صراع التوأمين ينتهي بمأساة أغرب من الخيال

جريمة قتل على طريقة «قابيل وهابيل» بسبب الميراث

نشر في 20-04-2021
آخر تحديث 20-04-2021 | 00:01
No Image Caption
تحوَّلت حياة الأم إلى مأساة، بعد أن فقدت زوجها، وتتابعت عليها صدمات موجعة، واعتادت الخروج من منزلها في الصباح إلى المقابر، لتبقى هناك
إلى أن يحل الغروب، وتعود إلى عزلتها القاسية، وتغلق الباب عليها،
ولا تستجيب لطرق جيرانها على بابها، وتلوذ بذكرياتها عن الغائبين، وتتأمل الإطارات المعلقة على الجدران، وتختلط في عينيها صور ولديها التوأمين، ولا تدري أيهما القاتل وأيهما القتيل!
اشتبكت خيوط تلك المأساة، وتكرّرت حكاية قابيل وهابيل، بتفاصيل من الصعب أن يصدقها عقل، ودارت أحداثها في إحدى المدن المصرية، لتتبدل بين يوم وليلة أحوال الأسرة السعيدة، ويتهاوى استقرارها بعد وفاة عائلها، وكان على الأم أن تتحمل مسؤولية ولديها التوأمين صالح وصلاح، وحينها كانا في المرحلة الثانوية، وعلى أعتاب دخول الجامعة، ورغم أنهما متطابقان في الملامح، فإن أمهما كانت تميز بينهما بشامة صغيرة أسفل كتف صالح، وبمرور الوقت أدركت الاختلاف بينهما من خلال تباين سلوكهما، وكأنهما ليس بشقيقين أحدهما يكبر الآخر بدقائق معدودة.

ظلت «أم صالح» تعيش على ذكرى زوجها الغائب، وتطاردها في أحلامها حياتُها الماضية، وترى نفسها فتاة في مقتبل العمر، منعها أهلها من إكمال دراستها بعد المرحلة الثانوية، وانتظرت قدوم العريس المنتظر، ولكنها رفضت الكثيرين ممن تقدموا لخطبتها، حتى طرق بابها هذا الشاب، ولا تدري كيف خفق قلبها عندما رأته، وكأنها تعرفه منذ سنوات، وحين سئلت عن رأيها، أطرقت رأسها في خجل، وتمتمت بكلمات خافتة، وسرت في داخلها مشاعر الفرح، ورسمت في خيالها صورة حالمة لحياتها الجديدة مع فارس أحلامها.

كان سعيد نموذجاً للشاب المكافح، فقد ذاق مرارة اليتم منذ طفولته، عندما رحل والده بعد صراع مع المرض، وترك له قطعة أرض على أطراف المدينة، ولكن أمه رفضت بيعها، وقالت لابنها: لا تفرط في الأرض، وسأبذل قصارى جهدي لتكمل تعليمك، وأوفت الأم بعهدها، حتى تخرج ابنها الوحيد في الجامعة، والتحق بالعمل في إحدى المؤسسات الحكومية.

اقرأ أيضا

مواصفات شريكة العمر

وبدأ سعيد يفكر في الزواج، وذات يوم زارهما خاله، وطلبت منه شقيقته أن يبحث عن عروس لابنها، فسأله الخال عن مواصفات شريكة العمر التي يريدها، فقال إنها يجب أن تكون من بيت طيب، وتتفرغ تماماً لبيتها وزوجها وأولادها، وبعد أيام أخبره خاله بعثوره على العروس المنشودة، وضرب موعدا للذهاب إلى أهلها، وهناك رحبت أسرة هيام بالعريس المرتقب، وخالجهم القلق أن ترفضه ابنتهم، مثلما أوصدت الباب في وجه من تقدموا لخطبتها، لكنها خالفت ظنهم، ووافقت على الشاب الذي طرق بابها بالصدفة، ومن دون أن يمت لها بصلة قرابة أو جيرة، سوى أن خاله زميل لوالدها في العمل.

أشياء من هذا القبيل، يمكن أن تحدث كل يوم، لكن قصة هيام وسعيد اتخذت مساراً آخر، ولا يمكن توقع أن تنتهي على هذا النحو المأساوي، وتدريجياً تلاشت أيام السعادة التي عاشها الزوجان المتحابان، وصارت ذكرى لقصة رومانسية تزاحم تلك الروايات التي يبالغ مؤلفوها في التحليق بعيداً عن الواقع، ويمعنون في الخيال، وكأن أبطالها لا يمتون لعالمنا بصلة، لكن الحقيقة أن منزل هذين الزوجين كان مثل المدينة الفاضلة، وتوفرت في داخله كل أسباب الاستقرار والدفء الأسري.

توأمان متطابقان

وصار سعيد وهيام نموذجاً للزوجين المثاليين، وبعد شهور من زواجهما، تأهبا لاستقبال مولودهما المنتظر، وتضاعفت سعادتهما بإنجاب التوأمين صالح وصلاح، وكانت ملامحهما متطابقة إلى حد بعيد، ولا يمكن التمييز بينهما بسهولة، حتى إنهما كانا يحاولان خداع أمهما، ويخلطان اسميهما، فتسارع بتجريدهما من ملابسهما، لتعرف من هو صالح وصلاح فيضحك الطفلان، ويجريان من أمامها، بينما الابتسامة ترتسم على وجهها، وتعود إلى أعمالها المنزلية، وتنتظر عودة زوجها، ليكتمل شمل الأسرة السعيدة.

والتحق الشقيقان بالمدرسة، وكان من الصعب التمييز بينهما، وحدثت الكثير من المفارقات، وغالباً ما كان يخلط المعلمون بينهما، وبمرور الوقت ظهر الفارق جلياً، وبدا صالح أكثر تفوقاً في دراسته، بينما صلاح يميل إلى الاستهتار وعدم الرغبة في التعلم، وتملكته الغيرة من شقيقه، وافتعل المشاجرات معه، وأخفق والداه في تقويمه، وتكرر استئذان سعيد من عمله، والذهاب إلى المدرسة، لارتكاب ابنه الشقي مخالفة، ما دفعه للتفكير في عرضه على طبيب نفسي، لكن زوجته اعترضت على الفكرة، وقالت لزوجها: «هذه شقاوة أطفال، وستنتهي عندما يكبر صلاح، وعلينا أن نحفزه على التفوق مثل أخيه، بدلاً من أن نعامله كمريض، فيزيد عناده، ووقتها سيكره كل من حوله».

ميول عدوانية

كانت هيام مثل أي أم تحب أبناءها، وخشيت على ولدها من وصمِه بالجنون أو الاضطراب النفسي، لكنه حين بلغ سن المراهقة زادت شقاوته، وظهرت ميوله العدوانية، ما تسبب في طرده من المدرسة، وهوت الصدمة على الزوجين المتحابين، وحوّلت حياتهما إلى جحيم، وبدت مشاعرهما متضاربة بين الحزن على ابنهما العاق، والسخط عليه، وأصر سعيد على أن يكمل صلاح تعليمه، وألحقه بمدرسة خاصة، لكن الرسوب لاحقه مُجدداً، وحينها أصيب الأب بمرض مفاجئ، وبات طريح الفراش، وأدرك أنه في مرحلة الاحتضار، طلب محاميه، وكتب وصيته، واشترط عليه أن ينفذها بعد رحيله.

ومرت فترة الحداد، وجاء موعد إعلان الوصية، وفوجئ صلاح بأن والده أوصى بأن تؤول قطعة الأرض لشقيقه، ولا يفرط فيها حتى ينال شهادته الجامعية، وأن يمنح صلاح حصة ضئيلة من ثمنها، بينما تأخذ الأم والولدان المعاش المستحق، بمقتضي القانون، ولم يحتمل الابن العاق هول المفاجأة، واعترض على أن يكون نصيبه من الميراث أقل من صالح، وحاول الأخير تهدئته لكن من دون فائدة، بينما الدموع تنسال من عيني الأم، ولا تدري هل كان زوجها محقاً في معاقبة ابنه على هذا النحو أم أنه أراد قسمة العدل بين شقيقين أحدهما يتحلى بالاستقامة، والآخر أخفق في دراسته، وتسبب في مرض أبيه الذي أفضى إلى وفاته.

وكانت الوصية لطمة قاسية للابن العاق، فتمادى في افتعال الشجار مع شقيقه، وبات يغيب عن البيت لأسابيع طويلة، ثم يعود إلى تهديده بأنه سيأخذ حقه من ميراث أبيه، ولن يلتزم بوصية والده، حتى لو ارتكب جريمة، واستنجدت الأم بعائلتها، وطلبت منهم أن يجلسوا مع ولديها، حتى لا ينتهي الخلاف بينهما إلى كارثة، وكفاها أنها فقدت شريك حياتها بسبب هذا الولد الطائش، لكنه رفض الجلوس مع أحد، وقال إنه سيختفي من حياتهما، ولن يعود إلا في موعد تنفيذ الوصية.

حاول صالح تخفيف الحزن عن أمه، بينما صلاح لا يعود للمنزل سوى لطلب النقود، ثم يختفي مرة أخرى، ولا يعلم أحد أين يذهب، وطوت الأم آلامها، وتضاربت مشاعرها بين الفرح والخوف، حين أنهى صالح دراسته الجامعية بتفوق، وتطلع إلى حياته المقبلة بروح متفائلة، وبدأ يخطط لمستقبله، ورفض أن يلتحق بعمل حكومي، واتجه إلى العمل الخاص، وقام بتجهيز مكتب للأعمال المحاسبية، وظل صلاح يطالبه بتنفيذ الوصية، وحينها أصر صالح على أنه سيأخذ حقه كما أوصى والدهما المتوفى، لأن وصيته واجبة التنفيذ، وطالما لم تكن مخالفة لأحكام الشرع. وقال له إنه لن يتخلى عنه مهما كانت الظروف، وإذا أراد أن يؤسس مشروعه الخاص، فسيساعده لأنه شقيقه رغم أي شيء.

مرمى الخطر

في ذلك اليوم، سخر صلاح من شقيقه، وقال له: «أنت تريد أن تستحوذ على كل شيء، وتترك لي الفتات، ألا يكفيك أنك سبب تعاستي وغضب والدي مني، وأنا لم أكلفه شيئاً، بينما كان ينفق عليك أثناء الدراسة، وفي النهاية يوصي لي بربع الميراث، والمطلوب مني أن أقبل بهذا الظلم»، وللمرة الأولى يخرج صالح عن شعوره، ويصرخ فيه قائلاً إنه سيبلغ الشرطة حتى يتعهد بعدم التعرض له، ولن يحصل على شيء سوى حقه في الوصية، وأن يذهب بعدها إلى حال سبيله، فلا فائدة منه في شيء، ولا يريد أن يراه مرة أخرى.

خرج صلاح من مكتب شقيقه، وأدرك أنه في مرمى الخطر، إذا قام صالح بإبلاغ الشرطة، وحينها سينكشف أمره، وأنه مجرد شخص لا يعرف سوى رفقاء السوء، وأنه انساق معهم في تجارة المخدرات، وعليه أن يتحرك في أسرع وقت، ويجد خطة محكمة للاستيلاء على ميراث والده كاملا، وحينها لجأ إلى حيلة تنقذه من الهاوية، وذهب إلى أمه ليخبرها أنه سيقبل بتنفيذ الوصية، ولا يريد أن يخسر شقيقه الوحيد، ففرحت الأم بكلمات ابنها، وحين عاد صالح، أخبرته بما حدث، فقال لها إنه يتمنى كل الخير لأخيه.

انتحال الشخصية

وذات يوم زار صلاح شقيقه في مكتبه، وطلب منه أن يذهب معه لمعاينة قطعة الأرض، وأن يحدد له نصيبه المكتوب في الوصية، لأنه لا يفكر في بيع نصيبه، وهناك نزع قناع البراءة، وظهرت نواياه في التخلص من شقيقه، وانتحال شخصيته.

كان التشابه الذى يصل إلى حد التطابق بين الشقيقين كفيلاً بأن يظل القاتل حراً وبعيداً عن قبضة العدالة، وبعد أن نفذ جريمته البشعة، أخفى جثة صالح في الأرض المحاطة بالأسوار، وارتدى ملابسه، وعاد إلى أمه بهيئة شقيقه، لكنها لاحظت تغيراً في تعامله معها، فقد اعتاد أن يلقي عليها التحية، ثم يقبل يدها، لكنه حياها باقتضاب، وقال لها إنه سيخرج ثانية، فسألته: «هل قابلت أخاك؟» فأجابها بالنفي، وأغلق الباب دونه.

في صباح اليوم التالي، ذهب صالح إلى مكتب شقيقه، وانتحل شخصيته، لكنه عجز عن إدارة العمل، وكلما سأله أحد من الموظفين عن شيء، يقول كلمة واحدة: «اتصرف أنت»، واستشعر أن أمره سينكشف إذا قابل أحداً من العملاء، فقرر أن يغلق المكتب، بدعوى السفر خارج البلاد، وبات يغيب عن المنزل لأيام كثيرة، وتسرب الشك إلى قلب الأم، فسألته عن صلاح، فقال لها إننا اعتدنا غيابه، وربما يظهر في أي وقت.

صدمة الشامة

ومضت عدة أيام، حتى تبينت الأم أن طباع صالح باتت مثل شقيقه، وربما حدث مكروهٌ لأحدهما، وحاولت أن تطرد تلك الأفكار عن ذهنها، وتذكرت أنها كانت تفرق بينهما من خلال الشامة الموجودة على كتف صالح، لكن ذلك عندما كانا طفلين، ولعبت المصادفة دورها حين دخلت الغرفة، وكان صلاح واقفاً أمام المرآة قبل أن يرتدي قميصه، وحين اقتربت منه، أطلقت صرخة مدوية، وقالت: «أنت صلاح... فين صالح؟»، فما كان منه إلا أن دفعها بعيداً عنه، وفر هاربا من المنزل.

واستجمعت الأم قواها المحطمة، وذهبت إلى قسم الشرطة، لتبلغ عن اختفاء ابنها صالح، وانتحال شقيقه صلاح لشخصيته، وحاول الضابط أن يهدئ من روعها، وطلب منها أن تحكي له بالتفصيل ما حدث، وحين انتهت من أقوالها، بدأت التحريات للكشف عن لغز التوأمين، وتبين أن صلاح زار شقيقه في مكتبه قبل أيام، وعاد في اليوم التالي منتحلاً شخصيته، وقام بتصفية العمل، من دون سابق إنذار.

واتخذت إجراءات القبض على الجاني مسارها القانوني، ووزعت صور بأوصافه إلى جميع أقسام الشرطة والأكمنة بالمحافظات، وسقط القاتل في قبضة الشرطة، وتم استدعاء الأم للتعرف إلى شخصيته، فقالت والدموع تنسال من عينيها إن الواقف أمامها هو ابنها صلاح، لأن شقيقه صالح لديه شامة في كتفه، وأنها كانت تجردهما من ملابسهما في طفولتهما، لتعرف أيهما من الآخر.

اعترافات القاتل

بمواجهة المتهم بأقوال الشهود، أدلى باعترافات تفصيلية عن جريمته، وقال إنه استدرج شقيقه إلى قطعة الأرض، وهناك أشهر مسدسه في وجهه، وطلب منه التوقيع على أوراق التنازل عن حقه، وحين رفض الاستجابة تحت تهديد السلاح، احتدم النقاش بينهما، وخرجت طلقة من المسدس، استقرت في صدر المجني عليه، فحفر حفرة وألقاه بها ثم أهال عليه التراب، وفر من مسرح الجريمة.

وحين انتهت اعترافات المتهم، أمر بحبسه على ذمة القضية، لحين مثوله أمام القضاء، وفي ذلك اليوم اكتملت خيوط تلك المأساة، وتركت جرحاً لا يندمل في قلب الأم المحطمة، التي فقدت زوجها وابنيها، وصارت وحيدة بين جدران منزلها، تلاحقها خيالات من ماضٍ بعيد، وحين تتأمل صور ولديها لا تعرف أيهما القاتل وأيهما القتيل.

هشام محمد

back to top