المئوية الثانية لرحيل نابليون (2- 3)

نشر في 02-06-2021
آخر تحديث 02-06-2021 | 00:10
 خليل علي حيدر لم تكن صداقة الصبا تمنع "نابليون" من تأنيب أرفع المارشالات، يقول المؤرخ لودفيغ: "إذا ارتكبوا خرقا أو أظهروا جبناً، ووصفهم بأنهم أطفال"! وقد عنّف أحد هؤلاء وهو "جونو" بقوله: "لقد سلكت سلوكاً خالياً من اللباقة ليس له مثيل، إن فكرتك عن واجباتك العسكرية فكرة عوجاء"، وقال لجنرال في "لومبارديا": "لقد شهدت في قيادتك القليل من الاستقامة والكثير من الجشع، لكن الذي كنت أجهله الى اليوم هو أنك جبان. اترك الجيش ولا ترني وجهك بعد الآن".

وكان يدرك قوة بريطانيا وبخاصة في مجال الأسطول البحري، فقُبيل تجدد الحرب الإنكليزية أوضح للسفير الإنكليزي مبلغ ما يعوزه من سنين للوصول بأسطوله إلى مرتبة الأسطول الإنكليزي، لكنه لا يحتاج الى كثير وقت لحشد جيش قوامه 400000 جندي. وبعبارة دبلوماسية غامضة قال ذات مرة للمفاوض النمساوي: "هذا بلاغي النهائي، فإن هزمتموني عرضت شروطاً أحسن من هذه، أما إذا انتصرتُ فستكون شروطي أقسى... بيد أني أريد السلم". وفي المكر والدهاء اعترف نابليون وهو قنصل في مجلس الدولة، "إن سياستي هي أن أحكم الناس كما تريد كثرتهم، وقد بتُّ كاثوليكيا قُحاً لأنهي الحرب في "الفانديه"، وبتُّ تركيّاً في مصر، وباباوياً مغالياً لأستميل الأفكار في إيطاليا، فلو حكمت اليهود لأعدت لهم بناء هيكل سليمان".

ويقول إن الثورة الفرنسية ساوت بين اليهود وغيرهم، ولكن بعضهم "آذى أهالي الراين بالربا، ونابليون يدرك قيمتهم كتجار، فهو يتحاشى أن يطردهم ويتخلص منهم، ويفكر على النقيض فيدعو "السنهدريم" مجلسهم الأعلى Grand Sanherin (وهو مجلس يهودي ديني كان قد حُل أو اختفى من المشهد اليهودي قبيل القرن الرابع الميلادي، كما تقول المراجع اليهودية) إلى الانعقاد في باريس، وكان لا ينعقد منذ مئات السنين، ويطلب إليه الفصل في هذا الموضوع، وبذا تحظر السلطة اليهودية نفسها الربا على اليهود وتعده من الخطايا".

(ج2 ص230، وانظر كذلك The standard Jewish Encyclopdia, Cecil Roth, new york, 1959)

ويقول المؤرخ "لودفيغ" إن الألمان كانوا "مبعث حيرة نابليون ودهشته بالقياس إلى سائر الشعوب: فقد وجد فيهم كل ما ينقصه، ولم يجد فيهم شيئا مما فيه فأحس لذلك نحوهم شيئاً من التهيب والهيبة، إذ كانوا في نظره قوما على كثير من الغرابة، والموسيقى والفلسفة الألمانيتان كلتاهما لابد أنهما كانتا في نظره على قدر واحد من الغرابة".

ويضيف لودفيغ: "أن نابليون أراد كذلك استخدام الدين والتمثيل، "لتخدير أعصاب الجمهور"، ولم يكن يأبه بماهية الدين في ذاته، بل كان يهمه دوره الاجتماعي، لأنه "يربط بالسماء فكرة عن المساواة، تمنع الفقير أن يذبح الغني"، ويضيف نابليون في هذا الصدد، "إن للدين مفعول التطعيم من الجدري: فهو إذ يرضي ميلنا إلى المعجزات، يحمينا من المشعوذين، والمجتمع يمكن أن تقوم قائمته من دون مساواة في الثروة، لكن لا يمكن أن تقوم له قائمة بلا دين". (ص232).

وكان في بعض مراحل حياته حائراً بين الجمهور والحكم المركزي المعتمد على أغلبية برلمانية ثابتة، ويقول "لكن هذه الغالبية البرلمانية لا تنهض إلا بالرشوة، سرطان الشعوب، والرشوة سلاح مخيف في يد السلطة المركزية".

ولا شك أن نابليون كذلك قد سبق عصره سياسياً، حيث كان أحد المبشرين بالاتحاد الأوروبي! يقول: "في أوروبا أكثر من 30 مليونا من الفرنسيين و15 من الإسبان و15 من الإيطاليين و30 من الألمان، وقد أردت أن أجعل كلا من هذه الشعوب هيئة شعبية قومية واحدة كاملة... فلو أن ذلك تم، لأتاح معظم الفرص لتوحيد القانون في كل مكان، وتوحيد المبادئ، والآراء، والمشاعر ووجهات النظر، والمصالح... ولأمكن عندئذ التفكير في ولايات أوروبا المتحدة على غرار ولايات أميركا أو الحلف الأمفيكيتوني اليوناني... كم كان هذا يبشر بالقوة، والعظمة والرفاهية... وقد أمكن في فرنسا، ولم يمكن في إسبانيا. وقد كنت أحتاج الى عشرين سنة لأؤسس الأمة الإيطالية، أما الألمان فكنت أحتاج معهم فوق هذا إلى الصبر، وكل ما استطعته معهم أني بسطت دستورهم المعقد. بهذا أردت التمهيد لتوحيد مصالح أوروبا الكبرى كما وحدت الأحزاب عندنا... ولم أكن أحفل كثيرا بتذمر الشعوب من جراء ذلك، لأني كنت واثقاً بأن النتيجة سترد هذه الشعوب ثانية إليّ... لقد كانت أوروبا خليقة أن تصبح في القريب شعبا واحداً، يشعر المسافر فيها بأنه في وطن مشترك، وسيتم هذا الاتحاد بقوة الأمر الواقع إن عاجلا وإن آجلا، وقد حفز إليه، وأعتقد أن بعد سقوط نظامي واختفائه، لن يكون تم توازن غير التوازن الذي تنتجه رابطة الشعوب". (ص235).

راودت نابليون لحظات من الشك العميق في الثورة الفرنسية ومنجزاتها! فهو يقول على قبر "جان جاك روسو"، "كان خيراً لراحة فرنسا ألا يولد هذا الإنسان". وعندما سئل لماذا، أجاب "لقد مهد للثورة"، فقيل له ما معناه أنتم جزء من الثورة ولستم الرجل الذي يأسف على وقوعها! فقال مؤكداً شكه وتغير رأيه في الثورة، "سيعلمنا المستقبل هل لم يكن من الخير لراحة العالم ألا نولد روسو وأنا".

وكان يشعر على الأرجح بالوحدة والاكتئاب، وكان البحر غريباً عنه بعكس الصحراء التي كانت بالنسبة له صورة اللانهائية، ويقول المؤرخ إن نابليون "كان كالمحكوم عليه بعزلة محزنة دفع بها ثمن اعتداده بالذات... وخير ما يقتل به الوقت هو المطالعة والإملاء، "والإلياذة" أسمى ما يجده، وهكذا يجد نابليون راحته في "هوميروس"، و"الأوديسا" لا تسترعي منه مثل هذا الانتباه، ثم يثني على "أوديب" لسوفوكليس و"الفردوس المفقود" لملتون، والكتاب المقدس، ويقرأ "موليير" الذي ازدراه في أيام سطوته، وأخيرا يقرأ كل جديد من المذكرات والرسائل وخاصة ما كان ضده، وإنه من ثم ليوم عظيم حين تجيئه السفينة من الوطن بصناديق جديدة من الكتب لا تلبث أن تملأ مكتبته الكالحة الرطبة بثلاثة آلاف مجلد".

أما طريقة قراءة نابليون للكتاب، فمما يؤسف له، يضيف لودفيغ، "أنه يقرأ الصفحات عموديا من فوق لتحت فلا يستغرق الكتاب في يده ساعة واحدة، حتى إنه كثيرا ما يعود الخادم، وذراعه محمل بهذه الكتب الى مواضعها، ولما يمضى يوم على إحضارها من رفوفها، ذلك أنه كلما قرأ كتاباً أو لم يرقه كتاب ألقاه على الأرض".

كانت إنكلترا قد زادت حامية الجزيرة من 200 جندي إلى 3000 لتحرس بهم الرجل الواحد، وكانت هذه الحراسة تكلفها ثمانية ملايين فرنك في السنة، ولكن نابليون لا يؤمن جانبه، وقد قُبض مرة على ستة ضباط من "ريودي جانيرو" (بالبرازيل) أرادوا أن يهربوا به فيما يشبه الغواصة، وفي مرة أخرى عرض عليه ربانا سفينتين من السفن التي تسافر إلى الهند، رستا بالجزيرة، أن يهرباه، فرفض اقتراحهما، كما عرض على الإمبراطور نابليون أن يتم تهريبه إلى أميركا مقابل مليون فرنك تدفع عند نزوله الى البر.

يعترف نابليون في مذكراته، يقول المؤرخ: "ليس مسؤولا عن نكبتي سواي، فقد كنت وحدي ألدّ عدو لنفسي والمسبب لمصيري"، ويضيف "لودفيغ" معلقاً على ما يقوله نابليون: "بهذا الاعتراف الذي هو أعمق اعترافات المنفى جميعاً تغلب نابليون على كل ما كدر نفسه من ذكريات عظمته القيصرية في زهرة عصره".

ومن عجائب اعترافات نابليون في منفاه ندمه "أنه لم يذهب إلى أميركا"! ويقول إنه من هناك "كنت أستطيع أن أؤسس مركزاً لوطن فرنسي جديد، وأن أجمع حولي ستين ألف رجل في سنة واحدة.. كان ممكناً بالتنكر والهرب أن أبلغ أميركا، لكن كليهما كان مهيناً"، ويتأمل نابليون عِبَر التاريخ البشري فيقول في حديث ذات مرة مع الإنكليز عن إنكلترا مهاجماً النبالة الإنكليزية: "لا يبني الأمم حفنة من النبلاء أو الأغنياء، ولكن يبنيها جمهور الشعب، وصحيح أن الغوغاء إذا باتت لها اليد العليا غيرت اسمها وأسمت نفسها شعباً، فإذا غُلبت على أمرها شنقوا من بينها بضعة مساكين وأسموهم لصوصاً وثواراً، وهكذا الدنيا: غوغاء أو لصوص أو ثوار أو أبطال، حسبما تكون خواتيم الكفاح". (ص286).

يتبع غداً،،،

● خليل علي حيدر

back to top