الجهل الجمعي

نشر في 20-08-2021
آخر تحديث 20-08-2021 | 00:00
 سالم الشريع الجرائم تقع ولا رادع لإيقافها، وقد عرفتها البشرية من أول خلقها إما لجانب نفسي أو جانب مادي ومن أوائل النزاع، والجريمة الأولى التي نُقلت لنا عبر التاريخ هي قصة هابيل وأخيه «القاتل» قابيل، انتهت بدفن جثة المقتول وحصل القاتل على الغنائم، لم تَرْدَع تلك الجريمة ولم تُذكر محاسبتها أو معاقبتها، بات الأمر منقولاً أجيالا بعد أجيال بجرائم قتل متنوعة الأسباب والأفكار والظروف.

مقالنا يكمن في حالة «كثرة الشهود» على جريمة، كما حدث مع المغدور به العسكري الرشيدي، فهناك مشكلة في كثرة الشهود، إذ تتوزع مسؤولية المساعدة عليهم جميعا، فيتكاسل المرء عن المساعدة، والتاريخ مليء بالتجارب والأحداث ومنها الضجة الكبيرة التي أثارها حادث موت كاثرين في 14/ 3/ 1964، ذلك الحادث المؤسف كان على مرأى 37 شاهداً ينظرون إلى الجريمة منذ بداية وقوعها واغتصاب المجني عليها إلى قتلها بمشهد زاد على نصف ساعة دون أي تصرف من المشاهدين، ولم يتحرك فيهم أحد، وبقوا ساكنين يشاهدون الحدث بكل تفاصيله إلى أن أبلغ أحدهم الشرطة بعد أن فارقت تلك الفتاة الحياة.

ذلك الحادث المؤسف أشعل فضول اثنين من علماء علم النفس في نيويورك، «بيبي لأتان» و«جون دارلي»، كانا باحثَين صغيري السن مليئين بالحماس، خصوصا أن صدى تجربة مليغرام الشهيرة عن طاعة السُّلطات كان لا يزال يدوي في الهواء.

درس لأتان ودارلي تفاصيل الحادث معا، وقرآ شهادات الشهود وتعليقاتهم، وقدما التفسير الأغرب: «ربما كانت كاثرين ستظل حية لو كان عدد أقل من الشهود موجوداً وقتها»، بمعنى أن كثرة الشهود كان سبباً مباشراً لترك الجاني يستكمل جرائمه.

قدم الباحثان إلى العالَم نظريتهما عن «تأثير المتفرج»، وهي نظرية تقترح ببساطة أن احتمالية مساعدة من يتعرض لخطر ما تتناسب عَكْسِيا مع عدد الشهود على ما يحدث، ويرجع هذا إلى سببين:

1 - كثرة الشهود، فتتوزع مسؤولية المساعدة عليهم كلهم، فإن كان الجميع يشهدون ما يحدث، «لماذا عليَّ أنا بالذات المساعدة؟».

2 - الجهل الجمعي (Pluralistic Ignorance) وهي الفكرة المهمة والمحورية في علم النفس الاجتماعي، وتعيدنا إلى الحديث عن موضوعنا الرئيس مرة أخرى.

قد ترى فتاة، يبدو على وجهها القلق وتتحرك في زحام حافلة! قد تشاهدها ولا تعرف أنها تتعرض للتحرش! ثم تبدأ بالتفكير بأنها قلقة نتيجةً للجو الخانق وضيق الحافلة؟ ربما هي متأخرة عن موعد ما وقلقة مثلا؟ هل تذهب إليها وتسألها عمَّا يضايقها؟

الإجابة :لا، لا، لا! ستكون الأحمق الوحيد الذي يفعل ذلك. انظر إلى كل من حولك في الحافلة، لا أحد يبدو عليه أنه يرى شيئاً خاطئاً غيرك، الجميع يبدون واثقين ممَّا يرون، يفهمون كل ما يحدث، سيسخرون منك عندما تسألها بمنتهى الغباء إن كان يحدث ما يضايقها، ولربما اعتبروك أنت المتحرش.

لا تفعل شيئا، قف ثابتا، ضع على وجهك قناع الذكاء وعدم المبالاة حتى لا يعرف الآخرون أنك بهذا الغباء، انشغل بالعبث في هاتفك، يدور هذا الحوار في عقلك كلما شهدت واقعة مشابهة أو قرأت مشهدا وتتخذ قرارك معتقدا أنك ذكي بما يكفي للوصول إليه بناءً على عملية تفكير منطقية ذكية راجعة إلى مهاراتك الاجتماعية العالية التي حمتك من لحظة إحراج قاسية، لكنك لم تفكر أبدا أن كل الذين حولك في كل المحافل، سواء في وسائل السوشل ميديا أو أماكن التجمعات وغيرها المزدحمة، يمرون بسلسلة الأفكار نفسها التي حسبتها أنت نتاجا خاصّا لعقلك المميز، الجميع حولك، مثلك، يرون شيئاً خطأً يحدث، لكن لا أحد متأكد من ذلك، فيبحث عن الدليل على حدوثه في تصرفات الآخرين، مع المحافظة على تصرفاته الشخصية هادئة جامدة لا تعبِّر عن شيء من توتره الداخلي، حفاظا على مظهره الاجتماعي.

النتيجة أن الجميع يبدون غير مهتمين بما يحدث، والجرائم تستكمل والمجرم يتوسع في الأداء ويزيد بالمهارة، ونحن نعيش في حالة النعت بالحمق بسبب التدخل.

back to top