ماذا بعد انكفاء «الحريري»؟

نشر في 01-02-2022
آخر تحديث 01-02-2022 | 00:08
لو ترك الأمر لأكثرية الأحزاب اللبنانية لاتفقت جميعها على إلغاء الانتخابات متذرعة بخطوة الحريري وما تفرضه من «واجب وطني» للمحافظة على «ميثاقية» وحسن تمثيل الأكثرية السنّية في صندوق الاقتراع! علماً أن منطق الأمور يشير بوضوح الى أن الفراغ الذي سيحدثه عدم وجود مرشحين لتيار المستقبل سرعان ما ستتبدد فجوته من خلال عدة اعتبارات مناطقية وشخصية وربما سياسية.
 د. بلال عقل الصنديد ينسب إلى أرسطو مقولته الشهيرة: "إن الطبيعة تكره الفراغ"، ففي السياسة، كما في الظواهر الطبيعية، الفراغ المستجد لا بد أن يملأ بمن تضعه الأقدار بالقرب من الفجوة وتمنحه الظروف المقومات المؤاتية لسدّها.

وفي السياق يتساءل الجميع في لبنان والعالم: ماذا بعد إعلان الرئيس سعد الحريري تعليق نشاطه السياسي والنيابي، هو وتيار المستقبل الذي ورث زعامته عن والده الشهيد رفيق الحريري؟ ومن سيملأ الفراغ الذي أحدثته هذه الخطوة التي بدأت إرهاصاتها بالظهور منذ سوء العلاقة السعودية-الحريرية، واكتملت معالمها بالاعتراض السعودي والخليجي على سلسلة المواقف والسياسات وربما التنازلات التي تبنّاها الرئيس المعتزل، مرغماً أو مقتنعاً، في الملفات الداخلية اللبنانية؟

كثرت التحليلات، وتشعبت الآراء، وتزايدت التأويلات المنطلقة من تفصيل الأسباب الخارجية والداخلية لهذا الإعلان والمنتهية جميعها بتسليط الضوء على الموقف الضبابي- بأكثر التوصيفات تفاؤلاً- للوضع السياسي اللبناني بشكل عام، وللسنّية السياسية بشكل خاص.

هناك من يتخوّف من أن انكفاء النهج المعتدل الذي تمثله الحريرية السياسية، الأكثر حضوراً في البيئة السنّية، سيفتح المجال واسعاً أمام التشدد الذي سيمتطي شعار مواجهة التمدد الشيعي في لبنان والمنطقة، وهنالك من يجزم بأن الأطراف السنية الموالية لحزب الله سيكون لها حصة وازنة في المشهد المقبل؛ مما سيعزز واقع انفصال لبنان عن محيطه العربي والسنّي، وبوجهة النظر الأكثر تفاؤلاً فإن تشابك المصالح الطائفية، ودقة التوازنات المحلّية اللبنانية، سيدفعان نحو التقليل من حدة إحباط الشارع السنّي كي لا ينجرّ لبنان إلى حروب أهلية، ولا حتى إلى سلسلة من الزعزعات السياسة والخضّات الأمنية.

وبين هذا وذاك، ولولا تلمّس الجدّية التي تظهر جليّة حتى اللحظة لدى المجتمع الدولي بالضغط باتجاه إجراء الانتخابات النيابية التي سترسم المشهد القادم سياسياً واقتصادياً، فإن حصول هذه العملية أصبح مهدداً لعدة اعتبارات من أهمها وأبرزها خشية الطبقة السياسية من التغيير الجذري الذي أحدثته انتفاضة "17 تشرين" (أكتوبر) وفرضته تداعيات الأزمة الاقتصادية التي غيّرت الكثير في المزاج الشعبي لدى شريحة معتبرة من أتباع كل المذاهب وأبناء كل المناطق اللبنانية.

لو ترك الأمر لأكثرية الأحزاب اللبنانية لاتفقت جميعها على إلغاء الانتخابات متذرعة بخطوة الحريري وما تفرضه من "واجب وطني" للمحافظة على "ميثاقية" وحسن تمثيل الأكثرية السنّية في صندوق الاقتراع! علماً أن منطق الأمور يشير بوضوح الى أن الفراغ الذي سيحدثه عدم وجود مرشحين لتيار المستقبل سرعان ما ستتبدد فجوته من خلال عدة اعتبارات مناطقية وشخصية وربما سياسية تأتي بوجوه جديدة لن تقلب المعادلة الحاكمة رأساً على عقب، ولكن سيشار إليها على أنها إحدى نتائج الموجة التغييرية التي فرضتها انتفاضة "17 تشرين".

وفي هذا السياق تأتي خطوة إعلان بهاء الحريري- الأخ الشقيق للرئيس المنكفئ- نيته استكمال مسيرة أبيه السياسية، وفي هذا الإطار تأتي تصريحات الزعامات والعائلات السياسية السنية التقليدية، وهكذا تفهم الزيارة المفاجئة وغير المعتادة، التي قام بها رئيس الجمهورية إلى مفتي الجمهورية اللبنانية وتصريحاته عن ضرورة وأهمية مشاركة الطائفة السنية في الانتخابات القادمة.

لا شك أن الزعامات السنّية التاريخية ورؤساء مجالس الوزراء الذين برزوا منذ فجر الاستقلال إلى يومنا كانت سمتهم الأساسية هي الاعتدال الذي ربما كان سبباً لاغتيال أبرزهم في بلد تجول فيه أجهزة المخابرات الأجنبية، وتتلاعب بمصيره المصالح الدولية، وتتحكم فيه الطموحات المحلية. صحيح أن السنّية السياسية بأغلبيتها لم تنجرّ في أحلك الظروف لا إلى التشدد ولا إلى التسلّح، ولكن الخطر من نمو نزعة التطرف لشد العصب المذهبي تعززها الظروف الاقتصادية الضاغطة وتزيد احتمالات تحققها المتغيرات التي تعصف بالمنطقة، ولا سيما لناحية الصراع السني-الشيعي ومفاوضات فيينا المرتبطة بزاوية معينة باندفاعة "الدبّ الروسي" أوروبياً وشرق أوسطياً.

بخلاف المنتمين إلى نهج التغيير والمتمسكين بطموحات الانتفاضة الشعبية، يخطئ من يظن أنه حقق مصلحة أو سجل انتصاراً آنياً بانكفاء "الحريرية السياسية"، ففي بلد محكوم بـ"فدرالية الطوائف" من الأسهل على جميع الأطراف الفاعلة- محلياً وخارجياً- أن تتعامل مع ربّان واحد لسفينة كل طائفة من الطوائف، تحت طائلة سيطرة الفوضى "غير الخلّاقة".

من الواضح أن دفّة القيادة السنية ستتنازعها في المستقبل القريب عدة تيارات تتسم بالطابع الديني الملتزم مع بعض الشخصيات الطامحة التي ستقنع نفسها- قبل الجمهور- أنها المؤهلة لتزعّم الطائفة "المحبطة" محلياً رغم اقتناع أبنائها ونظرة الجميع لها على أنها جزء لا يتجزأ من "الأمة" العربية الأوسع وامتداد طبيعي للمحيط ذي الإكثرية السنّية.

وعلى الصعيد الخارجي- ورغم سيادة نزعة الالتفات جانباً عن الوضع اللبناني المعقّد- فإن خروج التيار الأكثر تمثيلاً للبيئة السنية يعني تغييراً حقيقياً في وجه لبنان وزعزعة غير محددة المدى والحجم لعلاقة لبنان الإقليمية والدولية، الأمر الذي يخشى من سلبياته المنظورة وغير المنظورة على كل ملفات السياسة الدولية والتداعيات الاقتصادية والطموحات النفطية... إلخ.

المتتبع لاستراتيجية حزب الله، الذي يجاهر ويفاخر بانتماءاته وتوجهاته الدينية والإقليمية، يدرك أنه يدرس خطواته البعيدة المدى بكل أبعادها قبل الإقدام على أي منها، مما يعني أنه لن يتراجع- بعد أن قرر رفع سقف خطابه السياسي والعسكري- عن حدة مواقفه إقليمياً ودولياً، أما العارف بتكتيكاته اللحظية فهو على قناعة شبه جازمة بأن سياسة الحزب أذكى من أن تنجرّ لخطيئة العمل العلني على إيجاد البديل المناصر لها في البيئة السنّية، وذلك يعني ذلك التخلي الكلي عن فرصة ذهبية تسمح له بتعزيز حضوره في البيئة الأقرب إليه جغرافياً ودينياً والأخطر عليه أمنياً وسياسياً.

المشهد إذاً ينبئ محلياً بوجود حالة من الشرذمة السياسية لدى اللبنانيين من أتباع المذهب السنّي، وصعود متوقع لبعض الأحزاب والتيارات الدينية ولبعض الشخصيات التي ستلبس ثوب "المجتمع المدني" وتمتطي جواد النزعة التغييرية، وعلى الصعيد الدولي فإن إقدام "الحريري" على مثل هذه الخطوة الخطيرة على مستقبله السياسي والكبيرة في مقاييس التوازن الطائفي اللبناني، ليست آتية من فراغ؛ فعنوانها العريض الأكثر سلاسة، هو الرضا عن حرق الورقة الحريرية محلياً وإقليمياً، أما حقيقتها الأكثر فجاجة وواقعية، ربما تكون الضغط على الرئيس المنكفئ نحو الإنهاء الطوعي لحياته السياسية قبل أن يتم ذلك قسراً بما يرتبط بمفاوضات فيينا وملف ترسيم الحدود اللبنانية-الإسرائيلية والخريطة المستقبلية لتوزيع القوى بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأميركية والشرق الذي يحاول من خلال "القيصر بوتين" استعادة أمجاد ماضيه.

لبنان، بنظامه الدستوري وتوازن تركيبته الطائفية، دخل مرحلة لا عودة فيها، والمنطقة التي تتغاضى عن حقيقة أن هذا البلد الصغير، المعقدّ بتركيبته والمبهر بسلبياته وايجابياته، ستدخل معه أو خلفه- عاجلاً أم آجلاً- في دوامة هوجاء من التفكك الاجتماعي والتشرذم السياسي والانحدار الاقتصادي.

إلا أنه مهما كان الإحباط واضحاً ومهما كان الواقع مؤلماً فإن خيوط اللعبة الإقليمية ما زال جزء منها، على قلّته، في أيدينا، ولعلّ المبادرة الكويتية التي تتدارسها كواليس الجامعة العربية وتتكثّف بشأنها الاتصالات وتتسارع الخطوات، تشكل فرصة للبنان ولمحيطه العربي والإقليمي للخروج من عنق الزجاجة وعدم تكرار الأخطاء الكثيرة والمتكررة التي وضعنا فيها أنفسنا- شعوباً ودولاً- في مشرحة الصراع الدولي وتحت مبضع الجراح الذي لا يريد لأجسامنا خيراً ولا لأمراضنا شفاءً.

* كاتب ومستشار قانوني.

● د. بلال عقل الصنديد

back to top