الخليج وثقافة الديمقراطية (13)... خطاب العنف معوقاً

نشر في 22-02-2021
آخر تحديث 22-02-2021 | 00:08
 د. عبدالحميد الأنصاري لن يتحضر الإنسان الخليجي ويتقدم إلا إذا انقلب على إرثه التاريخي العنيف الذي لا يحترم إلا القوة بسبب طبيعة صراع البقاء في الصحراء المنتجة لثقافة العنف. ذكرت في مقالات سابقة أنه لا يمكن تحقيق نهضة إلا بالقطيعة الفكرية مع خطاب العنف الممجد في تراثنا والموثق في (ديوان العرب) الشعري، وفِي نصوص قرآنية تنتزع من سياقها وأجوائها، وفِي مرويات حديثية تنسب للرسول (نبي الرحمة) عليه الصلاة والسلام.

لا يمكن ولادة فكر عربي جديد ونشر ثقافة الديمقراطية إلا إذا تم تجاوز تراث العنف الذي مازال حاكماً للحياة العربية ومهيمناً على عقل ووجدان قطاع اجتماعي عريض في مجتمعنا الخليجي والعربي، وتفكيك البنى الثقافية التي تنتج العنف والخطاب الذي يبرر انتهاك حقوق وكرامة الإنسان وإذلاله، سياسياً واجتماعياً ودينياً، في مجتمعاتنا المنكوبة بالعنف البنيوي المقنن.

إن الإنسان هو أكرم الكائنات لدى خالقه الذي قال في محكم كتابه «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» فما بال مجتمعاتنا ترضى وتستكين لإهدار الكرامات وإذلال الجماعات؟! التمييز التشريعي والإداري الواقعان على فئات اجتماعية عنف، حرمان المرأة من حقوقها، وسوء معاملتها عنف، سلب الإنسان حق رفع الظلم عن نفسه ظلم، افتقاد العدالة الاجتماعية عنف.

لا يمكنني الاطمئنان، بعد قوله تعالى لرسوله «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» وحسمه قضية الإيمان والكفر «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» وإهداره الإيمان الإلجائي لفرعون لما أدركه الغرق؛ إلى مروية حديثية تقول «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله… إلخ»، وإن جاءت في الصحاح!

لست مضطراً إلى قبول مروية حديثية تقول: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي... إلخ»، وإن صححه كبير محدثي العصر (الألباني) رحمه الله في تقديمه لكتاب (الحكم الجديرة بالإذاعة) للإمام المحقق ابن رجب الحنبلي المتوفى في القرن الثامن الهجري.

يعجب المسلم المعاصر لهذا الإمام المحقق شرحه لحديث «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» قوله: فيه إشارة إلى أن الله لم يبعث محمداً عليه الصلاة والسلام بالسعي في طلب الدنيا ولا الاجتهاد في طلب أسبابها، إنما بعثه داعياً إلى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول دعوة التوحيد، ويستبيح أموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعدائه! لينتهي إلى أن الحديث: يذم الزراعة والتجارة لأنهما تشغلان عن الجهاد! بل يغلو في ذم الزراعة، فيقول: قيل لبعضهم لو اتخذت مزرعة للعيال؟ فقال: والله ما جئنا زارعين، ولكن جئنا لنقتل أهل الزرع ونأكل زرعهم!

وإذا كنت أعذر فقهاءنا القدامى، تلبسهم ثقافة مجتمعهم وعصرهم، وكونهم أبناء دولة الخلافة التي كانت مهيمنة على المعمورة، لكني أتساءل: ما الذي سوغ لواضعي المناهج الدينية من فقهائنا، وهم أبناء هذا العصر، تدريس هذا الحديث المحرض على العنف، المناقض لهدي الإسلام وتعاليمه السمحة لناشئتنا، ثم بعد ذلك نستنكر إجرام داعش وأخواته بحق الآمنين من الأزيديين وغيرهم!

وإن تعجب فاعجب لقوم صححوا حديثاً وجعلوه من الحكم الجديرة بالإذاعة، مازاد إلا أن جعل من المسلمين قطاعاً للطرق، يعتاشون على الغارات ونهب أموال الآخرين وسبي نسائهم، ويتخلون عن عمارة الأرض والتنمية والإنتاج، ويتركون الحرف والمهن والصناعات والزراعات والتجارة للآخرين!

نكثر اللوم والطعن في النوايا الخبيثة للمستشرقين تجاه الإسلام، كونهم قالوا: إن الإسلام انتشر بالسيف، وصنفنا مجلدات للرد عليهم وكشف شبههم، لكنا تناسينا أن فقهاءنا القدامى قاطبة سبقوهم إلى القول نفسه! وأن بضاعتنا القديمة ردت إلينا!

أخيراً: يبقى الإقرار بأننا لسنا الأمة الوحيدة في «الإرث الثقافي العنيف» فهو قاسم تاريخي مشترك بين أمم الأرض كافة، بل عند بعضها تراث أعنف تجسد في مذابح وإبادات جماعية موثقة، لكن الآخرين تمكنوا من التجاوز، ونجحوا في إحداث (قطيعة معرفية) مع تراثهم العنيف، ونحن لما ننجح بعد.

*كاتب قطري

د. عبدالحميد الأنصاري

back to top