الغيرة تدفع شاباً لإلقاء أخويه في مجرى مائي

شبح «التوأمين» استمر في مطاردة الجاني خلف القضبان

نشر في 22-04-2021
آخر تحديث 22-04-2021 | 00:00
No Image Caption
لا يزال شبح «التوأمين» يطارده خلف القضبان، ونظرات الفزع في عيونهما البريئة، وتحوّلت مشاعر الكراهية إلى ندم على جريمةٍ عبثية، والخوف من العقاب بعد سقوطه في قبضة الشرطة، ومثوله للتحقيق عن أسباب قتله لشقيقيه. اعترف المجرم أن الغيرة من الضحيتين، دفعته للانتقام منهما من دون ذنب اقترفاه، وتهاوت أطماعه في الميراث، وأفاق القاتل على مصير مظلم في انتظار جلسة النطق بالحكم.
كان سليم جالساً تحت ظل شجرة، يتأمل بذهن شارد سنابل القمح اللامعة في وقدة الظهيرة، وبينما يمسح العرق عن وجهه، سمع صوتاً يناديه، فانتفض واقفاً في اتجاه شقيقه الأصغر، وقال له الأخير: «زوجتك أنجبت ولداً» وتسارعت خطواته في طريق العودة إلى منزله، وهناك حمل مولوده الأول، واطمأن على زوجته، وتوافد الجيران لتهنئته، وسأله أحدهم عن اسم المولود، فقال: «سأسميه رضا».

واعتاد أهالي القرية أن ينادوه «أبو رضا» وانقطع عن السهر خارج المنزل، ليقضي أطول وقت مع طفله الوحيد، ولكن سعادته تلاشت، حين أخبره الطبيب أن زوجته لن تستطيع الإنجاب مرة أخرى، لأن ذلك يُشكِّل خطورة كبيرة على حياتها، لا سيما أن ولادتها جاءت متعسرة، وعليهما تقبُّل هذا الأمر، وألا يستسلما للحزن، لينعما مع طفلهما بحياة سعيدة.

كان سليم يعمل مزارعاً، ويمتلك قطعة أرض ومنزلاً صغيراً، ويعيش من عائد المحصول، ووقتها كان شاباً في الثلاثينيات من عمره، وحاصلاً على مؤهل متوسط، لكنه فضّل العمل في مهنة أبيه، ورفض الالتحاق بوظيفة حكومية، وبعد وفاة والده تحمل مسؤولية والدته وشقيقه الأصغر، وتزوّج من ابنة عمه، وتضاعفت أعباؤه، لكنه استطاع أن يوّفر لأسرته حياة مستقرة، ودفعه طموحه إلى العمل في مجال تربية الماشية، وخلال سنوات قليلة صار من أثرياء القرية.

اقرأ أيضا

وأدرك «أبو رضا» أنه سيدخل في مواجهة مع العادات والتقاليد، وسينصحه البعض بالزواج مجدداً لإنجاب مزيد من الأطفال، حتى أن زوجته قالت له: «تزوج يا سليم هذا حقك»، فقال لها: «أنت ابنة عمي وزوجتي ولن أقبل أن يكون لك ضرة وسنعيش معاً حتى آخر العمر، ونحمد الله على ابننا رضا، وسيكبر أمامنا، وسيصبح رجلاً ذا شأن كبير، ونسعد به، فلا تقولي ذلك مرة أخرى». وحينها بكت الزوجة، وشعرت بمدى ضعفها وعدم قدرتها على الإنجاب مرة ثانية، ووعدته أنها ستظل متفانية في خدمته وتربية ابنهما الوحيد.

الجدة واليتيم

ظلت حياة سليم تسير في إيقاع منتظم، يبدأ يومه بالخروج من منزله إلى عمله، ويعود في وقت الغروب، ويتناول العشاء مع أسرته، وحين اشتد المرض على زوجته، ذهب بها إلى أشهر الأطباء، لكنهم أخبروه أن حالتها متأخرة، ولن يفيد معها العلاج، وحاصرته دائرة من الحزن والألم، وأخذ يقضي ساعات طويلة بجانبها، بينما تحتضن طفلهما، وتسيل دموعها في صمت، ولا تستطيع أن تفعل شيئاً سوى انتظار لحظة الوداع الأخيرة.

وبعد أيام قليلة توافد الأهل والجيران لمواساة سليم، وحين انتهت مراسم العزاء، طلب من أمه أن تأخذ رضا معها، وتتولى تربيته حتى يشتد عوده، ويذهب إلى المدرسة، وفي تلك الليلة قالت له: «إذا أردت أن تتزوج فسيبقى حفيدي معي، ولن أقبل أن تربيه زوجة أبيه طالما كنتُ على قيد الحياة»، فأومأ سليم برأسه، وقال لأمه: «هذا الكلام سابق لأوانه».

كانت أم سليم سيدة ريفية تعيش على ذكرى زوجها الراحل، ورفضت مغادرة منزلها لتقيم مع ابنها سليم وزوجته، وكرّست حياتها لرعاية ابنها الأصغر «مصطفى» والأخير كان متفوقاً في دراسته، وأراد أن يسلك طريقاً مغايراً لشقيقه، والتحق بكلية الهندسة في جامعة القاهرة، وكان يعود في أيام الإجازات، ورغم هذا أصرت الأم على البقاء وحيدة، رغم إلحاح سليم عليها أن تقيم معه، وحينها قالت له: «لا تقلق عليّ يا بُني، فأنا أستطيع خدمة نفسي، ولا أريد أن أكون عبئاً عليك».

الطريق المسدود

وتشابكت مصائر تلك الأسرة الريفية بين زوج أرمل، وجدة ترعى حفيدها، وشقيق قاده الطموح إلى التخرج بتفوق في كليته، والبحث عن عمل في القاهرة، بينما الطفل «اليتيم» يتأمل ما يدور حوله في صمت، وبات يميل إلى الانطواء والعزلة، ورغم حبه الشديد لجدته، ظل يشعر بالألم بعد فقده أمه، وانشغال أبيه بعمله، وأقبل على الدراسة بغير اهتمام، وكان ينجح بصعوبة، حتى اجتاز المرحلة الثانوية بمجموع صغير، وحينها أبدى لأبيه رغبته في مساعدته في عمله، وحاول الأب أن يثنيه عن هذا القرار، وأن يتقدم بأوراقه إلى إحدى الجامعات الخاصة، لكنه رفض الفكرة، واضطر سليم للموافقة على طلب ابنه الوحيد.

ووجد رضا ضالته في العمل مع أبيه، وأظهر نشاطاً وهمة غير معهودة عليه، وكان سليم يراقب ابنه في سعادة، ويقول له: «الآن صرت ذراعي اليمنى، ويمكنني الاعتماد عليك في العمل»، وحينها كان في أواخر الأربعينيات من عمره، بينما ابنه على مشارف العشرين، ووقتها اطمأن أن رضا صار رجلاً وليس طفلاً صغيراً، وعليه أن يفاتحه بقراره المؤجل بعد وفاة زوجته بسنوات طويلة.

هوت كلمات الأب كالصاعقة على ابنه، ولم يعلق الأخير بشيء، وحاول أن يخفي اضطرابه الشديد، فما زالت أوجاع فقده لأمه تطارده، بينما يقول له والده إنه ينوي الزواج مرة أخرى، وربما أنجب أولاداً ينازعونه في ميراثه بعد عمر طويل، فتنقلب حياته رأساً على عقب، ومثلما أخفق في دراسته، سيضيع جهده في العمل هباءً، وحينها سيكون قد خسر كل شيء، ويتحوّل إلى حطام إنسان بائس، ذاق مرارة اليتم، وانتهى به المطاف إلى طريق مسدود ومحفوف بمخاطر الشقاق مع أخوته، ولا سبيل للنجاة من هذا المصير المظلم.

طاردت تلك الهواجس عقل الشاب، بينما والده يراقب ملامحه باهتمام، ويدرك مدى تعلق وحيده بأمه الراحلة، فقال له: «أعرف أنك لا ترحب بالفكرة، لكنها لن تغيّر من الأمر شيئاً، فأنت تعيش حتى الآن مع جدتك، وذراعي اليمنى الذي ائتمنه على أسرار عملي، وفي الأول والآخر أنت ابني الذي أحبه، وأتمنى له السعادة، وفي الوقت ذاته أنت لن ترضى أن يعيش أبوك أرمل طيلة حياته، وإذا أردت أن تتزوج، فسأزوجك غداً وأتحمل كل تكاليف زواجك، فالحياة تستمر يا بُني رغم أي شيء، وأعلم أن المرحومة لا ترضى أن يعيش من أحبتهم تعساء، بل تطلب أن تظل ذكراها حاضرة في قلوبهم، ويدعوا لها بالرحمة والمغفرة».

أنصت رضا باهتمام بالغ لكلمات أبيه، وقال له: «أنت محق في كلامك يا أبي»، واستأذن من والده ليستأنف عمله، لكنه ظل شارد الذهن بقية اليوم، وحين عاد إلى منزل جدته، ألقى عليها التحية، وأغلق عليه غرقته، وانهار باكياً، ولا يدري هل كان يبكي أمه الراحله أم نفسه التائهة بين جرح غائر في أعماقه، ومستقبل غامض لا ينبئ عن الاستقرار والسعادة، لكنه انتفض فجأة، وخرج إلى جدته الجالسة في الصالة، وسألها: «هل تعرفين أن أبي ينوي الزواج؟» فنظرت إليه بحنانها المعهود، وقالت: «يا بُني أنت لم تعد طفلاً صغيراً، وأنا اشترطت على أبيك أن تعيش معي إذا أراد الزواج، ولم أقبل أن تربيك ضرة لأمك طالما كنت على قيد الحياة، والآن أنت رجل يمكنك الاعتماد على نفسك، وأنت قريب من أبيك، ومنحك فرصة لإدارة أعماله، وانظر لعمك مصطفى، تركنا من أجل مستقبله، ولا يزورنا إلا في المناسبات، وأنا راضية بذلك، وأمك رحمها الله عندما مرضَت طلبت منه أن يتزوج، لكنه رفض فهي ليست زوجته فقط بل ابنة عمه التي ستظل ذكراها في قلبه، ولكنك لا ترضى أن تحرمه من الاستقرار، وتبيحه لنفسك، فآجلاً أو عاجلاً ستتزوج وستكون لك أسرة ترعاها وتضحي من أجل سعادتها».

أدرك رضا أنه يسبح ضد تيار عارم، ولن يستطيع مقاومته، واستسلم للأمر الواقع، لكنه قال لوالده إنه لن يحضر يوم الزفاف، وعليه أن يتفهم ذلك، وابتسم سليم قائلاً: «افعل ما تشاء يا بُني المهم أن تتقبل الأمر، فهذه سُنة الحياة»، فأومأ رضا برأسه، وعاد إلى المنزل ليحضر حقيبته، وأخبر جدته أنه سيسافر لعدة أيام، فقالت له: «لا تتأخر مع السلامة»، وقبّل يدها وانصرف، وانسالت دموعها في صمت.

غواية الشيطان

مضت أيام الإجازة ببطء، وعاد رضا مرة أخرى، وعلم أن أباه سافر مع عروسه لقضاء شهر العسل، وترك له قيادة العمل، وزادت أعباء الابن بعد رجوع والده، وصدقت توقعاته حين علم بقدوم المولود المنتظر لأبيه، وحاول من جديد السيطرة على اضطرابه، لكنه فوجئ بولادة زوجة أبيه توأمين، وبات له شقيقان سيتقاسمان معه الثروة، وسيكون بالنسبة إليهما الشقيق الأكبر، ويتولى مسؤوليتهما، ويضيع عمره هباءً من أجلهما.

حاول رضا أن يبدي مشاعر الإخوة للتوأمين، لكن الشيطان أغواه بالتخلص منهما، وبعد أن نفّذ جريمته، تكثفت التحريات للقبض على الجاني، وبات في مرمى الاتهام، حتى سقط في قبضة الشرطة، وجرى حبسه على ذمة القضية، تمهيداً لمحاكمته، وتهاوت أحلامه بين القضبان، وسيطرت عليه مشاعر الندم، ولم تفلح محاولات أهل القرية في تضميد جراح الأب الذي فقد أبناءه الثلاثة، وأصيب بصدمة عصبية، أفقدته النطق، وبات عاجزاً عن مواصلة حياته بشكل طبيعي، بينما زوجته لا تكف عن الهذيان، وتنادي على طفليها الغائبين.

بدأت تفاصيل تلك المأساة، حين اختفى التوأمان في ظروف غامضة، وانتفضت القرية بأكملها للبحث عنهما، وبعد يومين من اختفائهما، ورود بلاغٌ من أحد المزارعين بالعثور على جثتي الطفلين في مجرى مائي بجوار أرضه الزراعية، وجرى إخطار النيابة العامة ونقل جثتي الطفلين للمستشفى، وتوقيع الكشف الطبي عليهما لبيان سبب الوفاة، وتعذر تحديد سبب الوفاة، وقررت النيابة تشريح الجثتين، وفور انتهاء التشريح جرى التصريح بالدفن وتشييع الجنازة وطلبت تحريات المباحث حول الواقعة.

وأسفرت التحريات عن قيام رضا شقيق الطفلين من الأب بارتكاب الواقعة بدافع الانتقام منهما لحب أبيه لهما، وكشفت التحريات أن المتهم الابن الأكبر للأب من زوجته الأولى، وتبين من خلال الشهود أن آخر مشاهدة للطفلين كانت في يوم الحادث بمنزل جدتهما، وخروج المتهم ومعه الطفلان، ثم اختفوا عن الأنظار.

واعترف المتهم أنه بيّت النية لقتلهما، واصطحبهما معه إلى المجرى المائي، وركلهما في الماء، وبعد غرقهما، توجه إلى منزل جدته مرة أخرى، ووجد هناك والده، وسأله الأخير عن الطفلين، فقال إنه تركهما أمام البيت، وخرج مع والده للبحث عنهما، وفي اليوم التالي تم العثور على جثتيهما، وجرى ضبطه فأنكر في البداية وعند مواجهته بالشهود انهار واعترف بالواقعة بدافع الانتقام والحقد عليهما من حب أبيه لهما، وخوفه من مشاركتهما له في الميراث.

وقال الشاهد الرئيس في القضية، إنه اكتشف الجثتين بالمصادفة في وقت الضحى، واستنجد بالأهالي لانتشالهما، وتبيّن أنهما التوأمان أبناء سليم المزارع وتاجر الماشية، وجاء الأب مهرولاً، وانهار مغشياً عليه حين تعرَّف عليهما، وجرى إبلاغ الشرطة بالواقعة، وأثبتت التحريات أن والد المجني عليهما ليس له أي خلافات أو خصومة مع أحد، وأن القرية لم تشهد حادثاً كتلك الجريمة البشعة، ولم يتهم أحداً بالتسبب في قتلهما، بينما كانت المباحث منتشرة في محيط مسرح الجريمة، للكشف عن غموض تلك الجريمة البشعة. وبعد مرور 48 ساعة على الجريمة، توصل رجال المباحث إلى تحديد المشتبه وهو شاب في العقد الثاني من عمره يُدعى رضا وشقيق الطفلين من الأب، بعدما رصدت القوات مشاهدات له بصحبة الطفلين، قبل عثور أهالي القرية على جثتيهما بيوم واحد وجرى استئذان النيابة العامة، لضبط المشتبه به ومناقشته حول ملابسات الواقعة.

وجاء في محضر الشرطة أن الشاب اعترف بتفاصيل جريمة قتل الطفلين بسبب الغيرة منهما وأن والده كان يميزهما في المعاملة، ما دفعه لارتكاب جريمته قائلاً: «والدي تزوج بعد وفاة أمي، وزوجته الثانية أنجبت التوأمين عادل وفهمي، وبدأ يهتم بهما، وترك أعباء العمل على كاهلي، وكنتُ أشعر أن اهتمامه بهما يزيد يوماً بعد آخر، وكان يدللهما بينما أنا غارق في العمل، فقررت التخلص منهما».

وبعد انتهاء اعترافاته، اقتيد المتهم بصحبة حراسة مشددة لتمثيل الجريمة كما ارتكبها، وتجمع عددٌ كبير من أهالي القرية على بعد أمتار من مسرح الجريمة، لمشاهدة المتهم للمرة الأخيرة. وأُحيل إلى محكمة الجنايات التي أصدرت قرارها بتحويل أوراقه إلى مفتي الديار المصرية.

هشام محمد

الأب المصدوم يفقد أبناءه الثلاثة بعد زواجه للمرة الثانية

أقوال الشهود تشير بأصابع الاتهام إلى الأخ الأكبر

المتهم يعيد تمثيل جريمته في مكان العثور على الجثتين
back to top