«زائر دولي» في رحاب استراتيجية إعلام القوة الناعمة

رحلة استثنائية لـ 22 صحافياً من حول العالم لمعايشة التجربة الأميركية في الصحافة وحريتها

نشر في 27-10-2020
آخر تحديث 27-10-2020 | 00:02
أن تعود الى زيارة الولايات المتحدة الأميركية وأنت ضمن وفد من جميع دول العالم ليس كزيارتها عائليا أو سائحا، حيث إنها تجربة بطعم مختلف.

كنت من المحظوظين في اختيار وزارة الخارجية الأميركية لزيارة الولايات المتحدة ضمن برنامج «الزائر الدولي القيادي» لعام 2020.

هذا البرنامج هو إحدى استراتيجيات الذكاء الإعلامي الأميركي، حيث تدعو وزارة الخارجية الأميركية، من خلاله، عددا من القيادات الشابة من الإعلاميين والسياسيين والاقتصاديين سنويا لزيارة الولايات المتحدة الأميركية، والاطلاع على تجربتها في الاختصاص الذي يكون فيه، وهو من وجهة نظري من ضمن استراتيجية إعلام القوة الناعمة التي تستخدمها.

وهو برنامج ترعاه «الخارجية» وبدأت في تطبيقه عام 1940 ودعت اليه، حتى الآن، أكثر من 5 آلاف شخص من كل دول العالم، لعل أشهرهم في العالم العربي كان الرئيس المصري الأسبق أنور السادات عام 1968، والقائمة طويلة جدا وزاخرة بالشخصيات التي تقلدت مناصب عليا بين الرئاسة ورئاسة الوزراء والوزارات.

وجهت وزارة الخارجية الأميركية الدعوة لي للانضمام الى مجموعة من 22 صحافيا حول العالم، وقد أجّلت الدعوة في العام الماضي بسبب أحداث غريبة، لتكون في هذا العام المميز (2020)، ولتحفر معها ذكريات وأحداثا جمعت بين الطرافة والغرابة.

22 صحافية وصحافيا حول العالم من مختلف الدول بأفكار وثقافات متعددة هي تجربة ثرية في حدّ ذاتها، وكذلك التنقل بين 4 ولايات على مدى 3 أسابيع، للاطلاع على التجربة الأميركية في الصحافة وحرية الصحافة وآليات إدارة الصحف وغرف الأخبار... وسأحاول سرد جزء من هذه الرحلة الاستثنائية.

في واشنطن

بدأت الرحلة في العاصمة الأميركية واشنطن، واستهلت بزيارة الى مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل في وزارة الخارجية، حيث تم الاطلاع على تجربة المكتب الذي أنشئ عام 1977 وكيفية تحرير التقارير وإعدادها ورصدها من المنظمات الدولية والإقليمية لتعزيز الديمقراطية في جميع أنحاء العالم.

ثاني المحطات كانت مركز الصحافيين العالمي، وهذا المركز يختزن جزءا مني أنا شخصيا، حيث التقيت العديد من الأصدقاء والأساتذة الذين تعلمت على يدهم طوال 7 أشهر حول الصحافة الإلكترونية وتطوراتها، وكانت فرصة ممتازة للالتقاء بهم مجددا ضمن وفد صحافي من جميع دول العالم والحديث عن المركز وخدماته للصحافيين.

أما ثالثة المحطات فكانت "واشنطن بوست"، رغم أنها لم تكن مدرجة من ضمن الجدول المقرر للزيارة الرسمية، لكنّها كانت بترتيب من إحدى الصديقات، وهي تجربة أقل ما يمكن أن أصفها به أنها التجربة الاستثنائية والثرية جدا، وخاصة مع الصحافي سكوت هيغهام الحائز على جائزة بولترز في الصحافة، وأحد أهم صحافيي العالم في التحقيقات الصحافية، فضلا عن الاطلاع عن قرب على عمل "واشنطن بوست"، والالتقاء بأكثر من 200 صحافي يعملون في هذا المقر.

ولاية بوسطن

الى ولاية بوسطن كانت الوجهة، وبالتحديد في ماساتشوستس، حيث تضم أكبر المدن الجامعية وأعرق الجامعات على مستوى العالم، ومنها جامعة هارفارد التي كنّا على موعد مع "منحة نيمان للصحافيين"، وهي فرصة ذهبية واستثنائية لأي صحافي يتم اختياره للإقامة في "هارفارد"، والحصول على منحة تعليمية حول الصحافة لمدة سنة كاملة.

وتضمن البرنامج أيضا زيارة جامعة ماساتشوستس، وبالتحديد "مركز MIT لوسائل الإعلام المدنية"، الذي يرأسه البرفيسور إيثان زوكرمان، وامتدت النقاشات معه لساعات حول رؤيته الخاصة في الإعلام الإلكتروني، وهو صاحب الخبرة في هذا المجال، لكونه أحد المؤسسين في إحدى صفحات الإنترنت في التسعينيات، فجاءت النقاشات معه ثرية حول مستقبل الصحافة الالكترونية.

كما كانت لنا زيارة الى تلفزيون وراديو بوسطن، والالتقاء بكل من فيليب مارتن وشون كوركران، وكان الحديث معهما شيقا حول الجمهور الحالي وتوجهاته إزاء الراديو بالتحديد وطريقة المحتوى الإخباري الجديد الذي يتم اتباعه هناك.

وفي بلدة بيما، كان اللقاء مع الشريف (الضابط القانوني للبلدة) مارك نابير، الذي شدتني جملة قالها ومفادها "أحاول الحرص دائما على فعل ما تحتاج إليه هذه البلدة لتكون في أمان، فالنجوم التي على كتفي ستختفي يوما ما، وسأكون مواطنا عاديا يومها، وسألتمس ما أحدثته في عملي من تطورات في حياة الناس".

المقارنة الكريهة

في رحاب «استراتيجية إعلام القوة الناعمة»، كان للجولة في نفسي كثير من الدروس والعبر، وكانت التجربة الكبرى محطة لمقارنة لا فكاك منها، بين الصحافة عندهم والصحافة عندنا من دون الانتقاص من كفاءة إعلاميين كُثر في صحافتنا المحلية، لأن التعميم لغة الجهلاء، فلا يمكن أن نعمم، ولا أريد هنا في هذه المقارنة سوى أن نشد على أيدي بعضنا في الكشف عن مواضع الخلل في مهنتنا، وأن نسعى الى تطويرها والنهوض بها، لإيماني بأهمية ما نقدّمه لمجتمعنا، وأهمية أن نناضل ليكون قلمنا دائما حرّا، وكما قال جوزيف غوبلز (وزير الدعاية السياسية الخاص بهتلر): «أعطني إعلاما بلا ضمير، أعطيك شعبا بلا وعي».

من المؤكد أن الكثيرين قد سبقوني الى مثل هذه المقارنة التي تدفعنا، نحن أبناء المهنة، الى التساؤل - بعد زفرة يأس طبعا -: هل صحافتنا حالة ميؤوس منها؟ أم أن العلة تكمن فينا نحن أبناء المهنة؟ أم أنها مثل سائر مشكلاتنا الأخرى التي أصبحت في نظر الكثيرين مستعصية؟

دور الصحافي «هناك» هو أن يحاسب أي جهة حكومية أو خاصة حال إلحاقها الضرر بالناس، وله مطلق الحرية في الكشف عن قضايا الفساد، طالما أنه يدرك تماما كيف يستخدم أدواته الصحافية بالوثائق والبراهين، وليس على الصحافي أن يغضّ البصر عن أي ضرر يلحق الأذى بالناس، حتى وإن كان وراء هذا الضرر مسؤول كبير يحتمي باسم عائلته أو منصبه، فالكراسي تذهب ويبقى «الشعب والوطن».

علاقة الصحافي «هناك» مع المسؤولين الحكوميين مليئة بالحذر والندية، أو بالأدق هي علاقة «الصديق/ العدو»، فيلتقيان عند مصالح الناس ويفترقان عند أي فساد. وتوثق السينما الأميركية العديد من القصص الكلاسيكية في كشف الفساد على مستويات عدة، حيث تناولت فضيحة «ووترغيت» مرتين حتى الآن منذ سبعينيات القرن الماضي، مع فيلم «كل رجال الرئيس»، ومن جديد في فيلم «ذا بوست» للرائعة ميريل ستريب، والذي جسّد كيف آمنت صحيفة واشنطن بوست بصحافيَين في مقتبل عمريهما، حيث كشفا عن فضيحة كانت ستؤدي قبل نشرها الى إدانة غير مسبوقة لرئيس أميركي، وعند نشرها أجبرت الرئيس ريتشارد نيكسون على الاستقالة من منصبه، بعد كشف صلته بعملية اقتحام مقر الحزب الديمقراطي.

وامتد مسلسل هز أركان الفساد الى مؤسسات عصية على النقد، وتتمتع بسلطة روحية مع فيلم «سبوت لايت»، المأخوذ عن تحقيق استقصائي قامت به صحيفة «بوسطن غلوب» عام 2002 حول الاعتداءات الجنسية على الأطفال داخل الكنائس والأبرشيات الكاثوليكية في الولايات المتحدة، ونالت عنه جائزة بوليتزر عام 2003.

ذلك لا يعني أن صحافتهم منزهة عن أي خطأ، بيد أن لديهم الكثير من ايجابيات يمكن اقتباسها لتطوير صحافتنا التي يريد البعض حصرها في إطار التقيد بالبيانات الرسمية، وأن يكون الصحافي «مطيعا» فلا يتطرق الى الحديث عن أي فساد أو انتقاد أي تجاوزات.

ثمة الكثير ليقال في هذا المجال، ولا يمكن الركون الى بعض الوهن في صحافتنا، ولا بدّ من مقاربة للواقع من شأنها أن تعيد لـ «صاحبة الجلالة» هيبتها.

جهود مشكورة
شكرا لكل طاقم السفارة الأميركية في الكويت و«الخارجية» الأميركية، وشكرا بحجم السماء لكل مرافقينا ومرشدينا في الرحلة الذين بذلوا جهدا كبيرا لتوفير الراحة والتنسيق لكل الزيارات، وهم: فاروق أنواري، ونتاليا فريدا، وبرايون جونسون وأورسولا ولكو.

«جار البيت الأبيض» والعداء لترامب
أمام البيت الأبيض، وعلى بعد عشرات الأمتار، يجلس المشرد فيليبوس ميلاكو في خيمته الصغيرة، وهو يضع لافتات تحمل رسوما تعبيرية مسيئة للرئيس الأميركي ترامب وضد سياساته، ما إن تقترب منه حتى تجده يكيل أبشع الألفاظ ضد الرئيس، ويصر على ألا تمنحه دولارا واحدا دون أن تشتري منه أي منشور ضد ترامب.

العنصرية حيال العرب
لا أريد أن أرسم عالما مثاليا هناك، فعلى قدر تجربتي التي تم إعداها على أعلى مستوى، سردت القصص، ولكن من الواضح أن العنصرية تجاه العرب لا تزال موجودة هناك في الولايات المتحدة، موقف حدث معنا في اليوم الأخير تعرّضنا له وهو يكشف أن العنصرية لا تزال موجودة حين كنا نطلب قهوة في الفندق الفخم، وكان النادل لطيفا، لكن ما إن تلقينا اتصالا هاتفيا وتحدثنا بـ «العربية» حتى تغيّر أسلوبه في التعامل معنا، ليتحول الى أسلوب فظ، وسط دهشة الزملاء والزميلات!

*رئيسة تحرير جريدة برواز الإلكترونية

www.berwaz.com.kw

زيارة «واشنطن بوست» تجربة غير عادية... ولقاء الصحافي سكوت هيغهام ثريّ جداً

في جامعة ماساتشوستس التقينا البروفيسور إيثان زوكرمان وناقشناه حول رؤيته في الإعلام الإلكتروني

شدتني جملة مؤثرة قالها شريف بلدة بيما وهي أن «المنصب يزول وتبقى نتائج ما أحدثه في حياة الناس»

مقارنة صحافتنا بنظيرتها الأميركية تثير تساؤلات لاستعادة «صاحبة الجلالة» مكانتها
back to top