الخليج وثقافة الديمقراطية (16)...

نشر في 15-03-2021
آخر تحديث 15-03-2021 | 00:10
 د. عبدالحميد الأنصاري النظرة التقديسية للحاكم معوقاً

الحاكم أو الإمام في التراث الإسلامي له مكانة تقترب من القدسية، فهو ولي الأمر الذي يحرم عصيانه، وهو الخليفة والسلطان والإمام، وهو صانع الأحداث والمقدرات، والقائد الذي يحمي بيضة الإسلام ويخوض الحروب ويحقق الانتصارات، وهو المنقذ والمخلص والمحرر، تاريخنا كله تاريخ الخلفاء والحكام وحروبهم وبطولاتهم وانتصاراتهم وفتوحاتهم، وأيضاً صراعاتهم الدموية على الحكم.

لماذا هذه المكانة القدسية للحاكم في التراث؟

لأنه في نظر الفقهاء خليفة الرسول في أمته، ونائبه في تدبير مصالح الأمة الداخلية والخارجية، ومرجع السلطات كلها: التنفيذية والقضائية والشرعية، فهو السياسي الأول، والقائد الأعلى، والقاضي الأكبر، والمجتهد الأعلم، والزعيم الأوحد، الكل يستمد سلطته منه، بل يكاد يكون "ظل الله في الأرض" يحرم الخروج عليه أو عصيانه كما في مرويات حديثية "إن عدل فله الأجر، وإن جار وظلم كان على الرعية الدعاء له والصبر".

لماذا انشغل الفقهاء بـالشروط الشخصية للإمام دون النظام المؤسسي للحكم؟

أولاً: كان جل اهتمام الفقهاء بـالمعيار الشخصي للحاكم، أي الشروط الشخصية المطلوبة فيه، دون أي اهتمام بالإطار التنظيمي للحكم، مثل: تنظيم مؤسسي للشورى، تحديد مدة الإمام، تقييد اختصاصاته، كيفية عزله، فصل بيت المال. فمهما بحثت في مباحث الإمامة، فلن تجد أي ذكر لمدة ولاية الإمام مثلاً، فالإمام عند المسلمين يبقى إماما مادام حياً قادراً على أداء مهام المنصب، في المقابل أجهد الفقهاء أنفسهم في وضع شروط مشددة للإمام وصلت إلى تصوره شخصية فذة، أشبه "بالسوبرمان".

ثانياً: انطلاقاً من هذا التصور المثالي للإمام والمستمد من فترة الخلافة الراشدة، تصور الفقهاء أن هذا الإمام الفذ، كونه مؤتمناً على الأمة، والأعلم بمصالحها، سيراعي العدل والأمانة، وسيكون قراره معبراً عن الإرادة العامة للأمة دون الحاجة إلى مشاورتها.

ثالثاً: الفكر السياسي العربي لم يتصور تدبير المصالح العامة إلا تدبيراً فردياً شخصياً مرتبطاً بشخصية الحاكم، إن صلح صلحت أمور الرعية وإن فسد فسدت، لم يتصور تدبيراً جماعياً مؤسسياً كما في النظم المعاصرة، ولذلك فإن المؤلفات السياسية التراثية جميعها تدور حول المؤهلات الشخصية للإمام: كفاءته الدينية والإدارية والحربية، بحثاً مجهداً عن "الإمام العادل" وهو حديث أشبه بالأمنيات! فلا تجد شيئاً عن دور الأمة في هذا الإصلاح، بل هي مستبعدة تماماً، كونها رعية تقاد لا رأي لها ولا مدخل لها في المشاركة.

رابعاً: هناك نظرة استعلائية مستشرية في كتب التراث تجاه دور عامة الناس في إصلاح مجتمعاتهم، هناك ما يشبه الازدراء لهم، فهم (الغوغاء) و(الرعاع) و(الدهماء) لا شأن لهم في الأمر العام.

عامة الناس لم يكن لهم أي وزن في تراثنا، كانوا يجلدون وتؤخذ منهم الجباية لتمويل قصر الخليفة وبذخه وجواريه. الحضارة المعاصرة أعادت الاعتبار لهم، وهم اليوم رجل الشارع البسيط الذي يقيم ويسقط الرؤساء. لقد انشغل فقهاؤنا القدامى بالمعيار الشخصي للإمام على ثلاثة مذاهب:

أولاً: السنة: استفرغوا جهودهم في الشرائط الشرعية للإمام: الاجتهاد الشرعي، والشجاعة والخبرة الحربية، والعدالة الجامعة، والورع والكفاءة، والنسب القرشي. وهي شروط نظرية تعجيزية بقيت في بُطُون الكتب يتناقلها الفقهاء جيلاً بعد جيل، لا علاقة لها بالواقع السياسي، لذلك تم التنازل عنها لمصلحة الحكم الوراثي وحكم التغلب.

ثانياً: الشيعة: لم يشغلوا أنفسهم بتلك الشرائط، كون الإمامة عندهم منصباً (إلهياً) لم يتركها المولى لأهواء البشر، وحصرها في الأئمة المعصومين نسل الإمام علي.

ثالثاً: الخوارج أو "الموحدون": كانوا واقعيين والأقرب إلى روح الإسلام والنزعة الديمقراطية في مسألة الإمامة، وأنها شأن بشري دنيوي، تتم باختيار الناس، ولا علاقة لها بالسماء، وليس لقريش أو نسل النبي أي امتياز على غيرهم، بل هي حق مشاع بين المسلمين يستحقها الأبصر بالحرب والأفقه ديناً.

أخيراً: يرجع المفكر الجابري عدم تحديد مدة الحاكم، إلى أن أصل نظرة العرب للحاكم ومنذ الجاهلية، أنه قائد المقاتلين المحاربين، ولا يعرف كم ستدوم الحرب فكيف يحدد مدته؟!.

* كاتب قطري

د. عبدالحميد الأنصاري

back to top