في ظلال الدستور: وجوب نقل الاختصاص بالفصل في الطعون الانتخابية إلى قضاء المشروعية (2-3)

نشر في 27-04-2022
آخر تحديث 27-04-2022 | 00:10
 المستشار شفيق إمام تناولت في مقالي الأحد من هذا الأسبوع تحت العنوان ذاته كيف فصلت المحكمة الدستورية بين ولايتها الأصيلة في رقابة دستورية القوانين وبين اختصاصها بالفصل في الطعون الانتخابية، كمحكمة موضوع، إلا أنه بعد إقصاء قضاة التمييز عن تشكيلها، نكصت المحكمة الدستورية على عقبيها كمحكمة موضوع، في حكمها الصادر بجلسة 14/ 3/ 2021 في الطعن الانتخابي رقم 15 لسنة 2020، بإبطال انتخاب أحد الفائزين في الانتخابات البرلمانية العامة الأخيرة، وقد توغل الحكم على ولاية القضاء العام، وأهدر أحكامه في رقابة مشروعية القرارات الإدارية كما توغل على ولايته في تطبيق القوانين الجزائية مهدداً مبدأ شرعية التجريم والعقاب، بأن أعاد الحكم محاكمة المطعون في انتخابه، ووقع عليه عقوبة جديدة بأثر رجعي مما أوقع الحكم في حومة مخالفة المادتين (32 و34 ) من الدستور.

ونستكمل في هذا المقال الحديث عن المبادئ الدستورية التي أرستها ورسمتها في العديد من أحكامها وأطاحت بها في الطعن الانتخابي سالف الذكر.

احترام ولاية القضاء العام

حرصت المحكمة الدستورية على أن تضع حدوداً لولايتها، سواء في الرقابة على دستورية القوانين أو الفصل في الطعون الانتخابية وذلك:

بأن قضت بأنها ليست جهة طعن بالنسبة الى محكمة الموضوع، بل هي جهة ذات اختصاص أصيل حدده قانون إنشائها (جلسة 17/ 5/ 1994 في الطعن رقم 1 لسنة 1994). فنصت المحكمة الدستورية نفسها، في الطعن الانتخابي سالف الذكر، على أحكام محكمة النقض الحائزة لقوة الأمر المقضي فيه، فأهدرتها، كما قضت بعدم قبول الدعوى الدستورية إذا لم يكن من شأن الحكم في المسألة الدستورية التأثير فيما أبدي من طلبات في دعوى الموضوع وأمكن الفصل في الخصومة عن غير طريق المساءلة الدستورية. (جلسة 27/ 6/ 1992 في الطعن رقم 1 لسنة 1992).

كما حجبت المحكمة نفسها عن رقابتها للنص التشريعي، المطعون بعدم دستوريته إذا كان الفصل في الدعوى الموضوعية يقتضي إعمال قواعد قانونية منبتة الصلة بهذا الطعن (جلسة 7/ 7/ 97 في الطعن رقم 21 لسنة 97 وجلسة 25/ 4/ 98 في الطعن رقم 2 لسنة 1998)، وكذلك إذا كان الطاعن قد دفع بسقوط الدعوى الجزائية، بما كان متعينا معه على محكمة الجنايات الفصل في هذا الطلب قبل إحالة الدعوى إلى المحكمة الدستورية (جلسة 11/ 7 /98 في الطعن رقم 5 لسنة

98– وجلسة 10/ 11/ 98 في الطعن رقم 6 لسنة 1998).

نطاق ولاية المحكمة

بل حرصت المحكمة الدستورية، وفقا لما استقرت عليه أحكامها على أن تنأى بنفسها عن الولوج في تنازع اختصاص بينها وبين القضاء العام، صاحب الولاية العامة في الفصل في جميع المنازعات وفي تطبيق القوانين الجزائية، فقد استقرت أحكامها في كافة الطعون الانتخابية التي فصلت فيها على أن حدود ولايتها في الرقابة على العملية الانتخابية في مراحلها المتعددة يبدأ من التصويت ومرورا بالفرز حتى إعلان النتيجة، فيما قضت به في العديد من أحكامها، بأنها: "وتباشر المحكمة في هذه الصدد رقابتها القضائية التي تنصب أساسا على عملية الانتخاب بما يشمل مراحلها المتعددة المتمثلة في التصويت والفرز وإعلان النتيجة، وينعكس أثره على صحة من أسبغت عليه صفة العضوية لمن أعلن فوزه في الانتخابات، وبالتالي على ما تم في عملية الانتخاب برمتها من إجراءات توصلا للتأكد من سلامة تعبير الانتخاب عن ارادة الناخبين"، ومن ذلك الأحكام الصادرة في الطعون أرقام 10 و11 و12 و15 لسنة 2003.

وقد التزمت المحكمة الدستورية تخوم ولايتها التي حددتها لها عندما لم تتصدّ للإجراءات والقرارات الصادرة من الجهات الإدارية، قبل بدء التصويت فصانت حق الانتخاب، وحصنت جداول الانتخاب، متى استقرت نهائيا من خلال مراجعتها سنويا بطرق الطعن المختلفة فرفضت طعنا انتخابيا يقوم على أساس حرمان أحد الفائزين في الانتخابات البرلمانية من حق الانتخاب بسبب الحكم عليه بعقوبة في جريمة مخلة بالشرف، على سند من أن جداول الانتخاب تعتبر حجة قاطعة، لا يجوز للمحكمة أن تتصدى لها، وقد أخضعها المشرع للمراجعة ومن ثم للتعديل السنوي. (الحكم الصادر في الطعن الانتخابي رقم 9 لسنة 2006)، فقد كانت المحكمة الدستورية تجسد هذه المبادئ النبيلة.

إلا أن المحكمة الدستورية في الطعن الانتخابي رقم 15 لسنة 2020 سالف الذكر، قد أهدرت هذا المبدأ، بالرغم من اتفاق الطعنين في السبب الذي أقيما عليه، وهو إدانه المطعون في انتخابه في جريمة مخلة بالشرف والأمانة، إذ صانت المحكمة الدستورية حق انتخاب المطعون في انتخابه وحصنت جداول الانتخاب التي أدرج فيها اسمه في الطعن رقم 9 لسنة 2006، وأهدرتهما في الطعن رقم 15 لسنة 2020.

احترام أحكام القضاء

يعتبر دستور الكويت، وثيقة إنسانية وتقدمية لحقوق الإنسان، ومنها حق التقاضي، فوفر الدستور لهذا الحق ولحق الدفاع كافة الضمانات، التي تجعله جزءا من الضمير المجتمعي والضمير الإنساني، وعلى رأس هذه الضمانات وفي مقدمتها، ما أضفاه على القائمين على تحقيق العدالة، من اعتبارهم سلطة من السلطات الثلاث في المادة (53) وزاد على استقلاله الذي يستمده من مبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في الدستور وأنه لا يجوز لأي سلطة النزول عن اختصاصها المنصوص عليه فيه (مادة 50) استقلالا يستمده القضاء، من تولي المحاكم هذه السلطة، صدور أحكامه باسم الأمير (المادة 53) لإضفاء قوة تنفيذية على أحكامه في مواجهة السلطتين الأخريين، فهو راعي السلطات جميعا، التي عليها احترام الأحكام التي تصدر باسمه، وقد نص الدستور في المادة (163) على أنه لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائه، ليشمل عموم النص وإطلاقه، كافة الجهات ومنها الجهات القضائية ذات الاختصاص الخاص مثل المحكمة الدستورية، فالحكم العام يسري على عمومه، والحكم المطلق يجري على إطلاقه، ومن باب أولى على كل جهة قضائية تلتزم بها، وأن تصون لهذه الأحكام حجيتها.

كما ألزمت المادة (163) من الدستور المشرع بكفالة استقلال القضاء وجوهره احترام احكامه، ذلك ان من عناصر استقلال القضاء وحماية العدالة واحترام مبدأ سيادة القانون والدولة القانونية، احترام أحكام القضاء فلا يجوز وقف تنفيذها أو الامتناع عن تنفيذها، اأو تعديلها، إلا من خلال الإجراءات التي وضعها القانون للطعن عليها من خلال درجات التقاضي المختلفة.

ولأن المراكز القانونية، للأفراد إزاء الدولة، أو الأفراد فيما بينهم لا تستقر، ولا تهدأ النفوس وتطمئن إلا بإسهام الدولة القانونية، من خلال معاونيها في تنفيذ أحكام القضاء، فإن امتناع الموظف العام عن تنفيذ حكم قضائي يعتبر فعلا مؤثما جزائيا في تشريعات الدول المتقدمة، ومنها قانون الجزاء الكويتي، بل في دساتير بعض الدول، ومنها دستور مصر سنة 1971 والدستور الحالي.

وفي هذا السياق فقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر، بأن الدستور المصري عزز مبدأ سيادة القانون، بنص المادة 72 من الدستور التي صاغها بوصفها ضمانا جوهرياً لتنفيذ الأحكام القضائية من قبل الموظفين المختصين، واعتبر امتناعهم عن أعمال مقتضاها، أو تعطيل تنفيذها جريمة معاقب عليها قانوناً، وما ذلك إلا توكيد من الدستور لقوة الحقيقة الراجحة التي يقوم عليها الحكم القضائي وهي بعد حقيقة قانونية لا تجوز المماراة فيها". (جلسة 15/ 4/ 1995ق 27 لسنة 16 ق).

لا يسلط قضاء على قضاء

لهذا فقد كان مفاجئا وصادما للجميع، أن المحكمة الدستورية في الطعن الانتخابي رقم 15 لسنة 2020 سالف لذكر، قد أهدرت قوة الأمر المقضي فيه، لحكمين صادرين من محكمة التمييز:

أولهما: الحكم الصادر من محكمة التمييز بجلستها المعقودة بتاريخ 8/ 6/ 2014 القاضي بتأييد ما قضت به محكمة الاستئناف من الأمر بوقف تنفيذ العقوبة المحكوم بها على المبطل انتخابه– في الطعن الانتخابي سالف الذكر- وذلك لمدة ثلاث سنوات تبدأ من تاريخ صدور الحكم، وقد انقضت هذه المدة في 8/ 6/ 2017، فسقطت عقوبة الحبس المحكوم بها عليه، قبل ترشحه للانتخابات في سنة 2020، والساقط لا يعود، كما سقطت تبعا لها العقوبة التبعية، وهي وعقوبة الحرمان من حق الانتخاب، التي أوقعها حكم الدستورية على المطعون على انتخابه لأنها تدور وجودا وعدما مع العقوبة الأصلية، وكان قد رد إليه اعتباره قانونا، قبل إجراء هذه الانتخابات.

ثانيهما: الحكم الصادر من محكمة التمييز بتاريخ 3/ 12/ 2020 في الطعن رقم 2580 لسنة 2020 إداري 3، وهو الطعن الذي طعنت الحكومة فيه على الحكم الصادر من محكمة الاستئناف بتاريخ 10/ 11/ 2020 بإلغاء قرار وزير الداخلية رقم 955 /2020، القاضي باستبعاد المبطل انتخابه في الطعن الانتخابي سالف الذكر، من الترشح لانتخابات مجلس الأمة التي أجريت في 5/ 12/ 2020، فقضت محكمة التمييز، برفض الطعن المقدم من الحكومة، لأن حكم محكمة الاستئناف، بإلغاء قرار وزير الداخلية، قد أصاب صحيح حكم القانون، وأن القانون رقم 27 لسنة 2016 بتعديل المادة الثانية من قانون الانتخاب لا يسري بأثر رجعي على الحكم الصادر بإدانة المطعون في انتخابه، الذي صدر بإدانة المذكور قبل العمل بهذا التعديل في يوليو 2016، وقبل ارتكاب الفعل أصلا.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أنه من المقرر فقها وقضاء، أنه لا يجوز للمشرع أصلا أن يسلط قضاءً على قضاء، لذلك فإن قضاء المحكمة الدستورية بإهدار هذين الحكمين، يكون تسليط لقضائها، كمحكمة موضوع في الفصل في الطعون الانتخابية، على قضاء محكمة التمييز، وهي محكمة قانون، دون سند من الدستور أو القانون وهو ما لا يجوز.

المستشار شفيق إمام

back to top