هل ينجح بايدن فيما فشل فيه أوباما؟

نشر في 02-02-2021
آخر تحديث 02-02-2021 | 00:02
أثبت الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما أنه يستطيع إقامة الصداقات أو إحراز التقدم، لكنه يعجز عن تحقيق الهدفَين معاً.
بعد مرور 12 سنة على تولي جو بايدن منصب نائب الرئيس الأميركي تحت شعار "الأمل والتغيير"، يبدو الأمل غائباً اليوم، وأصبحت الحاجة إلى التغيير أكبر من أي وقت مضى. يملك التقدميون فرصة نادرة لتنفيذ أجندتهم، لكنهم في الواقع يحتاجون إلى تحقيق أهدافهم بالطرق التي تجنّبوها في الماضي، لأنّ بايدن يتابع توجيه رسائل متضاربة حالياً. ذلك أنه مقابل كل وعد بإحداث تغيير جذري وحاسم، يعبّر بايدن عن رغبته في استرضاء الحزب الجمهوري المُصمِّم من جهته على تدمير عهده الرئاسي.
تبدو المخاطر المطروحة أمام الرئيس الجديد جو بايدن هائلة: يموت أميركي واحد من كل ألف بسبب وباء "كورونا" القاتل، ولا تبدو النهاية وشيكة حتى الآن. رسمياً، لاتزال الحركة الاقتصادية مستمرة، لكن يواجه ملايين الناس احتمال الطرد والإفلاس والجوع وخسارة وظائفهم. وحتى الديمقراطية الأميركية تتعرض لحصار غير مسبوق على يد حركة متمردة يُشجّعها الرئيس المنتهية ولايته وأتباعه الأوفياء في الكونغرس بشكلٍ فجّ ومباشر أحياناً.

المسار المرتقب

يصعب توقّع المسار المرتقب خلال المرحلة المقبلة في ظل احتدام الحروب الثقافية والسياسية المتعددة، وارتفاع مخاطر الحرب الأهلية على أرض الواقع. لكن من الواضح أن بايدن يقف اليوم على مفترق طرق خطير، ولايزال غير متأكد من مساره. هو طبعاً يستطيع أن يحذو حذو رئيسه السابق باراك أوباما، الذي طبّق مقاربة المجاملة والتسوية التي ترضي الحزبَين الديمقراطي والجمهوري معاً وتكيّف مع قوة الشركات. أو يمكنه أن يختار مسار الرئيس فرانكلين روزفلت الذي حارب الأوليغارشية بشراسة كبيرة وتعامل مع الفاشية ورحّب بكره الأثرياء له.

يُعلّمنا عهد باراك أوباما إذاً أن استرضاء الجميع وإحداث تغيير جذري لا يمكن تحقيقهما في الوقت نفسه.

فاز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية في عام 2008، مع أن البعض اعتبره عن غير وجه حق اشتراكياً مولوداً في الخارج ويميل إلى دعم إعادة توزيع الثروات بطريقة جذرية، وقد تسلم السلطة حين كان البلد يشهد المظاهر نفسها من الانقسام والفقر. كانت النفسية الأميركية حينئذ مدمّرة بسبب حرب العراق وانهيار الاقتصاد نتيجة الأزمة المالية التي دمّرت حياة ملايين الناس. كانت تلك المرحلة تسمح له بتكرار ما فعله الرئيس فرانكلين روزفلت، لكنه لم يستغلها لعقد "اتفاق جديد" يضمن إعادة التوازن إلى العلاقة بين الرساميل والعمل، بل إنه فضّل ترسيخ الظروف القائمة عبر اتخاذ الخطوات التالية:

- دعم باراك أوباما برنامج إنقاذ البنوك الذي وضعه سلفه، ثم ألغاه لتقليص العجز بدلا من إعادة توجيهه لمساعدة أصحاب المنازل الذين يواجهون مصاعب كبرى.

- أيّد قانوناً للتحفيز الاقتصادي، لكنه كان أصغر من اللزوم، وأدى في نهاية المطاف إلى أبطأ تعافي اقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.

- تعهد أن يكون أداؤه مختلفاً عن إدارة جورج بوش التي حاولت جاهدةً خصخصة الضمان الاجتماعي، ثم شكّل لجنة لمحاولة تقليص ذلك البرنامج.

- دعم نسخة أكثر ليبرالية بقليل من إصلاح الرعاية الصحية، الذي اقترحه الحزب الجمهوري لكنه تجنّب معركة أكثر احتداماً لإقرار تأمين صحي عام أو "الرعاية الصحية للجميع".

- حاول إقناع الآخرين أنه سيتصرّف بصرامة مع "وول ستريت"، لكن رفضت إدارته محاكمة المدراء التنفيذيين للبنوك وإجبار المؤسسات المالية على تقبّل خسائر الرهون العقارية وتفكيك البنوك الأكبر حجماً.

- حرص على حماية إدارة جورج بوش الابن من أي تحقيق منهجي حول الأكاذيب المرتبطة بحرب العراق ونظام التعذيب الخارج عن القانون، انطلاقاً من قناعته بضرورة "التطلع إلى المستقبل بدل النظر إلى الوراء".

حصد باراك أوباما على مر عهده تأييداً واسعاً من الناخبين الليبراليين، ورضوخاً من التقدميين في الكونغرس، ولو على مضض، فامتنع هؤلاء عن مواجهة البيت الأبيض في عهد الرئيس الديمقراطي، حتى عندما حاولت إدارة أوباما إعاقة أجندتهم.

استرضاء الحزب الجمهوري

ربما توقّع باراك أوباما أن يكسب بعض الصداقات مقابل استرضاء الحزب الجمهوري، لكن لم يمنحه الجمهوريون إلا عدداً صغيراً من الأصوات الداعمة في الكونغرس وبقي مدحهم له نادراً. ثم وجّهوا له ضربة موجعة في منتصف عهده، فانهار بذلك احتمال إحداث تغيير جذري انهياراً كبيراً. كتب أوباما لاحقاً أنه تجنب قمع "وول ستريت"، لأن تلك الخطوة "كانت لتتطلب بلا شك استعمال العنف الكبير ضد النظام الاجتماعي".

في النهاية أدّى التمسك بالوضع القائم، والرضوخ لنفوذ "وول ستريت" إلى ردود أفعال قوية وتهيئة الظروف لتنامي شعبية ترامب. تكشف البيانات عن وجود رابط مباشر بين هذه العوامل: في ثلث المقاطعات التي انتقلت من دعم أوباما إلى ترامب، زاد عدد السكان الغارقين بأعباء الرهون العقارية في عام 2016 وفق "مركز التقدم الأميركي".

حزب الطبقة العاملة

في هذا السياق، صرّح البروفيسور برنارد غروفمان من جامعة كاليفورنيا – إيرفين حديثاً لصحيفة "نيويورك تايمز": "ما كان ترامب ليفوز بالرئاسة لو بقي الحزب الديمقراطي حزب الطبقة العاملة. تعامل أوباما مع أزمة الإسكان عبر طرح خطط إنقاذ للمقرضين والمؤسسات المالية المترابطة بدل دعم الناس الذين يوشكون على خسارة منازلهم. كذلك، بقيت الأجور ومداخيل الطبقات الوسطى والدنيا جامدة خلال عهد أوباما".

بعد مرور 10 سنوات على تلك الأحداث، لم يتّضح بعد إلى أي حد استفاد بايدن من تجربته مع أوباما.

في بعض اللحظات، يبدو كأنه بايدن بدأ يبتعد أخيراً عن سجله القديم كواحد من أشرس مؤيدي تخفيض الميزانية، ويدعم في المقابل توسيع الضمان الاجتماعي، ويؤيد فكرة تخصيص شيكات تحفيزية بقيمة ألفَي دولار. حتى أنه أعلن حديثاً: "يجب أن نستثمر في إنفاق العجز لتحقيق نمو اقتصادي".

لكنه اتخذ مواقف معاكسة في لحظات أخرى. فقد حث في البداية المشرّعين الديمقراطيين على قبول خطة الحوافز من دون تقديم شيكات تحفيزية. بعد ثمانية أيام على إضعاف الحزب الجمهوري نتيجة الانتفاضة العنيفة التي أطلقها اليمينيون ضد مبنى الكابيتول، قرر أن يكافئ هذا الحزب حين أعلن أنه قد لا يحتاج إلى أصوات الجمهوريين، لكنه يفضّل عقد صفقة معهم حول أول تشريع سيطرحه عن الحوافز الاقتصادية بدل استعمال تكتيكات صارمة لتمرير قانون أكثر قوة ومدعوم من الحزب الديمقراطي وحده.

أوحت هذه النسخة من بايدن أن القادة الجمهوريين، بعد رحيل ترامب، قد يعيشون "لحظة استنارة"، ويتعلمون فجأةً كيفية التعاون مع الديمقراطيين.

تفيد التقارير أيضاً بأن بايدن لا يهتم بإجراء تحقيقات حول فظائع إدارة ترامب، بل إنه قال "نحن نحتاج إلى حزب جمهوري!" وتعهد بألا يُحرِج يوماً المشرّعين الجمهوريين علناً.

لكنها مجرّد مواقف متناقضة: في الكونغرس المنقسم بفارق ضئيل، لن يتمكن بايدن من حصد أي مكاسب كبرى إذا كان يفضّل تجنب الصراعات. بل إن تمرير أجندة جريئة سيتطلب على الأرجح مواجهة ملحمية مع الجمهوريين الذين يستعدون منذ الآن لإعاقة مساره. بعد سنوات من التخفيضات الضريبية المفرطة، بدأ قادة الحزب الجمهوري يتظاهرون فجأةً أنهم يهتمون بالعجز. وبناءً على التجارب التاريخية، من المتوقع أن يستأنفوا جهودهم لمنع أي تعديل تعهد به بايدن في قوانين البيئة والعمل.

تمويل الضمان الاجتماعي

من حق معسكر اليسار أن يخشى تقرّب بايدن المفرط من الجمهوريين، لأن سجله مع هذا الحزب كان يرتكز على التعاون مع العنصريين، الذين عارضوا أن يتقاسم السود والبيض حافلات المدارس في الماضي، وعلى دعم حرب العراق وتقليص تمويل الضمان الاجتماعي، ويسهل أن نتوقع إذاً تقرّب بايدن الآن من ميتش ماكونيل في هذا الملف.

يجب أن يستخلص التقدميون درساً مهماً من عهد أوباما في هذا المجال بالذات بدل الرضوخ مجدداً لرئيس ديمقراطي آخر خلال ولايته الأولى.

يجب أن يضغط الفريق الرئاسي على بايدن كي يرفض مقاربة الاسترضاء، وينتقل إلى موقف أكثر تصادمية، ويُشجّعه على اعتبار الأشهر القليلة الأولى من عهد أوباما تجربة تحذيرية بدلا من أن تكون قدوة يُحتذى بها. سبق أن حقق هذا الفريق نجاحاً أولياً، فقد ضغط على بايدن كي يدعم الشيكات الإنقاذية بقيمة ألفَي دولار.

يقول النائب الديمقراطي عن ولاية ويسكونسن، مارك بوكان: "يجب أن نُمرر حزمة البنى التحتية، ويجب أن نتعامل مع مسألة الشيكات التحفيزية ونتخذ خطوات هائلة عبر مجلس الشيوخ المنقسم بين الحزبَين ومجلس النواب الذي يبقى فيه الفرق ضئيلاً. أتمنى ألا نكرر ما فعلناه عند انتخاب أوباما فنحاول تطبيق مقاربة تصالحية مفرطة مع جميع الأطراف. يجب أن نتحرك بقوة ونستعمل الهوامش الضيقة التي نملكها بسرعة لإنجاز المهام".

لكن تتطلب هذه الخطة بعض الدهاء والانضباط والشجاعة، وهي عوامل لم يتّسم بها اليساريون منذ عقود. يجب أن تستعد الجماعات الشعبية للضغط على الإدارة الجديدة فيما يتحضّر المشرّعون الديمقراطيون للتصادم مع بايدن، حتى لو حاول تهدئتهم بعباراته اللطيفة والمألوفة.

من الناحية الإيجابية، يبدو التقدميون أكثر استعداداً لهذه المعركة مما كانوا عليه منذ سنوات. لايزال الجناح المؤسسي من الحزب الديمقراطي قوياً بفضل روابطه مع أصحاب الثروات الكبرى، لكن تكشف استطلاعات الرأي أنه الخاسر الأول في مسابقة الأفكار. يريد عدد كبير من الأميركيين حصول تغيير جذري فوراً، ويحظى المشرعون التقدميون بدعم قاعدة شعبية تجمع لهم التبرعات دوماً، ويستفيدون من بنية تحتية سياسية متطورة، ويحصدون تأييد كبار القادة.

الكتلة التقدمية

في مجلس النواب، تشمل الكتلة التقدمية عشرات الأعضاء، وقد بدأت تُجدد قواعدها كي تصبح كتلة انتخابية أكثر تماسكاً، وتتمكن من فرض نفوذها داخل المجلس المنقسم بفارق ضئيل.

سبق أن أقنعت هذه الكتلة (بقيادة النائبة ألكسندريا أوكاسيو كورتيز وأعضاء آخرين من جماعتها) القادة الديمقراطيين بإصلاح قواعد الميزانية لتسهيل تمرير مبادرات مثل "الاتفاق الأخضر الجديد"، و"الرعاية الصحية للجميع". يستطيع هذا المعسكر أيضاً أن يكثّف ضغوطه لاستحضار "قانون مراجعة الكونغرس"، وإلغاء التنظيمات التي أقرّها ترامب في اللحظة الأخيرة، لإضعاف الحماية التي يتمتع بها العمال وكبح المعركة ضد التغير المناخي.

خلال عهد أوباما، كان الديمقراطيون يرفضون في معظم الأوقات استعمال سلطتهم، فلم يستخدموا مثلاً المصالحة بشأن الميزانية لفرض خيار التأمين الصحي العام. في المقابل، استغل الجمهوريون في عهد ترامب تلك المصالحة لتمرير تخفيضاته الضريبية الهائلة وإلغاء 14 قانوناً أقرّه أوباما.

يدرك بيرني ساندرز، أكثر من معظم المسؤولين الآخرين في واشنطن، الضرورات الأخلاقية والسياسية وراء استعمال أي أداة قادرة على إحداث التغيير، وقد صرّح حديثاً لقناة "إن بي سي نيوز": "يجب أن نتصرف بجرأة لم نشهدها في هذا البلد منذ عهد فرانكلين روزفلت، وإلا أتوقع ألا نكون جزءاً من الأغلبية خلال سنتين".

خاض بايدن حملته الرئاسية على أساس التعهد بإعادة إرساء الوضع الطبيعي الذي كان سائداً قبل الأزمة الأخيرة. لكن لن يكون هذا الوعد كافياً لسحب الولايات المتحدة من الهاوية ومنع توسّع النزعة الاستبدادية اليوم، مثلما لم يكن كافياً في زمن الكساد العظيم.

إنقاذ البلد

في تلك الحقبة، بدا كأن روزفلت يدرك أن التمسك بالوضع الطبيعي لن يكبح الفاشية وينقذ البلد، بل برزت الحاجة إلى عوامل كثيرة أخرى برأيه.

قال روزفلت في خطاب تنصيبه الأول: "لابد من وضع حد للسلوكيات الشائعة في قطاعات المصارف والأعمال التي اعتادت على الأفعال القاسية والأنانية. لكنّ التجديد لا يتطلب تغيير الأخلاقيات فحسب، بل يحتاج هذا الوطن إلى تحركات ملموسة فوراً".

تنطبق هذه الكلمات على أحداث الحاضر المحفوفة بالمخاطر: لا تكمن أفضل الآمال الأميركية في أداء بايدن الباهت الذي يشيد بـ"روح هذه الأمة"، بل يجب أن يضغط التقدميون على إدارة بايدن كي تتحرك بطريقة عملية، وتُحقق مكاسب مادية ملموسة للطبقة العاملة.

إذا لم يحصل ذلك، فمن المتوقع أن تقود نزعة استبدادية يمينية جديدة موجة أخرى من الغضب، بسبب استمرار مظاهر اللامساواة والحرمان والخلل، وقد يكون التهديد المقبل أكثر خطورة من ترامب نفسه!

ديفيد سيروتا – نيوزويك إنترناشونال

يدرك بيرني ساندرز أكثر من معظم المسؤولين الآخرين في واشنطن الضرورات الأخلاقية والسياسية وراء استعمال أي أداة قادرة على إحداث التغيير

من حق معسكر اليسار أن يخشى تقرّب بايدن المفرط من الجمهوريين لأن سجله مع هذا الحزب كان يرتكز على التعاون مع العنصريين الذين عارضوا أن يتقاسم السود والبيض حافلات المدارس

خلال رئاسة أوباما رفض الديمقراطيون في معظم الأوقات استعمال سلطتهم فلم يستخدموا مثلاً المصالحة بشأن الميزانية لفرض خيار التأمين الصحي العام

ما كان ترامب ليفوز بالرئاسة لو بقي «الديمقراطي» حزب الطبقة العاملة
back to top