شاعر التمرد والحزن الذي سكن الإنسان العربي (10-16)

الماغوط يتغلغل في «وادي المسك» ليفضح الواقع العربي

نشر في 23-04-2021
آخر تحديث 23-04-2021 | 00:00
نجح الماغوط في فيلمه الأول الحدود، وقرر إثر توقف فترة من الزمن بعد اجتماع مع الفنان المبدع دريد لحام العودة إلى السينما بفيلم جديد فكان هذا الفيلم هو «التقرير»، الذي ساهم دريد لحام في كتابة السيناريو الخاص به، ثم تابع العملاقان تعاونهما في الدراما عبر مسلسل «وادي المسك»، الذي ترك بصمته الفعلية منذ صدوره وحتى إعادة عرضه في كل مرة.
خاض الماغوط تجربته السينمائية الثانية في فيلم «التقرير»، الذي تحدث عنه -في حوار تلفزيوني- أعضاء الوفد السوري بمهرجان القاهرة العاشر، وهم المنتج نادر الأتاسي والفنان دريد لحام والفنانة رغدة والشاعر محمد الماغوط، حيث أكد الأتاسي أن اقتراح الفيلم جاء من خلال الفنان دريد لحام، بعد تجاربه في المسرحيات والتجارب السينمائية، مضيفا أنه عندما يقرر أن يصنع فيلما سيكون دريد لحام المخرج، لأنه أصبح مدركا لما سوف نصنعه من كل الجوانب وجاهز للمغامرة، ومن ثم تم اختيار الشاعر والكاتب محمد الماغوط لكتابة العمل، كما قررنا الاعتماد على ممثلة ناشئة جديدة في السينما ووقع الاختيار على رغدة.

في حين تحدث الماغوط عن اللقاء، الذي جمعه بالفنان دريد لحام، مشيرا إلى أنه قد جاء بالصدفة، وكان هناك معرفة سابقة وبداية لبعض المحاولات، لكنها لم تكن جادة بالشكل المطلوب، كما أن الأوضاع كانت صعبة، فلم يكن الوضع مهيأ وقتها لعمل جاد. ويتابع: لكن بعد حرب تشرين (أكتوبر) كنا نحن الاثنين ضائعين، لكنه كان (أي دريد) أكثر ضياعاً مني، لأنني كنت في جميع مؤلفاتي من الخمسينيات متنبئاً بما سيحدث، ولقاؤنا كان أشبه بغريب التقى بمركب كان سريعا، والحديث تم عبر التليفون، وقال لي دريد: ما رأيك في عمل مشترك؟ فقلت له: إنني حاضر والموضوع شبه جاهز. ومن ثم بدأنا واجتمعنا في أماكن متعددة كالمقاهي وغيرها، وخلال شهرين أو ثلاثة كانت مسرحية «ضيعة تشرين» جاهزة، والنجاح الذي حققته شجعنا على الاستمرار، ومن ثم «غربة» و»كاسك يا وطن». أنا أعتبر نفسي حتى بالمسرح هاوياً، وبالنسبة للسينما أعتبر نفسي أقل من هاوٍ، لكن بتصوري الكلمة الصادقة تعادل كل ما في الوطن العربي من إذاعات على مدار 24 ساعة، وتوقعنا نجاح فيلم الحدود، ببساطة لأنه لا يحوي أي عنصر من عناصر الافتعال أو الكذب أو التضليل.

وفي الحوار تسأل المذيعة الفناة رغدة عن رأيها حول ما قاله النقاد إن أداءها في الأعمال السورية تفوق على أدائها في الأعمال المصرية فتقول: إن اكتشافها الجاد كممثلة جادة في السينما كان عن طريق الأساتذة محمد الماغوط ودريد لحام ونادر الأتاسي.

اقرأ أيضا

ثم تسأل مقدمة البرنامج الشاعر محمد الماغوط، إذا كان يتشارك مع دريد لحام كتابة السيناريو فيرد: إن صنعتي هي الكتابة وفيها خبرتي، ودريد يؤمن بهذا الكلام فيكون دائما الخط المسرحي سليما، فالمسرحية لا تكتب حتى تنضج تماما، وتصبح مكتوبة في المخيلة، وفي الذاكرة، ومن ثم للأستاذ دريد الذي يمتلك حس الصورة وتصور المشهد، وهذا نادر في هذه الأيام، وعندما تلتقي الصورة مع الكلمة مع الصدق سيكون العمل جيدا.

ويجيب الفنان دريد لحام عن الذي دفعه لإخراج الفيلم، على الرغم من وجود من يقوم بهذا العمل غيره، بأنه يمتلك تجارب سينمائية سابقة، لكنها حقيقة لا تتوافق مع طموحه في تلك المرحلة (مرحلة الصحوة)، وكان يتساءل عن السبب، ويتابع لحام: عندما تكتب شيئا بقلمك فأنت تعبر عن الأشياء التي تراود ذهنك وفكرك، لكن في كثير من الأحيان عندما تقرأ ما تكتب ستجده أقل بكثير من الموجود في رأسك، فالقلم أو الجملة لا تكون قادرة على التعبير، وبالتالي الذي يُكتب يكون مهما، ولكن الذي لم يُكتب يكون أهم، وهذا ما نقول له «الأشياء بين السطور»، ففي بعض الأحيان تكون هذه الأشياء هي الأهم، وبالتالي لابد من العودة إلى الحلول، وباعتبار أنني شاركت الأستاذ الماغوط بكتابة السيناريو، فهناك أشياء كثيرة نشعر بها لكن لا نستطيع شرحها حتى نستطيع كتابتها أو توضيحها، وبقيت في ذهني كممثل، ومن هنا جاءت فكرة أن أقوم أنا بإخراج فيلم لأنني أعرف الأشياء التي بين السطور، والتي تحدثت عنها، وقد لا أكون المخرج الأفضل للفيلم، لكني الأكثر أمانا لإخراجه، وربما أنا مخرج متوسط أو دون المتوسط، ولكن قد أكون أفضل من غيري على أمانة النقل والتوصيف، وهنا يحق لي أن أتوجه بالشكر للأساتذة في مصر الشقيقة كالأستاذ عاطف سالم والمرحوم يوسف معلوف وحلمي رفلة وغيرهم، فقد تعلمت منهم الكثير. وفيلم الحدود مختلف، مثلا أنا في فيلم التقرير لم أشارك في كتابة السيناريو، فقد كتبه الأستاذ الماغوط، لكن شاركته في المراحل الأخيرة، وهي المراحل الفنية وليست المراحل الأدبية، وحتى يكون النقل صادقا كنت أتصل بالأستاذ الماغوط يوميا وأقول له إنني خارج الآن لأصور المشهد الفلاني وإنني أرى فيه كذا وكذا، وأسأله إن كان هناك تعارض أو إن كان هذا ما يقصده بالضبط، فعندما أضطر لتغيير كلمة أسأله: هل هذا الكلمة في مكانها؟ ولو غيرناها هل هناك تعارض؟ فيجيب عن تناسب أو عدم تناسب الكلمة أو عن شموليتها، مما يدل على أن العمل الفني عمل أسري جماعي، كلما كان هناك تفاهم بين المخرج والكاتب والممثل والمنتج سيكون العمل بالنتيجة أكثر انسجاما،

ومن ناحية المنتج الأتاسي لم يكن يسأل عن الأمور المادية أو الربح والخسارة في العمل، وكان يحدثنا من مكان إقامته في باريس ويسأل: ما الذي صورتموه اليوم؟ وكم مشهد؟ وهل استخدمتم ما يكفي من الكومبارس؟ ويسأل دائما عن الأستاذ محمد الماغوط. المهم أن يكون العمل ناجحا يتحدث عنه الناس. وصراحة لولا وجود منتج كنادر الأتاسي كنا قعدنا في البيت دون عمل.

وحول سؤاله عما يتحدث عنه الفيلم يجيب الماغوط: الفيلم أشياء كثيرة بكلمات قليلة، عن كل النتائج السلبية للسياسة العربية، لم يتحملها السياسيون بل تحملها الإنسان العربي، البعض يدري والبعض الآخر لا يدري، وحاولت في هذا الفيلم أن أشرح بإيجاز وبشاعرية أسباب غربة الإنسان العربي عن وطنه وغربة الوطن عن الإنسان العربي، وهذه الغربة لم تكن من قبل، كنا أكثر فقرا وأكثر أمية وأكثر جهلا، ومع ذلك كان هناك نبل وفروسية وتعاطف وحميمية، وهذه الظواهر النبيلة فقدت أو تلاشت عاما بعد عام، يرتفع بناء الأسمنت فينهار شيء من الإنسان، يرتفع بيت فينهار شيء من روح هذا الإنسان. وشخصية المستشار في فيلم التقرير هي حصيلة هذا الإنسان، يعني نموذج الإنسان الذي عانى ما يعانيه من أخطاء السياسيين.

«وادي المسك»

يختار الماغوط في مسلسل وادي المسك شخصيات حبكته الدرامية، راسماً مجتمعاً مثالياً يعرف فيه كل مواطن في الحارة المقصودة حقوقه وواجباته المفروضة عليه، ويقوم بدوره في هذا النسيج، مجتمع يعيش في سلام واطمئنان وفقاً لنظام اجتماعي سليم. استمر سكان هذا الحي النموذجي على ضوابطه، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، حتى صارت سيرة كل واحدة منهم عطرة مثل المسك، وربما هي السبب وراء تسمية المسلسل بهذا الاسم، إلى أن جاء شخص من خارجه، ينتحل شخصية أحد أبنائه (غوار الطوشه)، الشاب المغترب الذي يعمل خارج بلده ليبني مستقبله مع زوجة المستقبل ابنة عمه يسرى، وأثناء سفره يتعرض لعملية نصب من قبل شخص يشبهه بالشكل تماما، فيقوم الأخير بسرقة أمواله ويتعرف منه على كل تفاصيل حياته، ليسافر هذا المحتال إلى بلاد ذلك الشاب، فينخدع أهل البلد به ويظنونه الشاب الحقيقي ابن بلدهم.

تستمر وتيرة الحلقات الأوائل من المسلسل، موضحة النسيج الاجتماعي، كل شخص في مكانه المناسب، ما أدى إلى خلق حالة توافقية بين أفراده، فلا يُضام أحد ولا تصادر حقوقه، وينام وهو مطمئن البال على نفسه وممتلكاته. تستمر هذه الصورة التي يسير عليها أهل هذا الوادي بالتراحم والمودة فيما بينهم وإنزال الناس منازلهم، إلى أنْ هبط من الطائرة منتحل شخصية ابن الوادي وقبّل أرض الوطن، فانطلقت زغاريد شقيقته (كوكب/ منى واصف) وصهره (المحترم/ رفيق سبيعي) على هذا الفعل النبيل، الذي يدلُّ على أصالته ووفائه لتراب بلاده، بالرغم من غيبته الطويلة، والحالة المادية المتميزة التي عاد بها، إضافة إلى أنه رجع مرتديا ملابس الوادي الشعبية، واضعا العمامة على رأسه، فاحترمه على ذلك سكان الحي احتراما زائدا، وأثنوا على هذه الخصلة النبيلة فيه، كما استقبلوه بــ»العراضة»: «أهلا وسهلا باللي جاي»، التي تتميز بها الشام «دمشق خاصة»، وتعتبر نمطا من الفنون الشعبية السورية، كما قام الدجال وقبل أنْ يخرجوا من المطار عائدين إلى الوادي بتوزيع الهدايا على شقيقته وصهره وكل من استقبله، ووعدهم بالخير الوفير القادم وراءه، حينما يصل الشحن من بلاد الغربة التي عمل فيها لأكثر من عشر سنين.

وفي أول حلقة بعد وصوله إلى الوادي، قام «غوار الطوشه» المزيف بمحاولة التغلغل والانخراط في نسيج المجتمع والانصهار مع أفراده، ومعرفته عن قرب، بناء على تفاصيل شخصية كل واحد منهم، مما وصل إليه من خلال علاقته بـ»غوّار» الذي عمل معه، حتى استطاع أن يُبدّد شكوك خطيبته «يسرى» في شخصيته بعد أكثر من موقف تنكر فيه لذكرياتهما معاً منذ صباهما، وهي التي طال انتظارها له.

ومع تسارع الأحداث، استطاع أن يختبر نقاط الضعف في شخوصهم، ولكي يمرّر مشروع إفساده قرّب إليه القلة القليلة من أبناء الحارة، خصوصاً من المجرمين والمرتشين، وكان على رأسهم «أبوعنتر» الحرامي الملقى وراء قضبان السجن بتنفيذ (المحترم) وبقرار من المجلس البلدي للوادي، لأنه على الدوام يخل بلائحة القوانين المعمول بها، ويخترق الناموس العرفي المعتمد في هذا الوادي، فعمل على إخراجه تحت ذريعة دراسة نفسانية قام بها لهذه الشخصية، وطلب من المجلس البلدي العفو عنه للاستفادة من كل القدرات المعطلة، لأجل تحريك دولاب التطور والنهوض بالمجتمع الناهض أصلاً، غير أنّ «المحترم» تصدى لـه فيما بعد من دون إعلان ذلك، ولكن من خلال مناهضته لأي قرار جديد يمسُّ بقدسية الدستور الشرعي أو يعدّل في مواده، مما جعله يحيك الدسائس، حتى عمل على تغييبه وراء قضبان النسيان والتجاهل، لأنه العقبة التي تقف حائلاً دون تطلعاته الشيطانية، وما أن تمّ له ذلك، عمل على أن يسلم دفة الأمن لهذا المجرم، ويجري انتخابات غير نزيهة، ليصل مرشحه ورجله المفضل «ياسينو/ ياسين بقوش» الساذج إلى تولي سيادة المجلس البلدي، حتى يكون واجهة قانونية صورية لتسريب خططه ومشاريعه الفاسدة، ونفث سمومه في أوصال المجتمع، فتعفن هذا الوادي وصارت رائحة مسكه نتنة، وتداعت أركان السلم والأمن والشرف فيه، واستتبّ -من ثم- الأمر كله لـه ولزمرته من الأذناب التابعة له، إلى أن اكتشف حقيقته ذلك الببغاء، الذي تربطه علاقة صداقة وطيدة مع «غوّار الطوشه» الحقيقي والمغيب، وفضح أمره، وعاد «المحترم»، وهو ينشد في أزقة حارة وادي المسك: «هيلا يا واسع... هيلا هيلا».

ثم يعود الشاب الحقيقي ويقرر أهل الوادي إقامة محاكمة لمعرفة أيهما الحقيقي، فتحكم المحكمة بأن المحتال هو الابن الحقيقي لأن أعضاء المحكمة مستفيدون من ذلك المحتال، ويقررون تسليم الشاب الحقيقي للإنتربول، ولكن في النهاية يتصدى أهل الوادي للمحتال والمستفيدين منه، ويتم القبض عليهم.

أنتج المسلسل عام 1982، وهو من تأليف محمد الماغوط وإخراج خلدون المالح وبطولة دريد لحام، ومنى واصف، ورفيق سبيعي، وعمر حجو، وياسين بقوش، وناجي جبر، وأميمة الطاهر، وسلمى عبديتش، ومحمد العقاد، وأديب شحادة، ومحمد الشماط، ومحمد طرقجي، وهيثم جبر، ونصوح السادات، وصديق بدر، وحسام تحسين بك، وأحمد مسالخي. وقد عرض على أغلب قنوات التلفزيون الأرضية.

السلطة والإنسان عند الماغوط

السياسة أو السلطة عند الماغوط بشكل عام ليست شاعرية، ليست حنونة، بل حديد، بيتون دبابات، بنوك، وأما الإنسان ففي أعماقه نقيض هذا التجمع المخيف، ولذا عندما يصدم فيه ويكتشف أنه كان غارقا في نزاهته وإخلاصه معتقدا أن كل العالم نزيه وكل العالم جميل وكل العالم أمين ومشرق، وعندما تضعه الظروف خارج هذه الدائرة يكتشف البلاوي، ويبدأ في تقصي جذور هذه الغربة كغربة التلميذ عن المناهج التي يدرسها، وغربة الفلاح عن أرضه، وغربة القارئ عن الجريدة التي يقرأها، وغربة الجندي... نعم إن هذه الغربة مريعة، فيستنجد بالتاريخ ويستغل الحاضر للوصول إلى شيء قد يكون جريئا، ولكنه واقع، أي نحن الدول البسيطة التي تشبه بساطة شعوبها ضحية صراع دولي لا ناقة لنا فيه ولا جمل، وهذا شيء يحسه الناس ويتحدثون به يوميا، ولكن لم يجرؤ أحد أن يقول هذه الحقيقة علانية.

شادي عباس

«التقرير» كان التجربة السينمائية الثانية للماغوط أخرجه دريد لحام وشارك في بطولته مجموعة من نجوم سورية

اعتبر نفسه في المسرح هاوياً وفي السينما أقل من هاوٍ لكن الكلمة الصادقة تعادل كل إذاعات العرب

عندما تقرأ ما تكتبه فستجده أقل بكثير مما في رأسك فما لم يُكتب أهم مما كُتب وهذا نقول له «الأشياء بين السطور» دريد لحام

غوار المزيف وأبوعنتر وياسينو جسدوا شخصيات الشر والانهزام في الوادي

الماغوط وصف لحام بأنه يمتلك حس الصورة وتصور المشهد وأكد أن منتج الفيلم لم يسأل عن الأمور المادية
back to top