«الترامبية» الأميركية المخزية في أوضح صورها

نشر في 12-01-2021
آخر تحديث 12-01-2021 | 00:00
يوم الأربعاء الماضي، في ذلك اليوم المخزي من تاريخ الديمقراطية الأميركية، وقف المسؤول الأبيض الأعلى مستوى في الولايات المتحدة على هامش الأحداث لساعات طويلة وشاهد عواقب برنامج الواقع الذي يمثّل فيه أمام عينيه، قبل أن يغرّد لاحقاً بأسلوب فاتر (لا للعنف!).
 دير شبيغل كان التمرد الفاشل يوم الأربعاء الماضي في واشنطن نهاية منطقية لعهد ترامب، حيث يقع اللوم مباشرةً على الحزب الجمهوري، لا سيما الرئيس الجمهوري المنتهية ولايته، فقد اقتحمت حشود عنيفة القاعات الرخامية لمبنى الكابيتول ولوّح المشاغبون بالأسلحة في طوابق مجلسَي النواب والشيوخ المحاصرة، وارتعب النواب وأعضاء مجلس الشيوخ واختبؤوا تحت مكاتبهم ووضعوا أقنعة واقية من الغاز.

عمد ترامب ومتملقوه إلى تأجيج غضب الرجال اليمينيين من أصحاب البشرة البيضاء، علماً أن هذه المشاعر كانت تغلي أصلاً في عمق الولايات المتحدة، فاستغلوا ذلك الغضب لتحقيق غاياتهم الخاصة، وعلى غرار أي مسؤول له طموحات دكتاتورية، يبدو ترامب متعطشاً للسلطة ويريد أن يقدّسه أتباعه في جميع الظروف. يسعى الجمهوريون عموماً إلى جني المال وتعيين القضاة اليمينيين، وتهتم وسائل الإعلام المحسوبة عليهم، بدءاً من "فوكس نيوز" وصولاً إلى "وان أميركا نيوز"، بنِسَب المشاهدة، فهذه الأطراف كلها مسؤولة عن تحريض حشود مثيري الشغب يوم الأربعاء ويجب أن يُحاسَبوا جميعاً.

منذ أربع سنوات، توقّع الكثيرون بكل سذاجة أن ينتظم الوضع على اعتبار أنّ ترامب سينضج على مر عهده الرئاسي لأن أسس الديمقراطية الأميركية كفيلة بترويضه، فمنذ أن فاز ترامب في الانتخابات الرئاسية في 2016، راح يؤجج تلك الشرارة ويجامل مناصريه ويحرّضهم عبر نشر الأكاذيب والمعلومات المفبركة، حتى أنه شجّع النازيين الجدد في "شارلوتسفيل" ودعم المشككين بفيروس كورونا وطلب من أعضاء الجماعة اليمينية المتطرفة "الفتيان الفخورين" أن يتراجعوا ويتأهبوا، لكن يبدو أنهم ركزوا على طلب التأهب حصراً، وهو الجزء الذي أراد ترامب أن يسمعوه أصلاً.

جاء دور هذه الجماعات يوم الأربعاء الماضي، حين كان يُفترض أن يصادق الكونغرس رسمياً على نتائج الانتخابات الرئاسية التي حصلت في نوفمبر. إنه حدث روتيني ينص عليه الدستور لكن جعله أتباع ترامب يوماً من "التمرد" مع أنه كاد يتحول إلى فتنة حقيقية كما قال الرئيس المُنتخب جو بايدن صراحةً.

نشأت حركة التمرد هذه على جبهتَين، إحداهما في قاعة مجلس النواب، حيث أعلن أتباع ترامب من أمثال تيد كروز معارضتهم للمصادقة على بعض نتائج الانتخابات لاسترضاء قاعدة ترامب، ولم تكن هذه المحاولة تهدف فعلياً إلى الانقلاب على نتائج الانتخابات، فقد همس هؤلاء وراء الأبواب المغلقة أنها مجرّد حيلة سياسية.

اتضحت الجبهة الثانية من حركة التمرد على الطرف الآخر من منتزه "ناشيونال مول"، حيث خاطب ترامب يوم الأربعاء عشرات الآلاف من مناصريه وتذمّر مجدداً من تزوير الانتخابات رغم غياب الأدلة على حصول ذلك، فصدّق أشرس مناصريه هذا الكلام الفارغ بسهولة، وهتف ترامب بكل حماسة: "لن نستسلم أبداً ولن نتنازل أبداً، لن تسترجعوا بلدنا بالضعف مطلقاً! بل يجب أن تثبتوا قوتكم"!

سرعان ما اندمجت الجبهتان في مشهدٍ يعكس أعلى درجات السخافة، فراح مناصرو "الترامبية" يصرخون ويقتحمون مبنى الكابيتول ويلوحون بالأعلام الكونفدرالية، ثم دخلوا إلى طوابق مجلسَي الشيوخ والنواب التي تمّ إخلاؤها على وجه السرعة وخرّبوا المكاتب ونشروا بكل فخر صور سيلفي من مكتب رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي. اضطر الموظفون للذهاب إلى مكان آمن سريعاً، حتى أنهم لم يتمكنوا من إغلاق بريدهم الإلكتروني.

نشر النائب الجمهوري مايك غالاغير، وهو محارب سابق في العراق، فيديو على "تويتر" حين كان يختبئ في مكتبه وقال فيه: "نحن في جمهورية الموز السخيفة بمعنى الكلمة".

لم يشهد مبنى الكابيتول الأميركي هذا النوع من الإقفال التام منذ 11 سبتمبر 2001، فقد بدأت التحذيرات من تفاقم الوضع بهذا الشكل تنتشر منذ أسابيع، وتم التداول بهذه الخطط المرتقبة على شبكات مثل "بارلر" و"تلغرام"، ومع ذلك أصبحت قاعات الديمقراطية الأميركية المقدسة تحت رحمة تلك الجحافل اليمينية. أين وكالة إنفاذ القانون الفدرالية؟ أين الحرس الوطني؟

كان هذا الوضع مختلفاً بالكامل عن أحداث الصيف، حين هاجم الجنود وقوى الأمن المحتجين الداعمين لحركة "حياة السود مهمة" بوحشية خارج بوابات البيت الأبيض، فاستعملوا قنابل الدخان ورذاذ الفلفل والغاز المسيل للدموع في ساحة "لافاييت" لفتح الطريق أمام ترامب كي يقف ويصوّروه وهو يحمل الكتاب المقدس أمام كنيسة.

كان التمرد الذي شهده يوم الأربعاء جزءاً من مظاهر تفوّق البيض رغم تبدّل المعطيات الديمغرافية وفوز الحزب الديمقراطي في الاستحقاقات الانتخابية، كما حصل قبل أيام في ولاية جورجيا. لو كان مثيرو الشغب أميركيين من أصل إفريقي، ما كانوا ليقتربوا من مبنى الكابيتول لهذه الدرجة أصلاً، بل كانوا سيواجهون الغاز المسيل للدموع ويتعرضون للضرب والاعتقال. يوم الثلاثاء الماضي، حاول ترامب مجدداً أن يعتبر حركة "أنتيفا الإرهابية" مصدر التهديد الحقيقي على البلد، فحذر أعضاءها في إحدى تغريداته بالابتعاد عن واشنطن.

عندما احتجّت عشرات النساء ضد ترشيح بريت كافانو للمحكمة العليا عبر تنظيم اعتصامات سلمية في صيف عام 2018، عمدت قوى الأمن إلى تكبيلهنّ فوراً، وحين تظاهرت جاين فوندا ضد السياسات المناخية التي تعتمدها إدارة ترامب في المبنى، ساقتها الشرطة من هناك سريعاً.

لكن يوم الأربعاء الماضي، في ذلك اليوم المخزي من تاريخ الديمقراطية الأميركية، وقف المسؤول الأبيض الأعلى مستوى في الولايات المتحدة على هامش الأحداث لساعات طويلة وشاهد عواقب برنامج الواقع الذي يمثّل فيه أمام عينيه، قبل أن يغرّد لاحقاً بأسلوب فاتر (لا للعنف!) وينشر فيديو من "حديقة الورود" في البيت الأبيض حيث يكرر أفظع كذبة على الإطلاق: "لقد سرقوا منا الانتخابات"!

ثم عاد ترامب ودان التمرد الحاصل، فغرّد قائلاً: "هذا ما يحصل حين يُسرَق انتصار انتخابي مقدس وساحق بطريقة مفاجئة ووحشية من وطنيين عظماء يتم التعامل معهم بأسلوب سيئ وغير منصف منذ وقت طويل، عودوا إلى منازلكم بحب وسلام وتذكروا هذا اليوم إلى الأبد"!

حذف موقع "تويتر" هذه التغريدة سريعاً باعتبارها تُحرّض على العنف، لكنّ فصول الصخب الأميركي لم تنتهِ بعد.

مارك بيتزكي - دير شبيغل

ترامب ومتملقوه عمدوا إلى تأجيج غضب الرجال اليمينيين من أصحاب البشرة البيضاء
back to top