عندما فقد الشعر الوزن والقافية (3-4)

نشر في 01-08-2021
آخر تحديث 01-08-2021 | 00:05
 خليل علي حيدر لا أعرف كيف ولماذا هدأت، إن كانت أو انتهت، معركة الشعر العربي الجديد، وحسم الجدل بين الشعر المقفى والحر، والموزون والمتفلت، وما هو نثر وما هو بنثر، أو شعر وما هو بشعر.

كان العرب متفقين قبل مئة عام فيما ذكر عميد الأدب العربي د. طه حسين، على "أن الشعر يجب أن يكون موزونا، وألا يكون شعراً حتى يقيد بقافية تقييدا ما"، وكانوا يتفقون كذلك، يقول، "على أن المعنى يجب أن يكون جيداً شريفاً قيماً، ومهما يكن من شيء فإن في الشعر جمالاً فنياً خالصاً".

ويقول "فنعرِّف الشعر آمنين بأنه الكلام المقيد بالوزن والقافية، والذي يقتصد به إلى الجمال الفني".

(في الأدب الجاهلي، 1927، ص347-345).

زحفت الحداثة والحروب والتحولات السياسية على مختلف مناحي الحياة في العالم العربي، ومنها بالطبع "الثوابت الثقافية" وتزامن ظهور وازدهار الشعر العربي الجديد أو الحر المعاصر، خصوصاً بعد 1945، مع التحولات السياسية والاجتماعية، أكثر من نموه في ظل بيئة أدبية هادئة وأوساط أكاديمية وغير ذلك.

وكان على الشاعر والشاعرة أن يحارب أحيانا على أكثر من جبهة، وأن يصرع أكثر من خصم ويقنع أكثر من طرف ليشق طريقه، بعضهم صديق يسيء الفهم، وآخر عدو لكل تحديث وأن يصر "المجدد" على حتمية تجديد الشعر، وأهمية الانسلاخ عن القيود الموروثة، وإن كان للأدب العربي أن يجاري التطورات العالمية في الآداب الأخرى. وكان الشاعر يتمرد على قيم مجتمعه ولكنه لا يحسن اختيار البديل فيقع أسيراً لنماذج شمولية استبدادية، أو قومية متعصبة، فيختار السم بدلا من الترياق.

وظهر الكثير من شعراء الحداثة المجددين في دول ذات أنظمة قمعية وانقلابية، وعانوا من الملاحقة ومطاردة النظام حتى خارج بلدانهم، كما اتصفت الفترة نفسها في "دول التجديد الشعري" كالعراق وسورية ومصر، وفي المنافي العربية والأوروبية، بتنافس التيارات السياسية من قومية ويسارية ودينية وغيرها، فانعكس ذلك بقوة على الحياة الأدبية والقصائد والذائقة الأدبية والنقد الأدبي والإبداع نفسه مما عمق مخاض التحول الأدبي.

ومرت بالأدب العربي مرحلة مؤلمة قبل أن تهدأ الأوضاع بعض الشيء، ويبرز شعراء راسخون كالسياب ونزار قباني وعبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور ونازك الملائكة وأمل دنقل. ولا يزال بعض كبار المجددين ذوي المكانة الراسخة، كأدونيس مثلا، من المغضوب عليهم ثقافيا وسياسيا لأسباب مختلفة. والبعض مثل الشاعر الكبير نزار قباني أثار ما أثار من حروب وزوابع في معاركه وانتصاره لحرية المرأة ضد المحافظين، ثم مع رجال الدين في قصيدته "خبز وحشيش وقمر" ثم مع العسكرتاريا العربية بقدر استطاعته في قصيدته "هوامش على دفتر النكسة"... وهكذا!

ويرى الشاعر البحريني المعروف "إبراهيم عبدالحسين العريض" (2002-1908)، وهو من مواليد بومبي بالهند وأحد أعظم أدباء البحرين، في قضية الشعر الحديث، "أن الانقلاب الذي تم في حظيرة الشعر العربي الحديث قد جاء بفعل ثلاثة أسباب هي: "أولها: أن المثقفين العرب وجدوا أن هناك شعرا عند سائر الأمم لا يقل روعة عن الذي يعرفه العرب، وأن بعض هذه الأمم لا تملك من ناحية قوافيها غير بضع قواف من ثلاث في الأغلب الأعم إلى عشر على أكبر تقدير كالأمة الإنكليزية، ومع ذلك فهي تتفوق في الشعر وتجيد فنونه، وأن بعض هذه الأمم لا اعتبار عندها للقافية مطلقاً ولها أيضا شعر جميل، وأن أمما ثالثة لا تقيم من التفاعيل شيئا كالصين وهي بعد تجيد الشعر على طريقتها في البيان.

وثانيها: أن سائر الشعراء قد رأوا أن اللغة العربية قد استنفدت في هذا المجال القول في القوالب المطروقة، فلم تبق قافية قصدوا استعمالها لم يبلها الشعراء نظما واستعمالا في المعنى نفسه أكثر من ألف سنة، ولا وزن لم يعارض فيه من سبقهم الذي سبقه ألف مرة، ثم إنهم كانوا يعلمون أن الشعر العربي عاش قصير الأنفاس لا يقوى على الملاحم الشعرية وكان المسؤول عندهم هو القافية.

وثالثها: مجيء فئة ثالثة من المثقفين بالثقافة الغربية الذين لم يحسنوا الاتصال بالتراث الأدبي العربي، ولم يتمكنوا من توسيع تأثرهم به فوجدوا في التفاعيل والأوزان والقوافي طلاسم لم يقووا على فك أقفالها وارتضوا لأنفسهم أن ينسجوا على طريقة الشعر الأوروبي، ثم جاء المقلدون الذين لا يحسنون شيئا من ثقافة عربية أو غربية فقلدوا هؤلاء في نظمهم وطريقهم".

(الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث، ج1، د. محمد الكتاني، الدار البيضاء، 1982، ص 455-454)

وفي كل من مصر والعراق، يضيف الكتاني، "جاءت حركة الشعر الحر متأثرة بشكل واضح بحركات التجديد في الشعر الإنكليزي والشعر الفرنسي.(ص467). ومن كبار شعراء الإنكليز الذين تأثر بهم شعراء التجديد "إليوت" ومن الذين تحدثوا ببعض التفصيل الشاعر "بدر شاكر السياب"، ويقول: "بين الشعراء الغربيين الذين تأثرت بهم في بداية الأمر "شيلي" و"كيتس" ثم "إليوت". (د. الكتاني ج1، ص466).

هيأت معركة تحرير الشعر الفرصة كذلك في بعض الأحيان لتوجيه أقسى النقد إلى ما هو أبعد في التراث والثقافة العربية، فقد اعتبر الأديب المصري "لويس عوض" الثقافة العربية مفروضة بالإكراه على الثقافة المصرية، فهي "أدب الخاصة" من السادة الفاتحين العرب منذ قرون، مما جعل المصريين يهملون أدبهم النابع من احتياجاتهم وتجاربهم، بمعنى أن المبدع المصري مغرب عن ذاته الأدبية والثقافية، وما أحوج المصريين إلى أن يثوروا لاسترداد وطنيتهم الثقافية وأصالتهم الفكرية". ويقول: "نحن نعيش في مجتمع آسن، أحدث شيء فيه تم منذ أربعة آلاف سنة، فالعفن في عقولنا وفي حواسنا، وفي كتبنا وعلى الجدران"!

ظهرت هذه الآراء عام 1947 في ديوان الشاعر المصري لويس عوض "بلوتولاند وقصائد أخرى"، وتقول "د.سلمى الخضراء الجيوسي" بأن السلطات المصرية منعت الكتاب من التداول في السنة نفسها "بسبب الموقف المتطرف من الأدب الذي يعبر عنه المؤلف في المقدمة، حيث يدعو الشعراء إلى الخروج على عمود الشعر (أي المبادئ التقليدية في الشعر العربي) وعلى عمود اللغة (أي المبادئ التقليدية في العربية الفصحى)، كما دعا الى ثورة شاملة في اللغة والأدب وذلك باستعمال العامية، رابطا بين السيطرة المستمرة للغة العربية الفصحى واستمرار السلطة الطاغية، لأن "العبودية" في بنية المجتمع المصري هي التي ركزت الاهتمام على الأدب العربي، أدب الخاصة، على حساب الأدب المصري، أدب عامة الناس، "فالمثقفون في كل جيل يستمدون ثقافتهم من ثقافة السادة المحليين أو السادة المستعمرين بحسب الحال لأنهم يولودون بأبوابهم".

(الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، د. سلمى الخضراء الجيوسي، بيروت 2001، ص588).

وتستحق جهود الأديبة الباحثة الفلسطينية د. سلمى الخضراء الجيوسي تقديرا خاصا، فهي شاعرة وناقدة ومترجمة أكاديمية ومؤرخة بارزة للشعر العربي، ترجمت إلى الإنكليزية عددا من دواوين شعراء كأبي القاسم الشابي وفدوى طوقان ومحمد الماغوط ونزار قباني وغيرهم، وساهمت في العديد من الموسوعات في الشعر العربي الحديث وأدب الجزيرة العربية والقصة العربية الحديثة وفي موسوعة كمبريدج للأدب العربي. وهي من مواليد مدينة "صفد" 1928 من أب فلسطيني وأم لبنانية، وعاشت بعد النكبة في الأردن.

وتقول في كتابها هذا وهو "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" ويقع في أكثر من 900 صفحة، ويعد موسوعة في مجاله، إن ديوان نازك الملائكة الثاني بعنوان "شظايا ورماد" الذي نشر ببغداد هو الذي بدأ حركة الشعر الحر رسميا وإعلاميا، وتضيف: "بالرغم من أن إحدى عشرة قصيدة فقط من بين قصائد الديوان الاثنتين والثلاثين كتبت بالشعر الحر، فإن الشاعرة في مقدمتها تعرض آراءها في الشعر الحر، هدفه وأفضليته الفنية، وقد كسبت الحركة دعما عندما نشر بدر شاكر السياب (1964-1926) ديوانه الثاني "أساطير" عام 1950 في النجف، وفيه بعض قصائد من الشعر الحر. كان هذان الكتابان حصيلة سنوات من التجريب، وقد تبع صدورهما جدل محرج عن أي من الشاعرين كان أسبق الى كتابة الشعر الحر". (ص598).

وتتناول د.الجيوسي شاعرا عراقيا آخر من شعراء العراق الكبار في معركة التحديث وهو "عبدالوهاب البياتي"، ثم تجمع الثلاثة، الملائكة والسياب والبياتي في ملاحظة نقدية وتقول عن البياتي: "اشتهر عبدالوهاب البياتي بعد ظهور السياب والملائكة وطلع على العالم الأدبي شاعرا حديثا مكتملا عام 1954 عندما نشر ديوانه الثاني "أباريق مهشمة". بدأ البياتي يكتب الشعر الحر في أوائل الخمسينيات، لكن هذا الديوان هو الذي أقام شهرته بين الشعراء المحدثين وغير انطباع القديم عنه بأنه شاعر رومانسي، وهو انطباع كان قد لحق به من ديوانه الأول "ملائكة وشياطين" 1950".

وعن تحولات الشعراء الثلاثة تقول: "من الطريف أن نلاحظ كيف أن هؤلاء الشعراء الثلاثة بدأوا رومانسيين في دواوينهم الأولى، ثم تحولوا عنها: السياب والبياتي بشكل جذري، والملائكة بشكل تدریجي، بدأت نازك الملائكة في ديوانها الأول عاشقة الليل انطوائية رومانسية، تعبر عن أحزان رومانسية وأسی حالم، لكنها تنم عن فردية وإبداع أكبر مما لدى أغلب معاصريها من الرومانسيين". (ص601).

وتتناول د. الجيوسي قضية أدبية أخطر وهي تخلف مصر عن ركب الشعر الجديد وهي التي شهدت في النصف الأول من القرن العشرين كل ألوان ومحاولات التحديث! تقول: "في نهاية الأربعينيات لم يبرز شعراء جدد مشهورون على الساحة الأدبية في مصر التي كانت لزمن طويل مركز المعرفة والأدب في الوطن العربي في العصر الحديث. وعلى الرغم من أن مصر كانت، منذ زمن طويل، تشجع التجريب والتنظير في الشعر، فإن الأدباء المصريين، باستثناء قلة من أمثال أبي شادي ومندور ومحمد مصطفی هدارة... إلخ، لم يظهروا اهتماما إلا بكتابات المصريين الآخرين، مستبعدين غيرهم من الكتاب العرب في الأقطار الأخرى أو في الأميركتين، وبذلك حرموا الشعراء المصريين من فوائد التطورات الغنية في الشعر التي كانت تجري خارج مصر، مما أثر في علاقات مصر الأدبية مع جيرانها العرب. كانت أشد علاقات مصر الشعرية حتى نهاية الأربعينيات مع الآداب الغربية: الإنكليزية (العقاد، وأبو شادي، وشكري وأغلب الرومانسيين)، والفرنسية على درجة أقل (صبري، ومطران، وخليل شيبوب، وبشر فارس، وآخر ثلاثة من أصل لبناني). وبعد أن كانت مصر في العصور اللاحقة معقلا مهماً لانتعاش الكلاسيكية المحدثة ودارا لمشاهير روادها، أصبحت ساحة لثورة رومانسية مهمة، كانت منذ العقد الثاني لا تقصر نفسها على روح الشعر ومحتواه بل تناولت بالتجريب المتطرف أحيانا كلا من اللغة والشكل أيضا". (ص602).

خليل علي حيدر

back to top