الإخوان المسلمون... والثقافة (3-3)

نشر في 01-07-2021
آخر تحديث 01-07-2021 | 00:04
ستكون الثقافة والفن وحرية التعبير من أعظم التحديات في وجه "الشمولية الإسلامية"، كما كانت إزاء الأنظمة الأيديولوجية السابقة، وسيستمر الصراع الى أن يدرك المتسلطون الجدد أنه من الممكن سحق الورود والزهور، ولكن يستحيل منع انتشار أريجها!
 خليل علي حيدر كان الإخوان الذين عاصروا المرشد البنا مفتونين بمواهبه الخطابية والدعوية، كما نقرأ في كتاب "محمود عبدالحليم"، حيث يقول إن الدعوة كانت محور حياته إذ "لم يكن يشغله عنها شاغل في ليل ولا نهار، كانت ملء عقله وقلبه بحيث لا مكان فيها لشيء آخر، ولم أقدر النبوة حق قدرها إلا لما رأيت هذا الرجل، وجلست إليه، ولازمته وعاشرته.. حينئذ بدأت أحس بقدر النبي ومكانته، فرجل كحسن البنا هو دون الأنبياء، ومع ذلك فإن الدعوة شغلته بل صهرته حتى أخرجت منه صورة مجسمة لها، فإذا تكلم تكلم بالدعوة وللدعوة، وإذا سكت كان سكوته أسلوباً آخر للدعوة، وإذا تحرك فلها، وإذا سكن فلها، وإذا أحب فلها، وإذا أبغض فلها وإذا ضحك فلها، وإذا بكى فلها".

ويقول مضيفاً: "كنت إذا رأيته لم تر إلا دعوته، وإذا تحدثت إليه لم تسمع إلا دعوته.. حتى فكاهته، وما كان أجمل فكاهته، وما كان أسرع بديهته... حتى الفكاهة، لم تكن إلا في صميم دعوته".

ويرفض محمود عبدالحليم وصف "العبقري" للمرشد البنا ويقول: "إن أصحاب الدعوات لا ينبغي أن نسوي بهم العباقرة، فالعبقرية لا شك إحدى صفاتهم لكنهم صنف من الناس أوتوا بصيرة نافذة، وقلوبا حية واسعة، وألسنة تنطق بالحكمة البالغة، فهم يرون ما يعجز الناس عن رؤيته". (ص54-55)

ويدلك هذا الانبهار على مدى الخضوع الفكري الكامل الذي كان سائدا بين الإخوان للمرشد وخطبه، ولا يزال.

كان حسن البنا في بداية حياته يسعى إلى أن يكون صوفياً، كما يقول "النمنم" وبالفعل انضم فترة إلى "الطريقة الحصافية" وهنا يلاحظ "النمنم" سبب اختيار حسن البنا لقب "المرشد" بدلا من "رئيس جماعة الإخوان مثلا"، ويقول إن البنا، "لم يسترح لمسمى رئيس الجماعة، بل فضل المرشد العام، "فالرئيس له سلطة تنفيذية وقرارات إدارية، لكن المرشد يتحكم أو يحاول أن يتحكم في روح من يتبعه، وهو على الأقل لديه سلطة روحية عليهم، يحركهم أنى شاء هو، وهم لا يملكون من أمرهم شيئا، هذه العلاقة والتنظيم الحديدي أخذه حسن البنا من التصوف، فصار لديه ظاهر وباطن.. جماعة معلنة وتنظيم خاص، خفي حتى عن الكبار في الجماعة... وطاعة مطلقة من الأعضاء، لا يشوبها أي شائبه، ويصبح الإيمان بالجماعة مرادفا للإيمان بصاحبها أو المرشد، لا تتم هذه دون تلك، وغياب الثانية أو اهتزازها ينفي الأولى تماما، وتأمل ما فعله البنا مع أحمد السكري لا يقل في قسوته- بشاعة- عما كان يصدر من ستالين مع بعض رفاقه الذين يخرجون عليه أو يتصورهم كذلك". (ص 218).

وتنعكس معاني طاعة العضو للجماعة في نص البيعة التي تقول: "أعاهد الله العلي العظيم على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين والجهاد في سبيلها، والقيام بشرائط عضويتها، والثقة التامة بقيادتها، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وأقسم بالله العظيم على ذلك وأبايع عليه، والله على ما أقول وكيل".

يشتكي المتعاملون السياسيون مع الإخوان أن من الخطأ الثقة بهم وبوعودهم، فهم إما لا يلتزمون بها أو يفسرونها على نحو آخر، وكانت هذه على رأس شكوى وملاحظات المسؤولين السعوديين الذين تعاملوا معهم طويلا، ونقلت "الجريدة" عن رئيس الاستحبارات السعودية خلال حديث في برنامج تلفزيوني أنه "لا يمكن الوثوق بالإخوان المسلمين، فقد عملوا في السعودية، لكن ظلت بيعتهم للمرشد لا لولي الأمر".

وأشار الأمير "تركي الفيصل"، أنه "التقى ضمن لجنة بتكليف من خادم الحرمين بموفدين من الإخوان المسلمين في (جدة) قبيل الغزو العراقي للكويت، وكانوا يساندون غزو العراق للكويت، رغم ما قدمته الكويت لدعمهم".

(الجريدة، 29/ 4/ 2020).

لم يكن حسن البنا، كما يقول "النمنم"، رجل علم ولم يكن فقيها "لكنه كان رجل تنظيم ومعلومات بالفطرة"، ويستدل بالدقة والسرية اللتين بنى بهما المرشد تنظيم الإخوان السري، وقد أشرنا إلى استعانة الإخوان بالنازيين الألمان كذلك في تأسيسه.

ويرى النمنم من ناحية أخرى، أن الخلفية الصوفية للمرشد هي التي ساعدته في حبك نص الولاية والبيعة المتقن، الذي يحاصر العضو فيكون كالخرقة في يد غاسل الموتى، ويعتصر ولاءه لمرشد الجماعة. وعن جذور هذا النص في نقطة جديدة يضيفها حلمي النمنم يقول إن "من يقرأ الرسالة المنسوبة الى محيي الدين ابن عربي "في آداب المرشد والمريد" يجد أن العلاقة بينهما هي أقرب إلى أن تكون علاقة عبودية ليست علاقة أستاذ بتلميذه، ولا هي علاقة أبوية تربط بين أب وابنه، بل هي علاقة السيد بالعبد، ليس فيها أي ندية. ليس للمريد أن يتكلم نهائيا في حضرة المرشد إلا إذا طلب منه ذلك، وليس له أن يناقشه فيما يقول ولا أن يعترض عليه، ولا أن يرفض أي طلب يطلب منه، حتى لو كان فيه إزهاق روحه، وأن تكون روح المريد وحياته في يد المرشد كجثة الميت بين يدي من يقوم بغلسها، وإذا توفي المرشد ليس للمريد أن يتزوج من زوجته.. وهكذا". (ص217).

ولهذا كله استراح حسن البنا للقب "المرشد" لا "الرئيس" القائد الروحي الذي لا يعرف إلا الطاعة العمياء "ولأن الشيخ البنا كان محاطا بمجموعة من المبهورين أو المنسحقين أمامه، معظمهم كانوا شبابا صغارا، وبلا عمق أو تفقه في علوم الدين، فلم يجد من ينتبه إلى خطورة ما يقوم به وما يفعله". (ص174)

ويرفض الأستاذ "حلمي النمنم" بعكس الكثيرين وضع البنا في مكانة واحدة مع "جمال الدين الأفغاني" و"الشيخ محمد عبده"، ويقول: "اعتبر فريق غالب من الباحثين والدارسين المصريين والعرب والأجانب حسن البنا وجماعته، تجليا وامتدادا لمشروع أو حركة جمال الدين الأفغاني، وتساءل د. حسن حنفي كثيرا بأسى كيف أن مشروع الأفغاني ومحمد عبده النهضوي كان يضعف ويزداد أنصاره تشداداً أو سلفية من رشيد رضا وحسن البنا؟!"، ويضيف قائلا: "والواقع أنه يصعب علينا اعتبار حسن البنا امتدادا ولو باهتا وضعيفا لجمال الدين الأفغاني وأفكاره، بل إن التدقيق يمكن أن ينتهي بنا إلى اعتبار حسن البنا وأفكاره نقيضا لأفكار ومشروع الأفغاني.. وهو كذلك نقيضا لأفكار ومشروع الأستاذ الإمام محمد عبده، رغم الاختلاف أو عدم التطابق بين الأفغاني ومحمد عبده". (ص147).

وإحساس الإخوان بالفراغ والضعف الثقافي في الحركة شعور عام تحدثت عنه بعض قياداتهم بصراحة في كتبهم، واقتبسنا نماذج منها في كتابنا "مشاكل الدعاة"، 1988، بعنوان "ثقافة الدعاة".

فبعض كتاب التيار الديني لا يتردد عن توجيه أشد النقد لـ"المكتبة الإسلامية" لهزال محتوياتها. فيقول "عمر عبيد حسنة" ناقدا، "إن المكتبة الإسلامية الحديثة غنية بالكثير من الدراسات التي تحمل طابع الكلام عن الإيجابيات ووضع المبررات، وكيل المديح بلا حساب، أما الدراسات الناقدة، والأصوات الناقدة، فتكاد تكون غائبة تماما، ويرى الشيخ "عبدالبديع صقر" أن الكثير من البحوث الدينية اليوم، تعاني من "التكرار وضعف المستوى العلمي وسوء الإخراج وعدم الموضوعية". (كيف ندعو الناس، القاهرة، 1984، ص61-62).

ويستهجن أحد أبرز المؤلفين الإخوان السوريين "سعيد حوى"، ت 1989، اتهام الإخوان من قبل خصومهم "بالعقم الفكري"، ويقول إن حركة الإخوان بعكس هذه الاتهامات "لم تترك شاردة ولا واردة في الحياة البشرية إلا وحاولت أن تتكلم فيها". ثم يطرح زعما باطلا بالقول إن الإخوان يعتبرون "كل كتابة إسلامية صحيحة هي منها وإليها، والتي ترث الثقافة الإسلامية خلال العصور وتحاول إحياءها". ويعدد بعض مفكري الإخوان، بمن فيهم "مأمون الهضيبي" و"فتحي يكن"، من أعلام الثقافة الإسلامية المعاصرة.

(المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين، القاهرة 1984، ص280).

كتبت قبل عشر سنوات مقالا عن "الأدب الإسلامي" ومصير الثقافة والفن في ظل الإسلاميين قلت في نهايته: منذ سنوات والإسلاميون يكتبون عن "الأدب الإسلامي" و"الفن الإسلامي" و"الرواية الإسلامية" و"السينما الإسلامية" وقد سمعنا الكثير دون أن نرى طحناً! لم نر لوحة أو رواية! هل يمكن حقا كتابة رواية ناجحة بموجب الشروط التي يضعها محمد قطب والإسلاميون للأدب "الإسلامي الصحيح"؟ وهل يمكن ظهور فن تشكيلي من رسم ونحت تحت رحمة سيوف التكفير والتحريم؟ وهل الثقافة والرواية "الإسلامية"، بسهولة الشركات والمصارف الإسلامية"؟ وهل يمكن ازدهار مسرح، وفرق الحسبة تدخل الصالات، وتعتقل من هم حتى خلف الكواليس وفي الشارع المجاور؟!

ستكون الثقافة والفن وحرية التعبير من أعظم التحديات في وجه "الشمولية الإسلامية"، كما كانت إزاء الأنظمة الأيديولوجية السابقة، وسيستمر الصراع الى أن يدرك المتسلطون الجدد أنه من الممكن سحق الورود والزهور، ولكن يستحيل منع انتشار أريجها!

خليل علي حيدر

حلمي النمنم يقول إن البنا فضل لقب «المرشد العام» على «الرئيس» لأن المرشد يتحكم في روح من يتبعه
back to top