دروس عالمية من أزمة كورونا

نشر في 30-03-2022
آخر تحديث 30-03-2022 | 00:00
 فوراين أفيرز قبل بدء جائحة "كوفيد19"، كان أهم خبراء الصحة يعتبرون الولايات المتحدة من أبرز الدول القادرة على التعامل مع تفشي الأمراض المُعدية، يُقيّم "مؤشر الأمن الصحي العالمي" جاهزية الأمن الصحي في كل بلد، وقد صنّف الولايات المتحدة في عام 2019 كأول دولة في هذه القائمة من أصل 195 بلداً، واليوم مع بدء السنة الثالثة من أزمة كورونا العالمية، اتّضح للجميع أن الولايات المتحدة ليست مستعدة للتعامل مع وباء حقيقي.

كان معدل الوفيات في الولايات المتحدة بسبب جائحة "كوفيد19" أعلى من جميع الدول ذات الدخل المرتفع بنسبة 63%، وتتعدد أسباب فشل الاستجابة الأميركية مع هذه الأزمة الصحية ومن المتوقع أن تتّضح تفاصيلها خلال السنوات المقبلة، حيث تتراوح التحديات المطروحة بين مشاكل التواصل التي أجّجت حملات التضليل، وجهود التلقيح التي تباطأت مقارنةً بدول مثل أستراليا وكندا وبلدان أوروبية عدة، كذلك لم تكن بنية الصحة العامة المجزأة في الولايات المتحدة مُصمّمة لتحمّل حالات طارئة بهذا الحجم، ولا ننسى طبعاً التحديات التي يواجهها نظام الرعاية الصحية الأميركي، وهي مشاكل قائمة قبل انتشار وباء كورونا بكثير وتشمل صعوبة تلقي الخدمات الطبية، وغياب المساواة في القطاع الصحي، والمشاكل الصحية الكامنة لدى الأميركيين.

إذا قيّمنا طريقة تجاوب مختلف البلدان مع موجات "كوفيد19" المتعددة خلال السنتَين الأخيرتَين، فلا مفر من رصد ممارسات أكثر فاعلية من غيرها، إذ لم يطلق أي بلد استجابة مثالية للتعامل مع الجائحة المستجدة، إذ أدت سياسة "صفر إصابات" الصينية مثلاً إلى تراجع الوفيات والإصابات خلال أول سنتَين من الوباء، لكنها ترافقت مع تكاليف باهظة أبرزها العزلة الاجتماعية، واستمرار دوامة الإقفال التام، وكبح الحرية الفردية، وفي ظل تفشي متحور "أوميكرون" المُعدي جداً اليوم، من المستبعد أن تحافظ هذه الاستراتيجية على فاعليتها، وفي غضون ذلك، تسجّل مناطق أخرى راهناً زيادة في أعداد الإصابات وحالات الوفاة رغم نجاحها في كبح الفيروس خلال أول سنتين، منها كوريا الجنوبية وهونغ كونغ، وتستطيع الولايات المتحدة أن تستخلص دروساً مهمة من طريقة تعامل الدول مع الفيروس حول العالم، لكن يُفترض أن تُركّز في المقام الأول على مجموعة صغيرة ومهمة من التدابير الممكنة سياسياً وقانونياً، بما في ذلك معالجة حملات التضليل، وتعزيز التواصل في الأوساط العلمية، وزيادة الثقة بالحكومة، وتحسين بيانات الصحة العامة في الولايات المتحدة.

أصبح تفعيل التواصل لنقل المعلومات حول الأمراض المُعدية الناشئة بطريقة تضمن نشر الأخبار، وتُجدّد الثقة بالحكومة، وتُمكّن الرأي العام من اتخاذ الخطوات اللازمة لحماية العائلات والجماعات، من أصعب جوانب التعامل مع الوباء وأكثرها تعقيداً، فوَجَد كل بلد صعوبة في هذا المجال، مع أن البعض أطلق جهوده في المرحلة الأولى وهو يتمتع بثقة كبيرة بالحكومة، واستفادت دول أخرى من تجاربها السابقة مع انتشار الفيروسات، حتى أن فهم المخاطر التي تطرحها عدوى كورونا جعلت الدول أكثر استعداداً لتطبيق خطوات سريعة، وأوضحت هذه التجربة كلها أن التواصل الصادق والمنتظم بين الرأي العام ومسؤولين جديرين بالثقة هو عامل أساسي.

نجحت نيوزيلندا وألمانيا تحديداً في تقديم معلومات موثوق بها ومثبتة علمياً أمام الرأي العام، وبما أن التواصل مع الناس في زمن الأزمات يتوقف على مشاعر التعاطف والصدق والانفتاح، تلقى الرأي العام هذه الرسالة بطريقة إيجابية ورحّبوا بناقلي المعلومات أيضاً، لكن رغم أهمية هذا العامل، لم تحصل دراسات كافية حول سبل التواصل خلال الأزمات، ولم يتدرب المسؤولون في قطاع الصحة العامة على هذه الظروف بما يكفي، لا سيما طريقة التصدي لحملات التضليل، فالأولوية إذاً يجب أن تُعطى للتواصل في جميع الدول، ويُفترض أن يتحول هذا الجانب من الخطة إلى جزء أساسي من التدريبات المتقدمة في مختلف التخصصات العلمية والطبية وقطاعات الصحة العامة.

حروب المعلومات

كان الاتكال على البيانات العيادية والوبائية التي تصدرها دول أخرى لاتخاذ قرارات مرتبطة بالصحة العامة (مثل تحديد الجهات المناسبة لتلقي الجرعات المسانِدة) من أكبر الشوائب في طريقة تعامل الولايات المتحدة مع جائحة كورونا، فكان غياب البيانات الموحّدة والتقارير الصادرة في الوقت الحقيقي داخل الولايات المتحدة من أخطر النواقص في فترة الوباء، وهي شوائب معروفة منذ عقود، وكتب مديرون سابقون لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في وقتٍ سابق من هذا الشهر: "لقد أهملنا لفترة طويلة تطوير نظام بيانات الصحة العامة المحلية، لا سيما تلك المرتبطة بالشيخوخة، فهي معلومات بالية وغير كافية لتلبية حاجاتنا... بقي التقدم محدوداً في هذا المجال بسبب غياب التمويل والسلطة القانونية".

ونظراً إلى اختلاف الطرق التي تستعملها وكالات الصحة العامة لجمع البيانات وتخزينها إلى جانب معطيات الرعاية الصحية المُخَصْخَصة، تكثر المشاكل المطروحة على مستوى دمج البيانات العيادية والوبائية، وتتعدد أنظمة الصحة العامة والرعاية الصحية غير المترابطة، وتبقى العمليات المتبادلة لتقاسم البيانات الأساسية محدودة، وفي المقابل، استفادت الدول التي تشمل رعاية صحية يسيطر عليها القطاع العام، كما في بريطانيا، من الإجراءات الموحّدة وقدرتها على تنفيذ تجارب عيادية واسعة النطاق، كذلك، كانت دول أخرى مثل الدنمارك وكوريا الجنوبية في طليعة البلدان التي تفوّقت في مجال أنظمة المراقبة المتطورة والتقارير المستحدثة، كما تستمر الجهود الأميركية اليوم لابتكار أفضل الطرق للتعامل مع هذه التحديات، منها تحسين طريقة تقاسم البيانات وتصميم استراتيجيات جديدة لإجراء تجارب عيادية واسعة.

كانت مواكبة الفيروس المتبدّل كفيلة بزيادة التحديات المطروحة على الولايات المتحدة، وفي هذا السياق، يقول المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ الصحية في منظمة الصحة العالمية، مايك راين: "السرعة تغلب المقاربات المثالية، والمثالية هي عدوة المصلحة العامة عند التعامل مع الحالات الطارئة". تأخرت الولايات المتحدة في تنفيذ سياساتها في حالات كثيرة، بما في ذلك المقاربات غير الدوائية التي تشمل قرارات استعمال الأقنعة، وأصبح أول قرار فدرالي مرتبط بهذه الخطوة في مجال النقل العام ساري المفعول مثلاً في فبراير 2021، بعد فترة قصيرة على وصول جو بايدن إلى الرئاسة وبعد مرور سنة كاملة على بدء الجائحة.

تباطأت الجهود الأميركية أيضاً لتأمين منتجات الوباء الأساسية، فتأخرت "إدارة الغذاء والدواء" مثلاً في ترخيص الاختبارات المنزلية السريعة والاعتراف بمنافعها كأداة فاعلة في مجال الصحة العامة، وفي الوقت نفسه، سارعت الولايات المتحدة إلى تخفيف تدابير أخرى مثل إلغاء إلزامية وضع الأقنعة في بعض الولايات أو تقليص اختبارات المراقبة، وأدى النهج الأميركي التصاعدي إلى إطلاق استجابة غير منسّقة بغض النظر عن جهود الحكومة الفدرالية لتقديم التوجيهات المناسبة، ونتيجةً لذلك، تنتشر خمسون جائحة في الولايات المتحدة اليوم، إذ تختلف معالمها بين الولايات.

تتمتع الدول التي أطلقت استجابات سريعة ضد الوباء، مثل تايوان وسنغافورة وهونغ كونغ، بخبرة سابقة في التعامل مع التهديدات الوبائية (مثل متلازمة "سارس" منذ عشرين سنة ومخاطر إنفلونزا الطيور المستمرة)، فهذه التجارب السابقة زادت خبرة الدول في التصدي للأوبئة ومكّنتها من كسب ثقة معظم الرأي العام محلياً، وعلى أمل أن تستفيد الولايات المتحدة من تجربة كورونا لتحسين مقاربتها حين تواجه مخاطر الأمراض المُعدية لاحقاً.

معالم المرحلة المقبلة

تدخل الولايات المتحدة اليوم السنة الثالثة من أزمة كورونا وتُسجّل خسائر جماعية يومية بسبب هذه الجائحة، ويضع الكثيرون هذه المرحلة في خانة الاستقرار المؤقت، لكن تُسجَّل أكثر من ألف حالة وفاة يومياً حتى الآن، فالوقت حان إذاً للاستعداد للموجات المستقبلية والتغلب على هذا الفيروس مسبقاً. تُحقق خطة إدارة بايدن هذا الهدف عبر التركيز على أربع نقاط أساسية: حماية الناس من الوباء ومعالجة الأمراض التي يُسببها، والاستعداد لظهور أي متحورات جديدة، وتجنب الإقفال التام في المجالَين الاقتصادي والتعليمي، ومتابعة حملات التلقيح حول العالم. قد تبدو هذه الخطة الوطنية واعدة للوهلة الأولى، لكن تراجع تمويلها في حزمة إنفاق الحكومة الأميركية ولا يمكن التأكيد على تمرير مشروع قانون تكميلي في هذا الملف بعد، لكن قد تكون عواقب جمود الكونغرس حادة على الرأي العام الأميركي.

تتعدد الجهود التي يُفترض أن تبذلها الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة، بما في ذلك تحديث البنية التحتية للصحة العامة وزيادة الاستثمارات فيها، وتحسين دمج البيانات المأخوذة من مختلف أنظمة الرعاية الصحية، وتغيير مقاربة البلد التفاعلية مع الأزمات، إذ تبدو التغيرات المطلوبة شاقة، فهي تتطلب إعادة ترسيخ حس اجتماعي مشترك وتجديد الثقة بالحكومة، ويستلزم هذا الهدف أيضاً تجديد الالتزام بالصحة العامة وتحسين ظروف القوى العاملة في مجال الرعاية الصحية، علماً أن هذه المجالات لا تزال تتخبّط بعد سنتين من الاستجابات الطارئة والمتواصلة تزامناً مع تراجع المعنويات بدرجة غير مسبوقة، ويتطلب هذا الوضع كله قيادة سياسية كفؤة وموارد وافرة، فالوقت إذاً حان لإنهاء المقاربة الأميركية المبنية على "الإسعافات الأولية" العابرة للتعامل مع الأوبئة. .

* سيرا ماداد وريبيكا كاتز

Foreign Affairs

back to top