لبنان يواجه صراع الفيلة... حركة سياسية لمواجهة ابتلاعه أو تقسيمه

نشر في 01-03-2021
آخر تحديث 01-03-2021 | 00:04
لبنانيات يرفعن لافتات مندّدة بـ«الاحتلال الإيراني» في باحة البطريركية المارونية في بكركي أمس الأول (أ ف ب)
لبنانيات يرفعن لافتات مندّدة بـ«الاحتلال الإيراني» في باحة البطريركية المارونية في بكركي أمس الأول (أ ف ب)
حرّكت صرخة البطريرك الماروني بشارة الراعي المياه اللبنانية الراكدة. موقف يلاقي التفافاً واسعاً حوله، شعبياً وسياسياً، وقابل لأن يكون له صدى دولي. خرجت الصرخة من وجع ناتج عن غرق في مستنقع أزمات وصراعات مصلحية، سياسية، طائفية، مالية، اقتصادية. يحاول رأس الكنيسة المارونية العودة إلى لعب دور تاريخي لعبه أسلافه منذ تأسيس لبنان الكبير، إلى كل المحطات التاريخية التي عصفت بلبنان ووضعته على مفترقات التحولات.

لطالما كان البطاركة حراس الصيغة اللبنانية، منذ أيام البطريرك الياس الحويك الذي تمسك بمبدأ قيام دولة لبنانية مستقلة عن سورية، إلى مواقف البطريرك بولس المعوشي الذي رفض سياسة الأحلاف، والبطريرك نصر الله صفير في مواقفه ضد وصاية النظام السوري على لبنان وضد سلاح حزب الله، ليأتي البطريرك الراعي مدافعاً عن فكرة لبنان الكبير المهدد بالزوال.

وللمصادفة التاريخية، يشاء القدر أن تلقي الانهيارات اللبنانية المتعددة كرة النار في ملعب الكنيسة المارونية، ومقرها الرئيسي في بكركي صاحبة التاريخ لـ1400 عام. يحمل الراعي كرة النار هذه في الذكرى المئوية الأولى على ولادة لبنان الكبير، هذا اللبنان الذي يعيش أخطر أزماته ويفقد كل مكتسباته وميزاته. مكتسبات وأسس انهارت كلها في سنة واحدة، قامت فكرة لبنان الأساسية على التنوع الثقافي والسياسي والعرقي، تميز بنظام اقتصادي حر وسياسي ديمقراطي، استقطب النظام الليبرالي إلى جانب نظام مصرفي متين بقوانين سويسرية، رؤوس الأموال العربية منذ الخمسينيات، فكان "مصرف العرب"، تطور عمل مرفأ بيروت وتوسعت مهامه لسنوات طويلة، فنجح لبنان في لعب دور صلة الوصل بين العرب والشرق والغرب.

في عام 2020 انهار النظام المصرفي، تم تفجير مرفأ بيروت الذي كان إطلالة لبنان على العالم، تعطّل النظام السياسي في أزمة لم يتمكن أحد من اللبنانيين من إيجاد حل لها، أو تحقيق خرق واحد في جدارها، قرر البطريرك الماروني أن يمسك بكرة النار.

تقدم البطريرك بدعوة صريحة لعقد مؤتمر دولي خاص بلبنان، بهدف تحييده عن صراع الأحلاف الإقليمية والدولية، وطرح سؤالا واحدا وموجها لكل القوى الدولية الفاعلة والمؤثرة: هل هناك اهتمام ببقاء لبنان واحة للتنوع بصغيته المعروفة؟ أم أن هناك توجها لتدميره وتشتيته كما حصل في سورية، العراق، وغيرهما من دول المنطقة؟ تحت هذا السؤال، طروحات كثيرة، حول صيغة النظام، طرح ملف السلاح، ترسيم الحدود بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، ترسيم الحدود مع سورية وضبطها، وإعادة إنتاج السلطة السياسية القادرة على صوغ خطة اقتصادية إصلاحية.

شخصيات سياسية، حشود شعبية، جمعيات ومؤسسات لبنانية تعلن تأييدها لموقف الراعي، لاسيما مرتكزات جبل لبنان، ما قبل نشوء لبنان الكبير، والذي كان بجانحين، الجناح المسيحي الذي تمثله بكركي، والجناح الدرزي الذي مثله عن الدروز شخصيات تاريخية كثيرة، من بينها آل جنبلاط في المختارة، لتاريخ يمتد أيضا 1400 سنة. قدم جنبلاط قوة الدفع والدعم لمواقف البطريرك، بناء على سؤاله الشهير لبنان إلى أين؟ وهل سيتمكن اللبنانيون من الحفاظ على صيغتهم الفريدة؟ ما يجتمع عليه المسيحيون، والسنة، والدروز، وبعض الشيعة، هو الحفاظ على لبنان كدولة، لا كساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، ولا كمنصة صواريخ متقدمة.

الأهمية السياسية لطرح البطريرك، ولقوى سياسية أخرى معارضة لحزب الله، كان يمكن لها أن تأخذ زخما أكبر لو جاءت قبل سنة من الآن، وفي عزّ الثورة التي أطلقها الشباب اللبناني الرافض للطبقة السياسية، وكان يمكن لها ان تنتزع اهتماما دوليا جديا في تلك الفترة، ولكن أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً، وجد لبنان طرحاً سياسياً جديداً، قد يكون فرصة لتقوية الدولة وإعادة إنتاج عقد اجتماعي وسياسي يوقف حالة الشلل والاستعصاء، ولكن في نفس الوقت هناك قوى سياسية قابلة لتفريغ هذا الطرح من مضمونه وإغراقه في حسابات ضيقة، كما حصل في محطات سابقة، أسست على تعزيز الانقسام السياسي والطائفي.

لم يعد الحل ممكنا لدى اللبنانيين أنفسهم، أصبح الرهان عن فرصة دولية تعيد الاهتمام لهذا البلد الصغير، فرصة سيطول انتظارها، كما طال انتظار بيان أصدره المطارنة الموارنة في لبنان عام 2001 دعوا فيه لخروج قوات الجيش السوري، لم يتحقق ذلك إلا في عام 2005، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصدور القرار 1559. الدعوة لتدويل الأزمة ستعيد البحث بتطبيق القرار 1559 وخصوصاً ما يتعلق بملف سلاح حزب الله، وهو عنوان انقسامي جديد، لن تكون إيران ولا الحزب من خلفها جاهزين للبحث به أو التفاوض عليه.

قد تذهب طهران في هذه المرحلة إلى التشدد أكثر في بيروت كما في كل الساحات العربية، فيما ستستمر دعوات القوى المناهضة لها بتشكيل حركة سياسية، وتنظيم ندوات ولقاءات، والتحضير لتقديم وثيقة سياسية إلى الأمم المتحدة، والدول الكبرى، من خلال تحضير وفد لبناني لإجراء زيارات للفاتيكان، والولايات المتحدة وفرنسا، سعيا وراء دعم هذا الطرح.

طرح يأتي في ظرف سياسي دولي وإقليمي عصيب، بينما لا يبدو أن هناك اهتماما دوليا جديا في متابعة ملف الشرق الأوسط، خاصة أن الإدارة الأميركية الجديدة، ومواقف الرئيس الاميركي جو بايدن حول السياسة الخارجية، ركزت على مكافحة وباء كورونا، استنهاض الاقتصاد الأميركي، واهتمام الدول الأخرى في استعادة نمو اقتصاداتها، إضافة إلى البحث في تعزيز العلاقات الدولية سواء على خط حلف الناتو، أو الاهتمام بملف الصين وتوسعها، هذه كلها ملفات من شأنها تأخير البت بملفات الشرق الأوسط التي ستبقى عالقة، ومتأخرة بانتظار حصول مفاوضات جدية بين الإيرانيين والأميركيين حول الاتفاق النووي والنفوذ الإيراني في المنطقة.

مشكلة لبنان أنه أصبح على طريق يشهد صراعا بين الفيلة. الوحدة بين أبنائه فرصة لحمايته، أما الانقسام فيعني استمرار الانهيار وخسارة الدور، وهذا يهدد بالفدرلة أو التقسيم إلى كيانات سياسية تقوم على أسس مذهبية فتصبح كل مجموعة أو منطقة لها جهة خارجية ترعاها.

منير الربيع

back to top