيكلة: فقد كرَّر المشرع ذات الموقف في السماح للمدين بإدارته أمواله بعد البدء بإجراءات الهيكلة (م/99، إفلاس)؛ والسبب هو ذاته المذكور بصدد التسوية، أي أنَّ المدين يُثبِتُ بعد المصادقة على خطة إعادة الهيكلة أنَّ مشروعَه قابل للاستمرار وأنَّه جدير بالبقاء على رأس إدارة هذا المشروع.

لكن الفرق الجوهري بين التسوية الوقائية وإعادة الهيكلة في هذه النقطة، هو أنَّ المشروع المدين في حالة الهيكلة يكون قد تعثَّر فعلاً (م/97، إفلاس)، بينما يمكن طلب التسوية لمجرَّدِ تَوَقُّعِ حدوث حالة التعثُّر (م/58، إفلاس).

إلا أنَّ التساؤل الهام بخصوص هذه القواعد هو عن مدى إلزاميتها للقاضي.

الحقيقة أنَّ قواعد غل يد المدين ليست من النظام العام، حيث إنَّه يحقُّ لقاضي الإفلاس أن يغلَّ يد المدين في حالة التسوية الوقائية (م/60، إفلاس) كما في حالة إعادة الهيكلة (م/99، إفلاس)؛ ولم يقمْ المشرع بتقييد سلطة القاضي في التقدير، فيحقُّ له أن يغل يد المدين لأيِّ سببٍ مشروعٍ؛ كأن يلمس القاضي اعتياد المدين على تبديد أمواله.

أمَّا في حالة شهر الإفلاس، فإنَّنا نَجِدُ حالةً استثنائيةً عكسيةً، أتَاحَ فيها المشرع للقاضي أن يَمنَحَ المدين القدرة على إدارة أمواله حتى بعد البدء بإجراءات شهر الإفلاس وما تَحمِلُهُ من مخاطرٍ على أموال الدائنين، لكن هذه القاعدة جاءت مُقيِّدَةً لإرادة القاضي؛ حرصاً على حقوق الدائنين، حيث يجب أن تتوفَّر أدلة على أن بقاء أموال المدين المفلس تحت إدارته يصبُّ في خانة (م/147، إفلاس):

• المصلحة العامة؛ كأن يكون المدين مُورِّداً لسلعٍ استراتيجيةٍ لا تَستَطِيع الدولة الاستغناء عنها، ولا توجد كفاءة لدى أيِّ أمين إفلاسٍ للحلول محل المدين في الإدارة.

• مصلحة الدائنين؛ كأن يكون المدين خبيراً في أعمال الشركة العائلية التي يُتَوَقَّع أنَّ إدارة الأمين لها ستؤدِّي إلى زعزعة السوق بها.

• مصلحة المدين المفلس نفسه؛ وهنا بيت القصيد، فقد يَلمس القاضي وجود مصالحٍ متعارضةٍ بين الدائنين والمدين، بلغت حدَّ سَعيِ الدائنين لغلِّ يد المدين بغرض الإساءة إلى سمعته التجارية كونه منافساً لأعمالهم الفرعية في السوق، ففي هذه الحالة قد ينقلب غل اليد من وسيلة لحفظ حقوق الدائنين إلى غاية بحدِّ ذاته للإضرار بالمدين؛ عندها يستطيع القاضي - بعد التأكد من صرامة رقابة الأمين على المدين - أن يسمح للمدين المفلس بإدارة أمواله.

لكن من وجهة نظر شخصية، تبدو القواعد الاستثنائية التي تسمح للقاضي بتجاوز مبادئ غل يد المدين أقلَّ حمايةً للمدين من احتمال تحوُّل طلب غل اليد من الدائنين إلى وسيلة انتقامٍ تجاريةٍ، بدليل أنَّ صلاحية قاضي الإفلاس في غل يده استثناءً لدى البدء بإجراءات التسوية الوقائية وإعادة الهيكلة تبدو شبهَ مفتوحةٍ، فيما تبدو صلاحية القاضي مُقيَّدَةً في عدم غل يد المدين المفلس.

لذا، نقترح النص على القواعد التالية:

• عدم إمكانية غل يد المدين في حالة التسوية الوقائية نهائياً؛ خوفاً من استخدام طلب غل اليد من أقلية الدائنين غير القابلين لمقترح التسوية كأداة للإضرار بسمعة المدين.

• السماح بغل يد المدين في حالة إعادة الهيكلة بشرط إثبات وجود خللٍ إداري لدى المدين أو شكٍّ في نزاهته فقط.

• زيادة صرامة الدور الرقابي الذي يلعبه الأمين على المدين المفلس المدير لأعماله بخصوص الغاية من التصرفات خوفاً من قيام المدين بإفقار نفسه أو محاباة بعض الدائنين.

back to top