لماذا هذه الذكريات؟ الكويت - نوفمبر 2006

نشر في 08-03-2022
آخر تحديث 08-03-2022 | 00:30
 د. أحمد الخطيب هذه ليست دراسة علمية، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك، فهي ليست إلا رحلتي ورؤيتي عبر الحياة كما عشتها وشاهدتها، لا كما عاشها أو شاهدها غيري، وبالتالي فليس المطلوب هنا أن تكون مرآة عاكسة لما حدث في الفترة التي عايشتها بصورة شاملة، ولكنها الأشياء كما رأيتها، وعادة ما يؤدي هذا المنهج الذاتي إلى أمرين، الأول أن يؤدي ذلك التوجه بالضرورة إلى إغفال بعض الموضوعات أو القضايا أو الأشخاص، وهو بالتأكيد إغفال غير مقصود، ولكنها الصورة كما هي في حدود ما عرفته، وما خبرته، وإلا لتحول هذا الكتاب إلى دراسة علمية شاملة ينبغي لها أن تلمّ بكل شاردة وواردة. أما الأمر الآخر، فهو احتمال أن ينزعج البعض من بعض آرائي أوملاحظاتي أوجلّها، وقد يكون لهم الحق في ذلك، إلا أن الحقيقة هي أن أفكاري وآرائي لم تكن إلا وليدة زمنها، وبالتالي فهي أفكار وآراء مرتبطة في مجملها بالزمن الذي ظهرت فيه وتأثرت بمعطياته، وهنا سيدرك القارئ ما ذهبت إليه من خلال التحولات التي مررت بها عبر التاريخ، وهو ما أدى في العديد من الأحيان إلى قيامي بنقد ذاتي حاد لتجربتي العامة. ولربما يمثل ذلك دعوة للآخرين لأن يكملوا الصورة ويضيفوا إلى الحقيقة كما رأوها وعايشوها هم، ولكم أتمنى أن يحدث ذلك في أقرب فرصة، وبالذات من أولئك الأشخاص الذين أسهموا إسهاماً بارزاً في نهضة النظام السياسي لدينا وتطوره وإصلاحه. فالأهم من ذلك كله هو أننا كمنشغلين بالهم والعمل الوطني السياسي الإصلاحي لم نأت بجديد، ولم نخترع العجلة، فقد سبقنا في هذا المضمار وعرك هذا الميدان كثيرون قدّموا التضحيات وسطروا النضالات، وكانوا بالنسبة إلينا نبراساً طالما اهتدينا به واعتمدناه طريقاً ونهجاً، ولم يكن جهدنا ونشاطنا إلا جزءاً من مسيرة طويلة ستستمر بإذن الله في سبيل إصلاح الوطن.

ربما لم أكن أتصور أنه سيأتي يوم أكتب فيه ذكرياتي، فقد كنت رافضاً للفكرة ولم أكتب أي مذكرات طوال حياتي، ولعل ذلك يعود إلى شعور بأن إسهاماتي خلال مسيرة ما يقارب الستين عاماً لم تكن إلا انطلاقاً من التزاماتي ومسؤوليتي تجاه وطني وأمتي، وبالمقابل فإني كنت أظن أن كتابة تلك المذكرات في إطار ذلك الالتزام المبدئي والمسؤولية القومية، إنما يدخل في خانة تعظيم الذات، بل ربما يجعلها بمثابة مَنْ يريد تحقيق مكاسب ذاتية. ولربما كان منطلق ذلك التفكير مرتكزاً على التربية السياسية والتنظيمية التي تكوّنْتُ فيها خلال بداياتي السياسية بالجامعة الأميركية ببيروت، فقد كنا نتعامل بصرامة مع ثلم الذات، وكسر الأنا، وكبح جماح أي أمر قد نشك في أن به شبهة مصلحة ذاتية أو بروز شخصي على حساب المبدأ. وقد ترتب على ذلك الوضع أننا كمجموعة أو كأفراد منذ دخولنا "العروة الوثقى" في بيروت أو ما تلا ذلك كتأسيسنا للشباب القومـي و"حركة القوميين العرب"، كنا نعاني بشكل أو بآخر نكران الذات بصورة تكاد تكون مفرطة في بعض الأحيان.

ولربما كان سبب آخر يمنعني من التفكير في كتابة مذكراتي، وهو أنني كنت وحتى عشر سنوات مضت منغمساً حتى النخاع في العمل السياسي، إلى أن قررت اعتزال العمل البرلماني عام 1996. ولئن كنت بعدها لا زلت مشتغلاً بالعمل السياسي، إلا أن تقدم العمر وضرورة التغيير قد خففا من انهماكي التقليدي المزمن، وهو ما جعلني شيئاً فشيئاً أبدأ بالقيام بدور المراقب لما يجري حولي محلياً وعربياً ودولياً. ومع مضي الوقت بدأت إعادة النظر في أمور كثيرة بما يشبه النقد الذاتي، وإعادة تشكيل الرؤية والتصور.

لعلها إذاً في هذه الفترة الزمنية التي بدأت منذ 1996، أي منذ اعتزالي العمل البرلماني، والتي كنت فيها أراقب وأرى تدهور الأوضاع السياسية إلى حدّ يوحي بالخطر المحدق بالمنطقة ككل، يضاف إلى ذلك شعور بالانزعاج الشديد الذي يصل إلى درجة التقزز من الذين حاولوا ولا زالوا يحاولون اختزال الحراك السياسي بالمنطقة عموماً، والكويت خصوصاً، بحركة حكامه وإلغاء دور الشعوب جملة وتفصيلاً.

إن الحركة السياسية العربية بعمومها والكويتية بخصوصها، لم تكن أبداً مرتكزة على حكامها، بل إننا نستطيع دون مبالغة القول بأن مجمل الإنجازات التي تمّت في إطار الإصلاح السياسي، لم تكن لتحدث إلا نتاجاً لنضالات شريحة عريضة من النخب السياسية ودأبها وجهدها وعرقها، تلك النخب التي شكلت ودفعت بطموحات الشعوب، وتحملت مقابل ذلك الكثير من المعاناة والأذى والإساءة سواء من قبل السلطات المحلية أو الأجنبية.

ومع ذلك، وعلى الرغم من الحركة السياسية النشيطة والملتزمة، فإننا نجد السلطة في الوطن العربي تتجه إلى مزيد من المركزية والقمعية. فعلى الرغم مما يشاع وما يقال وما يذاع، بأن هناك انفتاحاً شكلياً، وديمقراطية مزعومة تدفع إليها وتدعمها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الواقع يؤكد أنه بدلاً من أن تتقدم المنطقة ديمقراطياً، فإنها تسعى لإجراء مجموعة من التغييرات الشكلية، التي لا تعدو كونها مساحيق للتجميل، تحاول أن تخفي من تحتها بشاعة لا تختفي.

وفي غمرة تلك الرؤى والإحساس بالرغبة في عمل شيء ما، كنت أتعرض خلال السنوات العشر الماضية لضغوط شديدة من الأصدقاء والمحبين والمهتمين، كان ملخصها رغبتهم الشديدة بأن أقوم بكتابة ذكرياتي. ومع ذلك فقد استمر رفضي للفكرة ربما متحصناً بمسوغاتي التي ذكرتها سابقاً، إلا أنني شيئاً فشيئاً بدأت أشعر بأن المسؤولية ذاتها التي كانت تمنعني ربما من كتابة هذه الذكريات، أصبحت هي ذاتها التي تدفعني دفعاً نحو التفكير في نشر المذكرات. فما لدي من إسهامات أصبح حقاً للأجيال الحالية والقادمة، ومن حقهم أن يعرفوا ما جرى بكل موضوعية والتزام. إن شعوري بالمسؤولية تجاه تأكيد الحقائق، أمام ذلك الطوفان الجارف من محاولات التزييف والتضليل التي مارسها ولا يزال يمارسها عدد ليس بقليل من ضاربي الدفوف وراقصي الزار في مواكب السلاطين وعلى موائدهم، هو ما يدفعني. فتاريخ الكويت تعرض للتزوير والتدجيل وألغى دور الكويتيين كلياً وأصبحت الكويت كلها وتاريخها تاريخ عائلة الصباح، وسمي كل مشروع وزقاق باسم أحد أبناء الصباح حتى ولو كان ممن أساؤوا إلى سمعة الصباح قبل أن يسيئوا إلى أنفسهم مما أثار اشمئزاز الكثيرين أمثالي، وهذا ما دفعني أخيراً إلى اتخاذ القرار بنشر المذكرات.

وعلى الرغم من أن النص الأصلي كان نصاً يمتد زمنياً إلى وقتنا الحاضر، فقد قررنا لأسباب عملية ومنهجية، أن نقسم المشروع إلى جزءين، يغطي الجزء الأول منه الفترة الواقعة ما بين خروجي إلى الحياة وحتى عام 1965، ويعود سبب التوقف عند هذا التاريخ إلى أنها كانت السنة التي توفي فيها الشيخ عبدالله السالم حاكم الكويت منذ 1950، الذي نطلق عليه لقب أبي الدستور. فبعد وفاته مباشرة بدأت الردة السياسية والانقلاب على المكتسبات الدستورية التي تحققت بنضالات وعمل دؤوب وإخلاص وإيثار وتفان والتزام شريحة واسعة من الكويتيين، هذه الردة التي أوصلتنا إلى الوضع البائس الذي نحن فيه الآن. لقد كنا مثالاً يُحتذى به في الخليج - كنا الدولة الديمقراطية التي تحترم الدستور والقانون، وأبدعت في كثير من المجالات الأدبية والفنية والرياضية كما أدت صحافتها الحرة نسبياً دوراً عربياً مميزاً، وأصبح مجلس الأمة الكويتي مجلساً لكل العرب يعبّر بصدق وأمانة وجرأة عما يجول بخاطرهم مما هو غير موجود في أي برلمان عربي آخر، فكاد أن يكون المتنفس الوحيد لهم. كذلك عملت الكويت على نشر التعليم في الخليج واليمن الجنوبي، وقامت بواجبها بدعم كل مجهود قومي بنّاء فاحتلت المكانة اللائقة بها. فهذه المرحلة أسميها مرحلة الصعود، وقد خصصت الجزء الأول لهذه المرحلة المضيئة من تاريخ الشعب الكويتي.

إلا أن تلك الإنجازات كلها قد تم القضاء عليها بسياسة متعمدة ومدروسة بدأت مباشرة بعد موت عبدالله السالم الصباح حتى وصلنا إلى الحضيض، ولولا النفط وأسعاره الصاعدة لكنا أفلسنا منذ فترة طويلة، وهذه هي مرحلة الردة التي سوف أتناولها بالتفصيل في الجزء الثاني.

وهكذا قررنا أن يصدر الجزء الثاني من المذكرات ليغطي الفترة اللاحقة، وكلي أمل أن يصدر قريباً بإذن الله.

وهكذا قام د. غانم النجار مرة أخرى بإعادة ترتيب وإضافة وتحرير للمسودة الأخيرة، ليعرضها عليّ بشكلها النهائي. ولعلها من المصادفات ذات الدلالة أن تكون تلك المراجعة النهائية في بيروت، وإبان فترة العدوان الإسرائيلي الغاشم على لبنان، فقد كنت حينها أقضي إجازتي الصيفية الاعتيادية في لبنان، منتظراً المراجعة للمسودة الأخيرة، حين بدأ العدوان الإسرائيلي، وقد قررت دون تردد أن أبقى في لبنان، فالحدث تاريخي بكل المقاييس، والصمود اللبناني كان يمثل رافعة للأمل في المستقبل، بل إن انكسار الغرور والصلف الإسرائيليين كان أمراً يثير فرحاً طال انتظاره، ولذا لم أكن لأسمح لنفسي بمغادرة لبنان تحت أي ظرف من الظروف. وهكذا كانت المصادفة الجميلة، رغم الحزن والغضب، أن مراجعة المسودة الأخيرة للكتاب تمّت في بيروت وتحت ظروف الدمار وآثار العدوان الإسرائيلي الوحشي، فقد جاء من الكويت د. النجار ومعه المسودة الأخيرة التي قضينا الساعات الطوال معاً في مراجعتها في بيروت، وكأنه كان مقدراً لي أن أبدأ حياتي الدراسية والعملية والسياسية في بيروت، وفي ذات الإطار أنهي المحطة الأخيرة من مذكراتي بعد ما يزيد على الستين عاماً في المكان ذاته دون تخطيط أو ترتيب، فيا لها من مصادفة!

د. أحمد الخطيب

كنت أتعرض خلال السنوات العشر الماضية لضغوط شديدة من الأصدقاء والمحبين والمهتمين لرغبتهم الشديدة في أن أقوم بكتابة ذكرياتي
back to top