تمسكاً بالدستور.. لن أنتخب

نشر في 30-11-2020
آخر تحديث 30-11-2020 | 00:09
 حسين الغريب الهدف من هذا المقال هو الدعوة إلى التمسك بحق في الدستور هو في منزلة الرأس من الجسد، فكما أنه إذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك الحال إذا ذهب هذا الحق ذهب الدستور، أما الجانب السياسي فليس من ضمن هدف المقال، ولكن يشار إليه، كما يشار إلى الجانب التاريخي، بالقدر اللازم لبيان ذلك الحق الدستوري.

في الدول التي تتخذ من مبدأ سيادة القانون عقيدة وطنية، يشكل الدستور- بوصفه القانون الأساسي- حكما يميز الحق من الباطل في تصرفات رجال الدولة من أعضاء السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتكفي مخالفة دستورية واحدة تقع منهم- مجتمعين أو منفردين- لتضع الدولة على بداية النهاية، فعلى سبيل المثال كان أستاذ القانون الدستوري في جامعة الكويت المرحوم عثمان عبدالملك الصالح يذكر في محاضراته، أن تحويل الخلافة الإسلامية من شورى إلى ملك وراثي، جسدت مخالفة دستورية لقواعد الحكم في الإسلام، تسببت في إخراج الدولة الإسلامية من نور العدل إلى ظلمات الظلم.

وفي كتاب الحكومة الدستورية الأميركية، يؤكد توماس وودرو ويلسون الفقيه الدستوري والرئيس الأميركي الثامن والعشرين (1913- 1921) أن الالتزام بالدستور لا يتحقق بمجرد التقيد بما نص عليه من إجراءات وصلاحيات قبل ممارسة السلطة، وإنما يتحقق بمراعاة مصالح المواطنين وحرياتهم، كهدف رئيس ووحيد يبرر ممارسة السلطة التي خولها الدستور لرجال الدولة.

بعد أيام في الكويت سيمارس المواطنون أحد حقوقهم الدستورية من خلال انتخابات 2020 لاختيار أعضاء مجلس الأمة، وقد انخرط فيها فريق، وقاطعها آخرون، ولئن سألتهم عن أسباب المقاطعة لسمعت مبررات شتى، يبرز من بينها مبرر واحد هو بمثابة عامل مشترك بينهم، وهو اليأس من مكافحة الفساد. ويمكن وصف الفساد بأنه استغلال المسؤول لصلاحياته وسلطاته العامة في سبيل تحقيق مصلحة خاصة، وفي تقديري أن الفساد- ورغم وصوله إلى عظام الدولة حتى أعجزها عن مكافحته- ليس سببا كافيا وافياً لمقاطعة الانتخابات أو المشاركة فيها، ولكن تجاهل السياسيين لحق الكويتيين الدستوري في إدارة شؤون بلادهم، هو ما يبعث على اليأس من جدوى المشاركة في الانتخابات، فالفساد لا يعدو أن يكون أثرا من الآثار الناجمة عن مخالفة نظام الحكم المنصوص عليه في دستور 1962.

فدستور 1962 إنما وضع ليعيد علاقة المشاركة بين الحاكم والمحكوم في إدارة البلاد، إلى ما كانت عليه، منذ صباح الأول إلى ما قبل مبارك الكبير، الذي كان أول من انفرد بالسلطة، كما أن دستور 1962 جاء ليرسخ- كمحاولة ثالثة- ما سعى الكويتيون إلى ترسيخه دون جدوى، في محاولتي العامين 1921 و1938، ففي عام 1921 قدم الكويتيون وثيقة موقعة من مجموعة متنوعة منهم، اشترطوا فيها على الحاكم الجديد الذي سيختاره بيت الحكم، أن يتعهد بالتزام الشورى في قراراته، فشرط لهم ذلك، وتمت المبايعة على هذا الأساس، إلا أن الشرط لم ينفذ، وفي عام 1938، وضع الكويتيون دستوراً مكتوباً باختصار ذيله الحاكم بتوقيعه، أكد من جديد فيه على الحكم المشترك للبلاد، وهو الأمر الذي طبق بالفعل، ولكن لمدة لم تتجاوز نصف عام.

وأما دستور 1962 فقد تضمن تفاصيل أكثر وضمانات أوفر، ويكفي أن نشير إلى أنه عاد التأكيد على الحكم المشترك، فجعل ممارسة الأمير لسلطاته بواسطة وزرائه، الذين يتم اختيارهم حسب تقديره، ولكن بمراعاة نتائج الانتخابات النيابية والتقاليد البرلمانية التي تقضي بأن يكون الوزراء من بين النواب المنتخبين قدر المستطاع، فضلا عن مراعاة الصالح العام، أما رئيس الوزراء فإنه، وإن كان يكلفه الأمير منفردا، إلا أن هذه السلطة مقيدة بما تسفر عنه المشاورات التقليدية، التي يستطلع بموجبها رئيس الدولة وجهة نظر الشخصيات السياسية صاحبة الرأي في البلاد، وفي مقدمتهم رؤساء مجلس الأمة السابقين ورؤساء الوزارات السابقين والجماعات السياسية، الذين يرى رئيس الدولة من المفيد أن يستطلع رأيهم، ومن إليهم من أصحاب الرأي السياسي، وإمعانا في التأكيد على الحكم المشترك، فقد عقد الدستور ولاية الهيمنة على مصالح الدولة، ورسم السياسة العامة لحكومتها، ومتابعة تنفيذها، والإشراف على سير العمل في الإدارات الحكومية فيها، لمجلس الوزراء الذي حرص على أن يكون قرار تعيينه مشتركاً بين الأمير والأمة، على النحو المبين في المواد 55، 56، 57، 123 من الدستور ومذكرته التفسيرية.

إلا أن هذه النصوص لم تنل حظاً من التطبيق، فسلطة الحكم، التي نظمها الدستور، جعلها على الصعيد النظري قسمة بين البيت الحاكم والشعب المحكوم، فانفرد بها الأول دون الأخير، على الصعيد العملي، فليس للكويتيين أي دور أو تأثير في تكليف رئيس الوزراء أو في تأليف الوزارة، فمن ناحية تكليف رئيس الوزراء شغل ولي العهد رئاسة مجلس الوزراء بحكم منصبه، لمدة تزيد على نصف قرن، وذلك بالمخالفة أيضا للدستور، ولما فصلت ولاية العهد عن رئاسة مجلس الوزراء في عام 2003 لأسباب صحية ابتدع عرف آخر مخالف أيضا للدستور، يقضي بتولي أكبر الذكور من القائمين بالأعباء الوزارية من ذرية مبارك منصب رئيس الوزراء، وظل هذا العرف المخالف ساري المفعول حقبة من الزمن. ومن ناحية تأليف الوزارة، فقد هجرت التقاليد البرلمانية المخففة، والمنصوص عليها في الدستور، والتي تقضي بتعيين الوزراء من بين أعضاء مجلس الأمة قدر المستطاع، لصالح عرف مخالف للدستور يقضي بكفاية تعيين وزير واحد فقط من بين أعضاء مجلس الأمة.

وقد ترتب على تجاهل صوت الكويتيين عند تكليف رئيس الوزارة وتأليفها، مخالفة دستورية ذات عواقب وخيمة، فتعيين شخص، بناء على موقعه العائلي وبغض النظر عن افتقاره للمؤهلات العلمية أو الخبرات العملية أو المهارات الشخصية، أو حتى نظافة اليد ليرأس الجهاز الذي يهيمن على مصالح الدولة، ويرسم سياسة حكومتها وينفذها، ويشرف على سير العمل في الإدارات الحكومية فيها، ويضم إليه وزراء يختارون بناء على قواعد مجهولة، لهو أمر يصعب قبول الدفاع عنه بالاستناد إلى الصلاحيات الدستورية، والتي إنما وضعت، لتستخدم في تحقيق مصالح الكويتيين وتحمي حرياتهم، ولا يجوز أن تستخدم لغير ذلك من الأهداف الأخرى. كما يستحيل فرض احترام هذا الاختيار والتوافق عليه إلا من خلال الوقوع في مخالفة دستورية ثانية، هي ترهيب المعارضين وترغيب الموالين، وهو ما حصل بالفعل، بدليل التراجع المستمر لتقييم الكويت في مؤشري حرية التعبير ومكافحة الفساد.

وبالعودة إلى انتخابات مجلس الأمة 2020، فإن مقاطعتها أولى من المشاركة فيها، ذلك أن وعود مرشحيها لا تخرج عن وعدين، الأول مكافحة الفساد، والثاني إنجاز المعاملات، أما وعد مكافحة الفساد، فهو مجرد أقوال بلا أفعال بالنسبة إلى بعضهم، وبالنسبة إلى البعض الآخر فهو وعد لا تصحبه وسيلة الوفاء به، فبالنظر إلى تجارب السنين الماضية، تبين أن الفساد استخدم كسلاح للدفاع عن مخالفة الدستور فيما تضمنه من ضرورة إشراك الكويتيين في قرار تكليف رئيس الحكومة وتأليفها، وليس في يد أصحاب الوعد، سلاح مضاد يبعث على التفاؤل بإمكانية تفوقه على سلاح الفساد، ومع ذلك يقسم المرشح لناخبه بأنه سيكافح الفساد، وهو على يقين من استحالة البر بقسمه، إلا بقدر غير مؤثر، ومن ثم فإنه من غير المجدي التصويت لهذا المرشح.

وأما الوعد الثاني الخاص بالمعاملات، فيكفي أن نقول بأنه نهج أسفر عن ممارسة لبعض المرشحين، يرشون من خلالها، بالمعاملات الشعب المحكوم، ليرتشوا هم بدورهم، حال فوزهم بالعضوية، من الفساد المتحكم، فمرشح المعاملات مجرد طلقة في مسدس الفساد المدافع عن المخالفة الدستورية بإقصاء الكويتيين عن إدارة شؤون بلادهم، وبالتالي فإن التصويت لمرشح المعاملات، هو في الواقع تصويت للإقصاء والفساد معا.

وبناء على ذلك، كانت مقاطعة الانتخابات الحالية أولى من المشاركة فيها، ولا يمكن وصف هذه المقاطعة بأنها موقف سلبي غير منتج، وإنما هي امتناع إيجابي عن إضفاء الشرعية على ممارسة غير دستورية، بل إن المشاركة في الانتخابات، رغم يقين عدم جدواها في مكافحة الفساد أو في استعادة حق الكويتيين الدستوري في المشاركة في إدارة بلادهم، هو الموقف السلبي غير المنتج. وإن في رحابة الحقوق الدستورية الأخرى، مثل حق التعبير عن الرأي وحق تنظيم التجمعات، ما يغني عن ضيق التجربة البرلمانية الحالية المخيبة للآمال، لاسيما إذا كان استعمال الحق، يتسم بالأدب من غير تنازل، وبالاحترام من غير ضعف، فضلا عن الصدق والعلم والعمل.

أما عن كيفية استعمال حق التعبير وحق التجمعات في سبيل استرداد حق الكويتيين الدستوري في المشاركة بإدارة بلادهم، فهذا جانب سياسي يخرج عن هدف هذا المقال، ويدخل في اختصاص أهل السياسة من الأكاديميين والممارسين، ممن يؤمنون بالدستور وكل ما جاء فيه من حقوق.

back to top