فلنشكر النعمة

نشر في 29-07-2021
آخر تحديث 29-07-2021 | 00:07
 د. بلال عقل الصنديد في بلد ليس بقريب، صيفه جفاف وقحل وشتاؤه طوفان ووحل، ينتظر الناس ملاك الموت للخلاص من شظف مآسيهم، ومن كتب له منهم فرصة العيش ينتظر على حافة الهلاك معونات المحسنين وإنسانية المانحين!

وفي بلد أقرب، لا يأمن المرء فيه على روحه التي بين جنبيه، ولا يملك الأب لحماية أطفاله إلا الدعاء؛ تحيط بالناس الأهوال من كل جانب، وتتساقط عليهم القنابل من كل صوب، ويحمدون الله في كل مساء على نعمة النجاة من عملية سطو من هنا أو من هجوم مسلح من هناك!

وهناك، على مرمى نظرة منّا، يعيش من يعاني لظى الحر وانقطاع الكهرباء، ويتأوه من تعتصر أمعاؤه من قلة الغذاء، ويجف لسان من يتوق الى الماء، ويكتوي الناس من نار الغلاء وتفشي الوباء وعموم البلاء!

وهنالك، حيث يصارع الوطن لبقائه، وتمتهن كرامة شعبه بالانتظار ساعات من أجل الحصول على ربطة خبز أو قارورة غاز أو جرعة دواء، ويفترش المرضى الأرض أمام طوارئ المستشفيات، ويجوب المرء شتى الجهات بحثاً عن حليب لطفل يصرخ جوعاً أو عن جرعة أمل لعجوز يئن من الألم.

كل ذلك، وما زال الإنسان في الأوطان المستقرة جهولاً وربما كفوراً؛ ينعم المواطن بسيل من التقديمات متناسياً واجباته الوطنية والدستورية، يتعايش الآمن مع النعمة وكأنها لا تزول، ويبرمج الشاب مستقبله على المنح والمكافآت دون استعداد لتكبد عناء العمل أو تحمّل التعب أو حتى الصحو باكراً للذهاب الى «دوام» لم يجتهد حتى في الحصول عليه!

لا شك في أهمية البعد الروحي والديني لشكر الله على جزيل نعمه بالدعاء والطاعة والسجود والصدقات، ولكن الدعاء قد لا يرفع البلاء، والطاعة قد لا تمحو العثرات، والسجود قد لا يرفع الدرجات، وقد لا تصل ليد الله الصدقات، إذا لم تسلك النهج الذي فرضه المنعم الكريم، ذو الفضل العظيم، فغالباً ما تنسب النتيجة إلى الفعل لا القول، والنوايا الحسنة لا تكفي لتبرير أي تصرف لا يتفق مع صحيح الدين والأخلاق والوطنية.

فعلى المستوى الديني، تقرّ الشريعة الإسلامية بأن المرء ابن بيئته، ولا تفصل بين الإيمان الفردي والتدين الجماعي ولا تفرّق بين الواجب الديني والاستقرار المجتمعي، فعبارة «المسلم المكلّف» تدّلل على تحمله واجب الفروض الكفائية والعينية معاً، والعبرة في الفروض الكفائية ليست بالعدد والأداء فحسب ولكن في حصول المنفعة المرجوة منها، وإذا كانت الغاية من الفروض العينية، كالصلاة والصوم والزكاة، هي بلوغ العبد سعادة الدارين في الدنيا والآخرة، فإن الغاية من فروض الكفاية التي ترتبط شرعاً بالمصالح العامة للأمة، هي سد حاجيات الجماعة وتقوية القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية والصناعية وغيرها... ومن هذا المنطلق فإن شكر الله على نعمه هو فرض عين يضمن للمرء درجات وحسنات، ولكنه في الوقت نفسه ينعكس بالإيجاب على المجتمع إذا اقترن بأداء، عيني وكفائي، تكون محصلته استدامة النعم وعموم الفائدة.

وعلى المستوى الأخلاقي فإن التنعم بالخير والتمتع بالنعمة لا يجوز أن يكون احتكاراً ولا افتخاراً، كما لا ينبغي أن يكون تقتيراً ولا تبذيراً، فلا يستأثر أحد بما رزق الله به إذا ما ثبتت حاجة الأفراد والمجتمع لقليل منه، والمشاركة المجتمعية هي في صلب الاتزان الأخلاقي والتوازن الاقتصادي، فالاعتدال يحفظ الموارد، ويوازن بين العرض والطلب، ويضبط الإنتاج، ويقلل حجم البطالة والكساد.‬

وعلى المستوى الوطني والقانوني، فكما تكفل الدساتير للمواطن حقوقاً من واجبات الدولة أن تحرص على تحقيقها، تفرض النصوص على الأفراد والمؤسسات التزامات ينبغي تأديتها، وفي هذا الصدد لا يستقيم الادعاء بأن تأدية الواجبات هي تالية ولاحقة على اكتساب الحقوق، فكلاهما متوازيان في المسار، متلازمان في الأداء، ومتوازنان في القيمة.

نشكر نعمة الماء بالحرص على عدم هدره، ونشكر نعمة الكهرباء بعدم الإسراف في استهلاكها، ونشكر نعمة الرعاية الحكومية بعدم التهرب من واجباتنا الضريبية، ونضمن استدامة التنمية بتحسس أهميتها وتلمس حجم تكاليفها وبالمشاركة الفردية والجماعية في تأدية الواجبات وبدعم جهود الإصلاح؛ فلا مرتش من غير راش ولا إنفاق من غير موارد ولا وطن من غير مواطنين!

د. بلال عقل الصنديد

back to top