شاعر التمرد والحزن الذي سكن الإنسان العربي (9-16)

الماغوط يهاجم «الحدود» ويكتب تقريره عن الحنفية!

نشر في 22-04-2021
آخر تحديث 22-04-2021 | 00:00
انتقل الماغوط في الثمانينيات للعمل بمجلة «الخليج» في ملحقها الثقافي، وكانت له في الإمارات كما في بيروت ودمشق من الألفة والمحبة والصداقة الكثير، وما قاله عن تلك الإمارات نُقل في حديث مطول أشبه بالفيلم الوثائقي تحدث عنه الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني، وكتبه الكاتب والصحافي أحمد فرحات متضمنا الحديث عن الحالة الأدبية التي شكلها الماغوط في دولة الإمارات. كما استمر شاعرنا ككاتب كبير، لكن هذه المرة سينمائياً في فيلمي الحدود والتقرير، اللذين تعاون فيهما تعاونا مطلقا مع الفنان السوري دريد لحام، إلى جانب مشاركة الفنانة النجمة رغدة فيهما، لتأتي لاحقا مسرحية شقائق النعمان كختام لتلك الأعمال.
قبل الغوص في فترة الثمانينيات من حياة الشاعر الكبير الراحل محمد الماغوط، وهي فترة مهمة جدا على المنحيين الشخصي والأدبي، لابد أن نتحدث عن آخر فترة السبعينيات من حيث الأعمال الدرامية، وكنا تحدثنا في حلقات سابقة عن أولى تجارب الماغوط في الدراما، وبإمكان الباحث في أعمال الماغوط التلفزيونية أن يجد تشابهاً كبيراً في معظمها، على اختلاف الأسلوب الذي تُقدم به، والتشابه يأتي من ناحية النقد الساخر عموما، عبر استخدام شخصيات كأبو عنتر وغوار الطوشي، كما في مسلسل «وين الغلط» بأواخر السبعينيات. وهو المسلسل السوري الكوميدي الذي اعتمد اعتمادا مطلقا على النقد والفكاهة، ويتحدث عن مجموعة من القصص بطلاها غوار وأبوعنتر يقومون بالنصب والاحتيال على الناس كي يعيشوا باستقرار. تم إنتاجُه سنة 1979، من تأليف دريد لحام ومحمد الماغوط، وإخراج خلدون المالح ودريد لحام، وساعد في الإخراج انيتا دوردي وسمير غريبة.

وأما طاقم العمل من الممثلين فهم: دريد لحام (غوار الطوشة)، وناجي جبر (أبوعنتر)، وياسين بقوش (ياسينو)، وسامية الجزائري (أم ياسين)، إضافة إلى عمر حجو وصباح الجزائري وشاكر بريخان وإيمان كامل ونبيل خزام وغادة الشمعة ومحمد طرقجي وأحمد مساخي وكلهم مثل أدواراً مختلفة.

اقرأ أيضا

العمل في الإمارات

سافر الماغوط خلال الثمانينيات إلى دولة الإمارات وإلى إمارة الشارقة بالتحديد، وعمل في جريدة الخليج وأسس مع يوسف عايدابي القسم الثقافي في الجريدة، وعمل معه في القسم لاحقا الكاتب السوري نواف يونس.

عن تلك المرحلة المهمة في حياة الماغوط الأدبية يتحدث الكاتب الصحافي أحمد فرحات، في مادة أشبه بالوثائقية عن فترة تواجد شاعرنا في الإمارات والعلاقة التي ربطته بها، مذكرا القراء بأنه عاش سنوات بحالها في الإمارات، بدءاً من مطالع الثمانينيات من القرن الفائت، عمل خلالها مسؤولاً للقسم الثقافي في «الخليج» بالشارقة، ومؤسساً لـ»الملحق الثقافي» فيها، بالتعاون مع الإعلامي د. يوسف عايدابي. وقد ترك هذا الملحق بصمات رياديّة في المشهد الإبداعي الإماراتي الحديث، خصوصاً لجهة تدعيمه ولادة جيل شعري وقصصي جديد ومستأنف، جسّدته أسماء إماراتية برزت بقوة فيما بعد في المشهد الأدبي، محلّياً وعربياً. وعلى المستوى الشخصي، احتفظ الماغوط بذاكرة طيّبة، غنية، ملؤها المحبة والشغف بالإمارات، إنساناً ومجتمعا وأرضا وجماليات لا تحصى، عكستها تجلّيات التقاء الصحراء بالبحر، أو التقاء الأصفر بالأزرق، كما يصف. يقول: «هناك فقط كنت أنتصر على طيور الهمّ في رأسي، وأرغمها على التحليق منه فوراً... وهناك فقط كنت أجد أعماق قلبي أبعد من أطراف العالم كله».

كان قرار الماغوط السفر إلى الإمارات متخذا في عام 1979 للعمل في صحافتها، وفعليا عمل فيها وترك تأثيرا في المحيط الثقافي الإماراتي. ويتابع الكاتب فرحات إخبارنا بما قيل له مطولاً من قبل الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني عن الماغوط وعن أهميته وتأثيره في الشعر الخليجي. وراشد كان يعتبر نفسه «تلميذاً حرّاً» للماغوط، وأنه تعلّم منه الكثير، كما تعلّم غيره من شعراء الإمارات، وكذلك الشعراء والأدباء العرب ممن أقاموا فيها، ولا يزال البعض منهم يقيم في البلد، وخصوصاً على مستوى مواكبة مسار الحداثة الشعرية العربية، عبر روّادها الكبار المعروفين، ولاسيما من كان منهم منخرطاً في مجلة «شعر»، كالشاعر الكبير أنسي الحاج، شريكه في ريادة قصيدة النثر وترسيخها عربياً. ومما قاله أحمد راشد بحسب فرحات: «علّمني الماغوط كيفية ضبط كتابة القصيدة النثرية، والألفاظ التي ينبغي استخدامها، وتلك التي يُستحسن تجنّبها في مندرجها. كان أستاذي في كل شأن أدبي آخر أكتبه أو أتولاّه، من دون أن يجعلني أحسّ يوماً بشعور التلمذة أمامه... على العكس، كان يكره ويتحاشى دوماً، وعن قصد، أن يقوم بدور المُعلّم الشعري أو الأدبي لأحد، لكنه، من جهة أخرى، كان متعاونا للغاية مع الجميع، من شعراء وكتّاب إماراتيين وعرب، ممن كانوا يدفعون إليه بنصوصهم لنشرها في «الملحق الثقافي»، ومنهم القاصة الإماراتية سلمى مطر سيف، حيث نوّه الماغوط بتجربتها أكثر من مرة، ودفع بها إلى الأقصى، وكذلك كان شأنه مع الشاعرة الإماراتية ظبية خميس، وبالنسبة إليّ، على الأقل، (والكلام لأحمد راشد) كان يعرف كيف يمرّر ملاحظاته على أي نصّ لي كنت أعرضه عليه، وبذكاء عجيب، وبعيداً عن أي خلفية نقدية ادّعائية متغطرسة، فأقبل الملاحظة منه وكأنها ليست ملاحظة».

وكان الماغوط يساوي إبداعياً بين الشعر بالعامية والشعر بالفصحى، مع ميل أحيانا إلى القصيدة العامية (النبطية)، التي كان يستوعبها بتحبّب ظاهر وعميق جداً أيضاً، كيف لا وهو يفتخر بأنه ابن بيئة ريفية بدوية قح، وقد اعترف أكثر من مرة، بأن القصيدة باللهجة العامية هي أقوى وأبدع من مثيلتها بالفصحى، لأن الصور والمعاني فيها أكثر سخونة وصدقاً انسيابياً، فضلاً عن «عجائبية» التركيب الطبْعي لبنية عمارتها النفسية واللغوية.

ويوضح أحمد راشد أن الماغوط دفعه إلى الانخراط في الكتابة المسرحية، من دون أن يدري هو، كونه زاول الكتابة المسرحية الشعبية الساخرة أيضاً، إلى جانب تآليفه الشعرية والأدبية الأخرى المعروفة. ويضيف أنه سأل الماغوط نفسه، خصوصا أنه كان مراسلاً لملحقه الثقافي، يومها من بيروت، «فأفادني بأنه أحبّ الإمارات بإخلاص، وشغف بالإقامة فيها حتى الثمالة»، ورأى فيها «بلداً عربياً جديداً وحيوياً بنهضته، ورمزية هذه النهضة، التي هي مفخرة لكل عربي يريد أن يرى أمامه ترجمة عملية للتنمية البشرية والمدينية الحقيقية»، وقد أسرّ لي في ذلك الزمن: «تقتضيني أمانة الشجاعة، أو شجاعة الأمانة، أخي أحمد، أنأ قول لك إنه لا يوجد بلد نفطي، عربي أو أجنبي، في العالم كله، يُنفق مال النفط بسخاء على الإنسان وتنميته وتطوير بلده وتعزيز رفاهه، كما يحصل في الإمارات، وعن سابق خطط وسياسات وقرارات رسمية عليا. تعرفني كم أنا صعب الاقتناع بشيء، ولكن كلمة الحق هنا يجب أن تقال يا صديقي، وقولها أحياناً، يكاد يكون معادلا للشعور بالحرية والامتلاء بها... وربما أكثر». كما أشاد الماغوط بأهل الإمارات وكرمهم وطيبتهم وحسن معشرهم، ولذلك «لم أشعر يوماً بغربة في وسطهم، بل كنت، وعلى الدوام، موضع حفاوة وترحيب لا أستحقهما، ولولا ظروف مرض زوجتي لما اضطررت إلى ترك البلد».

ويضيف الكاتب أنه عندما زار الماغوط في منزله في شارع أسامة بن زيد في حي المزرعة بدمشق، ربيع عام 2003، قال له الماغوط كلاما جميلا جديا عن الإمارات عموما، وعن أبو ظبي خصوصا: «في الصحراء فقط، يا صديقي، تنفصل المعرفة عن جهامتها، وتتحوّل إلى ينبوع من اللطف واللين والرقة والدعة، فتقرأ بفرح، وتستوعب بفرح، وتأكل بفرح، وتشرب بفرح، وتتجوّل فيك كائناتها (أي المعرفة) أيضاً بفرح، فتنفض عنك كل الكهنوتيات اليابسة المغلقة، وكل أسباب الحزن الجامد والمتحرّك، ويتساوى فيك المدى الأدنى بالمدى الأعلى، على قاعدة من السمو غير المجرّد هذه المرة، يزهر فيك حبّاً وورداً ميزته الأولى والأخيرة أنه لا يذبل، بل يظل نضراً، جلياً، ساطعاً في مهمته المتجسّدة، وعلى مهل، بإسقاط كل الأقنعة فيك... قناعا وراء قناع وراء قناع».

كان يزور أبوظبي بين الفينة والأخرى، يتمشى على كورنيشها المعبّأ بخضرة الأشجار الداكنة ومدى البحر العظيم، «هناك، حيث تنشقّ الجاذبية عن جاذبيات أكثر أناقةً وجمالاً، وتكون واحدة من مهماتها، تحويلك إلى مجرد حلم يمشي بوعي منه أنه حلم استثنائي يقظ ومستمر، والذي يتعيّن عليك وحدك فيما بعد أن تترجمه لنفسك قبل أن يترجمه الآخرون لك، لا لشيء إلاّ لأنهم يرونه متجلياً عليك فور التقائك بهم. إنه فعلاً الحلم الاستثنائي الأجمل، وبأضعاف، مذاك الحلم الاعتيادي الذي يُدرك كليلاً من حيث لا تحتسب».

ويتابع الكاتب: «وأخبرني الماغوط عن شعوره الخاص المباشر، لدى التقائه الأوليّ بمدينة أبوظبي، فقد قال موجّها الكلام إليَّ ذات جلسة ندمائية في منزله بدمشق، كان فيها فاتح المدرس ومصطفى الحلاج وجوزيف حرب: «خسرنا أندلساً لنا في أوروبا من زمان، وها نحن نعوّض عنها بأندلس جديدة وأبدية في الخليج اسمها أبوظبي».

وأخفق الماغوط ككاتب في مسرحية جهاد سعد «خارج السرب» ومسرحيته الأخرى «قيام جلوس سكوت»، التي قدمها زهير عبدالكريم، بينما لم يبرز اسم دريد لحام في كل المسلسلات والبرامج التي قدمها تباعا.

الحدود

نبقى في ثمانينيات القرن الماضي، ولكن هذه المرة سنتوجه إلى مشاركة الماغوط في الأفلام السينمائية، حيث أنجز مع دريد لحام فيلمين هما «الحدود» و«التقرير» وكان لكل منهما وضعه الخاص من حيث السيناريو والإنتاج، وأيضا مشاركة النجمة السورية الجميلة رغدة. ونبدأ مع فيلم «الحدود» الفيلم السوري الكوميدي الساخر، والذي أنتج عام 1984، كتب نصه السينمائي والسيناريو والحوار الكاتب السوري محمد الماغوط، وهو من بطولة الفنان دريد لحام كما قام بإخراجه، وشاركه في التمثيل كل من الممثلة رغدة، وهاني الروماني، وهاني السعدي، ورشيد عساف، وعمر حجو، وأحمد حداد، وأحمد مللي.

الوحدة العربية

تدور الأحداث الكوميدية المتعلقة بفيلم الحدود حول سائق سيارة، حيث تم توظيف هذه الشخصية من قبل الماغوط ليسخر من الادعاءات المتعلقة بالوحدة العربية والتعاون العربي (كما ورد في عدة مقالات نقدية تحدثت عن الفيلم)، إذ كان هذا السائق في رحلة بين بلدين، أحدهما يقع إلى الغرب ويسمى غربستان، والآخر إلى الشرق واسمه شرقستان، ويحصل أن تضيع كل الأوراق الثبوتية لهذا السائق بما فيها جواز السفر في المنطقة الحدودية الفاصلة بين غربستان وشرقستان، إلا أن هذا الضياع لم يشمل الاوراق فقط، بل شمل السائق نفسه الذي ضاع وتاه هو الآخر، ووجد نفسه في منزلة بين منزلتين، لا يستطيع دخول البلد الذي أتى منه بسبب ضياع أوراقه الثبوتية من جهة، ولا يستطيع العودة إلى داخل البلد الذي غادره، للسبب نفسه، ويأتي ضياعه من عدم امتلاكه هوية ولا أهلا ولا بلدا، فقط هو والسيارة والليل والنجم والمساء، مما اضطره إلى نصب خيمة يبيت فيها في المنطقة الحدودية التي تتوسط المسافة بين البلدين، حيث أقام فيها وبدأ في تكييف حياته على هذا الوضع الغريب والشاذ. وبالتالي امتلأت حياته بمفارقات ومعاكسات عديدة استفاض الفيلم في شرحها من خلال الأنماط المختلفة من الناس الذين كان يلتقي بهم هذا السائق المنكوب. يذكر أن الفيلم من إنتاج نادر الأتاسي وسيريا فيلم، ومن توزيع المتحدة للتجارة والسينما.

شادي عباس

مسلسل «وين الغلط» أنتج 1979 وهو مجموعة من القصص الكوميدية بطلاها غوار وأبوعنتر المحتالان وأنتج سنة 1979

الماغوط سافر في الثمانينيات إلى إمارة «الشارقة» وأسس مع يوسف عايدابي القسم الثقافي في جريدة «الخليج»

الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني تعلم من الماغوط ضبط القصيدة النثرية

الماغوط نشر أعمال الأديبتين ظبية خميس وسلمى مطر سيف في الملحق الثقافي لـ «الخليج»

عشق الإمارات وأهلها ولم يغادرها عائداً إلى دمشق إلا بسبب مرض زوجته سنية

من أقواله: خسرنا أندلساً لنا في أوروبا وها نحن نعوّض عنها بأندلس جديدة وأبدية في الخليج اسمها أبوظبي
back to top