الولايات المتحدة قادرة ومُلزَمة بتلقيح العالم!

نشر في 29-03-2021
آخر تحديث 29-03-2021 | 00:00
بعد عقد قمة افتراضية للتحالف الرباعي، أمس الأول، أعلن قادة الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا تعاونهم المرتقب، لتسليم مليار جرعة من اللقاحات في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، ما يعني التصدي مباشرةً للتفوق الصيني في مجال توزيع اللقاحات في المنطقة.
يجمع هذا الاتفاق بين قطاع الصناعة في الهند ومصادر التمويل والخدمات اللوجستية والمساعدات التقنية في الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، ويهدف إلى تسهيل تلقيح ملايين الناس بحلول نهاية 2022.

وذكرت عناوين الأخبار، في عطلة نهاية الأسبوع، أن إدارة الرئيس جو بايدن تستعد لمواكبة دبلوماسية اللقاحات العالمية. كذلك، اتخذت الإدارة الأميركية منذ أيام خطوة أخرى في هذا الاتجاه، فسرّبت إلى الصحافيين معلومات مفادها أنها تنوي إقراض 4 ملايين جرعة من لقاح "أسترازينيكا" إلى المكسيك وكندا.

أسوأ أزمة عالمية

هذه المبادرات ليست مبكرة بأي شكل. لاتزال الولايات المتحدة متأخرة في جهود استهداف أسوأ أزمة عالمية في هذا العصر. في المقابل، عمدت روسيا والصين إلى تسويق لقاحاتها وتوزيعها على الدول الخارجية، تمهيداً لتحقيق أهدافهما السياسية الخارجية. تستغل روسيا هذا الوضع لتحسين صورتها واستثماراتها المحتملة، ولإحداث شرخ بين دول الاتحاد الأوروبي. تتبرع الصين من جهتها بجرعات من اللقاحات لزيادة تأثيرها في النزاعات الإقليمية وتوسيع نفوذها بموجب "مبادرة الحزام والطريق". كذلك، بدأت موسكو وبكين تُضعِفان الولايات المتحدة في المنطقة المحيطة بها عبر تزويد اللقاحات إلى دول أميركا اللاتينية.

استرجاع الدور القيادي

يحق لإدارة بايدن أن ترغب في استرجاع دور قيادي عبر تلقيح العالم لأسباب مرتبطة بمصالح البلد من جهة ولمساعدة الآخرين من جهة أخرى. لكن يجب ألا تقع في الفخ وتحاول هزم روسيا والصين في لعبتهما الخاصة، ما يعني أن تُسلّم اللقاحات إلى دول محددة، بناءً على أهميتها الجيوستراتيجية وحجم الاهتمام الذي تتلقاه من الخصوم.

من الأفضل أن يسعى بايدن إلى تطبيق المقاربة الموحدة التي أعلنها محلياً في الخارج أيضاً. يُفترض ألا تُركّز إدارته على التفوق استراتيجياً بقدر ما تنشغل بتلقيح أكبر عدد من الناس حول العالم في أقصر وقت ممكن. ستُركّز الولايات المتحدة حينها على العامل المشترك بين جميع سكان العالم (أي قابلية التقاط هذا الفيروس وسواه) بغض النظر عن طبيعة حكوماتهم.

مبررات الحملة العالمية

يُعتبر وباء "كورونا" أسوأ كارثة إنسانية واقتصادية في التاريخ الحديث. قد لا تكون هذه العدوى مدمّرة بقدر الكوارث الطبيعية، لكنّ تداعياتها تبدو أكثر سوءاً وتوسّعاً. تذكر التقارير وفاة 2.6 مليون شخص بسبب "كوفيد-19"، مع أن العدد الحقيقي قد يكون أعلى بكثير. يشير تحليل الوفيات المبكرة والمفرطة إلى خسارة ما يوازي 20.5 مليون سنة من الحياة. وبحسب أرقام البنك الدولي، أدى الوباء إلى وصول 124 مليون شخص إلى حالة من الفقر المدقع في سنة 2020، وهي أول سنة تسجّل هذه الزيادة الهائلة منذ عقدَين. ووفق تقديرات خبراء الاقتصاد، سيكلّف تفشي كورونا طوال سنتين العالم 10.3 تريليونات دولار، ويعتبر البنك الدولي الانكماش الحاصل مساوياً لضعف الركود العظيم. في نهاية المطاف، ستكون حملات التلقيح العالمية الطريقة الوحيدة لكبح هذا الانهيار أو حتى عكس مساره.

تعلّمت إدارة بايدن درساً مهماً من تعامل الحكومة مع الأزمة المالية في عام 2008: يجب ألا تخاف الولايات المتحدة من الطموحات الكبرى. ترتكز "خطة إنقاذ أميركا" على هذا المبدأ تحديداً، فتُخصص 1.9 تريليون دولار لأجزاء مختلفة من الاقتصاد. يُفترض أن تطبّق الإدارة الأميركية النصيحة نفسها في ملف تلقيح العالم. ستترافق الجهود الشاملة مع أفضل وأسرع النتائج في خضم المعركة القائمة ضد "كورونا"، ولاشك في أن آثارها ستصبّ في مصلحة الولايات المتحدة.

ستكسب واشنطن منافع كثيرة إذا تسارع مسار تعافي الاقتصاد العالمي. وفق دراسة أجرتها "مجموعة أوراسيا"، ستحصد الولايات المتحدة وتسعة اقتصادات متقدمة أخرى 153 مليار دولار على الأقل في عام 2021، و466 مليار بحلول 2025. وحتى لو أعطت الولايات المتحدة اللقاح لجميع سكانها، سيتباطأ تعافي اقتصادها طالما يستمر الوباء ولا يحصل شركاؤها التجاريون على اللقاح.

حماية العالم

في هذا السياق، يقول الرئيس بايدن: "في نهاية المطاف، لن نصبح بأمان إلى أن يصبح العالم أجمع آمناً". كذلك، لن يكون الوباء الراهن الأخير من نوعه. بل إن الشراكات وهياكل الصحة العامة التي تبنيها الولايات المتحدة لتلقيح العالم ضد فيروس "كورونا" الراهن ستدافع عن البلد أيضاً في وجه مسببات الأمراض القاتلة أو التهديدات الصحية الأخرى في المراحل المقبلة. لكن لا يمكن فصل جهود حماية البلد من الأمراض عن حماية العالم بأسره.

في عام 2018، أصدرت الولايات المتحدة "الاستراتيجية الوطنية للدفاع البيولوجي" وقد اعترفت على ما يبدو بهذا الاتكال المتبادل بين الدول. دعت هذه الاستراتيجية إلى تطوير اتفاقيات وشراكات لمساعدة الدول الخارجية على الاستعداد للحوادث البيولوجية والتجاوب معها. لا يمنع هذا النوع من التعاون نشوء التهديدات فحسب، بل إنه يعزز الانفتاح الذي يترافق مع مكاسب كبرى. لم يكن هذا الانفتاح قائماً بين الصين والولايات المتحدة حين ظهرت عدوى "كوفيد-19" في عام 2019. لو تقاسمت الصين بياناتها ومعلوماتها حول جينوم الفيروس مع منظمة الصحة العالمية ودول أخرى سريعاً، كان يمكن إبطاء الموجة الأولى من تفشي الوباء.

ما السبيل لإنهاء الأوبئة؟

سيكون إنهاء الوباء وتلقيح العالم أجمع التزاماً ضخماً بمعنى الكلمة، وهو يتوقف في معظمه على منشأة "كوفاكس"، وتحالف التلقيح "غافي"، الجناح التنفيذي للمنشأة. تأسس "غافي" بتمويل من مؤسسة "بيل وميليندا غيتس" منذ عشرين سنة ويُعتبر هذا الإنجاز تتويجاً لمقاربة اجتماعية شاملة تهدف إلى حل مشاكل العالم. كان التحالف مُصمماً في الأساس لتأمين اللقاحات لجميع دول العالم من خلال جمع عاملَي السرعة والمرونة في القطاعات الخاصة والمدنية مع ضخامة القطاع العام. لكن تبقى هذه المهمة ضخمة وتحتاج إلى شبكة الدعم التي استعملتها الولايات المتحدة خلال الأزمات الإنسانية السابقة مثل جائحة الإيدز، ووباء الإيبولا في عام 2014، وأمواج التسونامي في المحيط الهندي.

تستطيع الولايات المتحدة أن تستعمل قدرات جيشها اللوجستية المدهشة لتأمين اللقاحات وتسليمها عالمياً، حتى لو كانت المواقع المستهدفة صعبة وبعيدة. يبرع الجيش الأميركي في هذا النوع من المهام ولديه شراكات قديمة في دول تتراوح بين كولومبيا ومصر والفلبين. كما حصل في جهود الإغاثة من التسونامي الذي ضرب المحيط الهندي في عام 2004، تستطيع القوات الأميركية أن تعقد شراكات مع الجيوش الخارجية لتوسيع برامج التلقيح الوطنية وتنفيذها. كذلك، قد تدعو واشنطن حلفاءها في مجموعة الدول الصناعية السبع وحلف الناتو إلى بناء تحالف واسع وقادر على تقاسم التكاليف. على عكس عمليات إرساء الاستقرار اللامتناهية في الشرق الأوسط، ستكون هذه المهمة الإنسانية مباشرة وذات أهداف واضحة.

تشمل الولايات المتحدة أصلاً آلاف المسؤولين المدنيين والموظفين المحليين من أصحاب الخبرة في مجال المساعدات الإنسانية وحملات التلقيح في أنحاء العالم، وهم يمثلون وكالات مثل "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، و"مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها"، ووزارة الخارجية. ونظراً إلى طبيعة المبادرات السابقة، تستفيد الولايات المتحدة من شراكات قوية في قطاع الصحة العامة داخل عشرات الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط.

وفي هذا السياق، تقول سامانثا باور، السفيرة الأميركية السابقة في الأمم المتحدة، إن هذا الوجود الأميركي يمكن توجيهه لمساعدة الدول على إدارة خدماتها اللوجستية وسلاسل إمداداتها، وإطلاق حملات توعية عامة، وتدريب العمال المحليين في مجال الرعاية الصحية، وتسهيل وصول اللقاحات إلى الجماعات المهمشة والمعزولة.

تصنيع اللقاح

في الإطار نفسه، يُفترض أن تتعاون الولايات المتحدة مع الدول الأخرى لتطوير إمكانات تصنيع اللقاحات وزيادة أعدادها محلياً. لجأت دول كثيرة في أميركا اللاتينية إلى الصين وروسيا لتأمين اللقاحات لأنها عجزت عن تلبية المعايير الصارمة أو الأسعار العالية التي تفرضها شركات الأدوية الغربية. ومثلما عقدت إدارة بايدن صفقة بين شركتَي "جونسون أند جونسون" و"ميرك" اللتين تخوضان منافسة شرسة في هذا القطاع بهدف تكثيف إنتاج لقاح الجرعة الواحدة، يجب أن تدفع الشركات الأميركية أيضاً إلى إقرار ترتيبات معينة لإنتاج اللقاحات بالتعاون مع شركات التصنيع الخارجية. سبق وعقدت الصين وروسيا الصفقات اللازمة لتمكين الشركات المحلية من إنتاج لقاحاتها الخاصة. كذلك، تُخطط الشركات في الأرجنتين والبرازيل وإيطاليا لبدء إنتاج لقاح "سبوتنيك V".

تملك المجتمعات الديمقراطية والمنفتحة موارد هائلة وتستطيع استعمالها في حملة تلقيح العالم. يمكن تشجيع المدن الشقيقة، والجامعات، والجماعات الدينية، والمؤسسات التي تملك سلاسل إمدادات عالمية، والجمعيات الخيرية التي تتكل على شبكات عالمية، ومجموعات الشتات، على التواصل مع الشركاء في الخارج وتحديد أفضل طريقة لتقديم مساهماتها. من خلال إشراك هؤلاء اللاعبين المتنوعين، قد تنشأ تعددية جديدة وأكثر حيوية.

من حق إدارة بايدن أن تعطي الأولوية لتلقيح جميع الأميركيين، إذ لا أهمية لإنهاء الوباء في الخارج إذا لم يتلقَ الأميركيون كلهم اللقاح داخل الولايات المتحدة. لكن يستطيع هذا البلد أن يحقق الهدفَين في الوقت نفسه.

بداية حقبة مختلفة

ستكون الحملة العالمية، التي تهدف إلى تلقيح جميع الناس في أسرع وقت ممكن، بداية حقبة مختلفة جداً من القيادة الأميركية. ستثبت الولايات المتحدة بهذه الطريقة قدرتها على قيادة العالم عبر دعم المؤسسات الدولية بدل معاداتها، ويُفترض أن تشمل تلك المؤسسات جهات ناشطة أكثر من البيروقراطيين العمالقة في القرن العشرين. ستسترجع الولايات المتحدة، بالتعاون مع دول أخرى مستعدة للانضمام إليها، دورها القيادي بفضل مواردها ومهاراتها في القطاعات العامة والخاصة والمدنية وسيصبّ تركيزها هذه المرة على الناس أكثر من ألعاب القوة، فتقيس نجاحها بحسب أعداد الناس التي تنقذها بدل أعداد الحكومات التي تنجح في استمالتها. هذا هو جوهر استراتيجية "الجميع للجميع"!

ستحصد واشنطن منافع استراتيجية هائلة بفضل هذه الجهود. على سبيل المثال، ساهمت مبادرة "بيبفار" (خطة الطوارئ الرئاسية للإغاثة من الإيدز) في تحسين صورة الولايات المتحدة في عدد كبير من دول إفريقيا وآسيا. لكن كانت الولايات المتحدة لتستحق هذا التفوق عبر تنفيذ الالتزامات العالمية التي تتماشى مع أهم قِيَمها، فتكون "شريكة قوية وجديرة بالثقة لتحقيق السلام والتقدم والأمن" للجميع، كما قال الرئيس بايدن في خطاب تنصيبه.

غوردون لافورج، آن ماري سلوتر- فورين افيرز

الولايات المتحدة بهذه الطريقة ستثبت قدرتها على قيادة العالم عبر دعم المؤسسات الدولية بدلاً من معاداتها ويُفترض أن تشمل تلك المؤسسات جهات ناشطة أكثر من البيروقراطيين العمالقة في القرن العشرين

روسيا والصين عمدتا إلى تسويق اللقاحات وتوزيعها على الدول الخارجية تمهيداً لتحقيق أهدافهما السياسية الخارجية

بكين تتبرع بجرعات من اللقاحات لزيادة تأثيرها في النزاعات الإقليمية وتوسيع نفوذها بموجب «مبادرة الحزام والطريق»
back to top