الرضا عن الذات على المستوى الاستراتيجي في أوروبا ليس خياراً وارداً

نشر في 16-11-2020
آخر تحديث 16-11-2020 | 00:00
يجب أن يتمثل هدف الاتحاد الأوروبي الكلي الشامل في تعزيز دوره ونفوذه في العالم، حتى يصبح الشريك المفضل لكل دولة وقوة عالمية أخرى، ومن الواضح أن مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية يشكل ضرورة أساسية لتحقيق هذا الطموح، أما الرضا عن الذات على المستوى الاستراتيجي فهو ليس بالخيار الوارد.
 بروجيكت سنديكيت جاء انتخاب جو بايدن لمنصب رئيس الولايات المتحدة ليرفع الآمال في أوروبا لإعادة العلاقات عبر الأطلسية إلى مسارها الصحيح، لكننا لن نجد سبيلا سهلا للعودة إلى الماضي، ففي مواجهة كل هذه التحديات الداخلية والدولية، لن تقدر الولايات المتحدة قيمة العلاقة عبر الأطلسية إلا بقدر ما توفره هذه العلاقة من قيمة فعلية، وأوروبا الأكثر قوة التي تتحمل نصيبا أكبر من المسؤولية العالمية قادرة على ضمان تعظيم قيمة هذه العلاقة.

كثرت الأحاديث عن تحقيق «الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية»، ولكن ماذا يعني ذلك في الممارسة العملية؟ الاستقلالية لا تعني بالضرورة الاستقلال التام أو الانعزال عن بقية العالم، بل تشير إلى قدرة المرء على التفكير بذاته والعمل وفقا لقيمه ومصالحه. يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يحقق هذا النوع من الاستقلالية، في حين يعمل في الوقت ذاته على تعزيز قوة تحالفاتنا والحفاظ على التزاماتنا بالتعددية والانفتاح.

يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات استراتيجية بالغة الخطورة في بيئة اليوم الدولية العدائية، حيث تتصاعد الخصومات الجيوسياسية ومنافسة القوى العظمى، لهذا السبب يتعين على الأوروبيين، كما صرحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ذات يوم بوضوح: «أن نأخذ مصائرنا بأيدينا حقا». ينبغي لنا أن نقف على أقدامنا دون أن ننتظر أن يعيننا أحد على ذلك.

ركز الحوار حول الاستقلالية الاستراتيجية لفترة طويلة على الأمن والدفاع بشكل أساسي، وقد رأى بعض المراقبين في هذه المناقشة محاولة لخلق بدائل للتعاون الدفاعي داخل حلف شمال الأطلسي؛ بل إن آخرين رأوا أنها تعني أن التزام أميركا تجاه أوروبا أصبح موضع شك، وأن انفصالا أعظم ربما يكون آتيا.

ولكن لا شك أن منظمة حلف شمال الأطلسي أدت دورا لا غنى عنه في الأمن الأوروبي، ومن الأهمية بمكان أن تأتي أي محاولة لملاحقة هدف توطيد قدرة أوروبا الأمنية في إطار الحلف، وكما أكد قادة الولايات المتحدة المتعاقبون، فإن أوروبا تحتاج إلى زيادة مساهماتها في الدفاع، لدرء تصور مفاده أن أميركا وحدها هي التي تتحمل تكاليف الأمن عبر الأطلسي، ورغم أن إدارة بايدن ستحدث تغييرا في نبرة الحوار وتستعين بنهج أقل ميلا إلى المواجهة، في ما يتصل بمسألة الإنفاق الدفاعي، فإنها تتوقع ذات الشيء من جانب أوروبا كمثل الإدارات التي سبقتها، ولن تتغير مصالح أميركا الجيوسياسية الأساسية.

ما يدعو إلى التفاؤل أن الاتحاد الأوروبي يعمل بالفعل على عدة مسارات لتعزيز الشراكة عبر الأطلسي، ففي إطار جهود التعاون المنظم الدائم، يساعد أعضاء حلف شمال الأطلسي الأوروبيون في سد الفجوات في قدرات الحلف، ويعملون نحو الوفاء بالتزاماتهم بإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2024. على القدر ذاته من الأهمية، يمثل إنشاء صندوق دفاعي أوروبي جديد خطوة مهمة نحو تحسين قدرات الصناعة العسكرية في أوروبا.

لكن التحديات الأمنية في أوروبا تتجاوز مسؤوليات حلف شمال الأطلسي التقليدية، فمن منطقة الساحل وليبيا إلى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، تتكاثر الأزمات التي تتطلب استجابة أوروبية قوية، وتتخلص مهمة الاتحاد الأوروبي في تحديد موقف مشترك يمكنه من خلاله العمل لصالح الحفاظ على الاستقرار الإقليمي.

لتحقيق النجاح، يتعين على أوروبا أن تعمل على تطوير إطار خاص لرصد وتحليل التهديدات، حتى يتسنى لها أن تنتقل بسرعة من تقييم التهديدات إلى العمل الإجرائي والاستجابة، ولهذا السبب نعكف الآن على تطوير بوصلة استراتيجية.

من الأهمية بمكان أن تمتد مناقشة الاستقلالية الاستراتيجية إلى ما هو أبعد من قضايا الدفاع والأمن، وكما أظهرت أزمة جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد19)، فإن قضايا مثل الصحة العامة والاتكالية الاقتصادية المتبادلة لا تقل أهمية.

تُـعَـد الاستقلالية الاستراتيجية الإطار المفاهيمي الذي تحتاج إليه أوروبا لفهم هذه القضايا وتحديد كيفية ارتباطها ببعضها، وبالنظر إليها بشكل منفصل، لا تعتبر أقنعة الوجه والأدوية منتجات استراتيجية، لكن الحسابات الاستراتيجية تتغير عندما يتركز إنتاج مثل هذه البنود في بضع دول فقط. ينطبق الأمر ذاته على الاستعانة بمصادر خارجية للحصول على المعادن النادرة، وإدارة وسائط التواصل الاجتماعي وغير ذلك من المنصات الرقمية، والتكنولوجيات مثل الجيل الخامس من الاتصالات.

لمساعدة البلدان الأعضاء في التعامل مع هذه القضايا وأخرى كثيرة غيرها، اقترحت المفوضية الأوروبية سلسلة من الأدوات الجديدة، مثل الآلية التي دخلت حيز التنفيذ الشهر الماضي لفحص الاستثمارات الأجنبية في الاتحاد الأوروبي، لكن تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية يتطلب أيضا الاستفادة بشكل كبير من قوة السوق الأوروبية الموحدة، وتقدم السوق الموحدة، بحجمها الكبير ونطاقها الواسع، العديد من الأدوات لحماية المصالح الأوروبية في ما يتصل بالبنية الأساسية الحيوية، والاستثمار الأجنبي، وإعانات الدعم الحكومية (التي يستفيد منها بعض المستثمرين الأجانب بعينهم)، أو الصادرات ذات الاستخدام المزدوج (العسكري والتجاري).

على سبيل المثال، أصبحنا ندرك على نحو متزايد نقاط الضعف التي ترجع إلى علاقة اقتصادية غير متوازنة على نحو متزايد مع الصين، ولهذا جعلنا التبادلية هدفا أساسيا في مفاوضاتنا بشأن اتفاقية استثمارية. لا ترى أوروبا مشكلة في عملية تنمية الصين والفوائد التي عادت منها على مواطنيها، لكننا لا نستطيع أن نسمح بحدوث توسع الصين دوليا على حساب مصالحنا وقيمنا، ولهذا السبب، اتفقنا على نهج مزدوج يتمثل في التعامل مع الصين على أنها شريك مهم، لكنها أيضا خصم منافس وجهازي.

يجب أن يتمثل هدف الاتحاد الأوروبي الكلي الشامل في تعزيز دوره ونفوذه في العالم، حتى يصبح الشريك المفضل لكل دولة وقوة عالمية أخرى، ومن الواضح أن مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية يشكل ضرورة أساسية لتحقيق هذا الطموح، أما الرضا عن الذات على المستوى الاستراتيجي فهو ليس بالخيار الوارد.

*جوزيب بوريل

* الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، ونائب رئيس المفوضية الأوروبية.

back to top