مرافعة : إنه لقسم عظيم!

نشر في 17-11-2020
آخر تحديث 17-11-2020 | 00:30
 حسين العبدالله منذ أن عملت في مهنة المتاعب والشقاء القانوني، وهناك ثلاثة مشاهد عاينتها بنفسي بقاعات المحاكم لا تفارق مخيلتي، ورغم ما تحمله من الأسى والألم، لكنها تعبِّر وبحق عن حجم المعاناة وعِظم المسؤولية التي يحملها رجال القضاء على عاتقهم لأداء تلك الأمانة والالتزام بالحياد، وصولاً إلى تحقيق العدالة، التي ينتظرها منهم أفراد المجتمع.

وأول المشاهد تجسَّدت برئاسة المستشار صلاح الفهد لدائرة جنايات محكمة الاستئناف، عندما واجه ضابط المباحث في قضية مقتل مواطن كندي، وبسؤاله عن مصدر تحرياته بأن المتهم هو القاتل وأين السلاح المرتكب في الجريمة؟ قرر الضابط أنه لا يستطيع الكشف عن تحرياته السرية، فخاطبه الفهد: وهل تريدني أن أحكم على إنسان بالسجن المؤبد لأنك لا تريد الإفصاح عن تحرياتك؟ فقضى، رحمه الله، ببراءة المتهم، الذي برر دفاعه بأن أقواله كانت نتيجة الإكراه الواقع عليه من قبل المباحث الذين كانوا ينقلونه إلى تحقيقات النيابة، وقد تأيد هذا الحكم من محكمة التمييز.

بينما المشهد الثاني كان في قضية محاكمة المتهمين فيما يسمى بخلية عريفجان، عندما تم إحضار مجموعة من الشبان المتهمين في القضية، بمعية رجال القوات الخاصة الملثمين، فطلب منهم حينها رئيس الدائرة المستشار هشام عبدالله فك قيودهم والاكتفاء بتواجد حرس القاعات، ووجَّه حديثه للشبان بأنكم أمام محكمة، ولن ينالكم أذى، فبدا بعضهم بإظهار آثار الضرب على جسده، وآخر يعرض آثار كسر إحدى ذراعيه، وقرروا أن الاعترافات التي أدلوا بها أمام النيابة جاءت نتيجة إكراه ووعيد من قبل رجال الأمن الذين يقومون بنقلهم، وقضت المحكمة ببراءتهم، بعدما أجرت التحقيقات معهم بنفسها، وقررت بعدم اطمئنانها لأقوالهم أمام النيابة، وقد تأيد حكم براءتهم لغاية محكمة التمييز.

فيما المشهد الأخير، ما ظهر من رئيس الجنايات في المحكمة الكلية المستشار نايف الداهوم، عندما قام بالنطق بالعديد من الأحكام القضائية بجلسته المعتادة بحق عدد من المتهمين، وكانت أغلبها أحكام بالبراءة لمتهمين محبوسين، وقرر أنه رغم تلقيه نبأ وفاة والده، رحمه الله، قبل بدء هذه الجلسة، لكنه أبى إلا أن يُكملها، ويستمر بعقدها، ويُصدر أحكاماً لمتهمين بين البراءة والإدانة في ميعادها، إعلاءً للحق والعدل، في موقف يملؤه الألم والحزن على فراق والده، وبذات الوقت إحساس بتحمُّل مسؤولية تحقيق العدالة في موعدها، ومن دون تأجيل، رغم المصاب الجلل.

تلك المشاهد وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها تكشف عن وجود قضاة مخلصين في أداء رسالة العدل والحق، ومهما سطرت أحكامهم بمضامين الإدانة أو البراءة، فهي تعبِّر عن معاناة داخلية يمرون بها أساسها المسؤولية والخشية من إيقاع الظلم تجاه من سلموا أموالهم وأنفسهم إلى منصاتهم، ولا يردهم بذلك إلا مخافة الله، وبراً بما أدوه من قسم عظيم.

back to top