الإنسان العربي بين الأزمة والثقافة

نشر في 15-10-2020
آخر تحديث 15-10-2020 | 00:18
 محمد المقاطع حِرتُ كثيراً وأنا أحاول تشخيص الوضع العام الذي آلت إليه حال العالم العربي، وتحديداً إنسانه العربي، فقد ترددت كثيراً في أن أجعل عنوان مقالي "أزمة الإنسان العربي"، لكوني أدرك أن حقيقة الأمر ليست نابعة من "أزمة الإنسان العربي"، بل جوهرها مرتبط بـ "نشأة وثقافة" الإنسان العربي.

نعم هو يعيش أزمة حادة وغير مسبوقة، أزمة جعلته إنساناً متناقضاً يتردد في كل أمر وعند كل قرار، فقد جرّد من كل قيم الثقة والحريّة والأنفاس الزكية، إذ إن أزمته في كنهها أزمة "خارجية" أتته من عوامل وظروف خارجية، وليست أزمة "داخلية" نابعة من ذاته أو من شخصيته، مصدرها "أنظمة فاسدة" وجد نفسه يعيش في كنفها، أنظمة تنكرت لأصالتها، وأسرت نفسها للآخرين، "أنظمة" أو "أشخاصاً"؛ أنظمة ظنت أن انسلاخها عن هويتها العربية والإسلامية هو الذي سيكسبها مكانة واحتراماً، فتنكّرت لأصالتها وانقادت وراء أوهام وترّهات، فضلّت معها سواء السبيل.

فقد التمست هذه الأنظمة، وهي تعيش هزيمة نفسية وحالة انكسار حضاري، أن يكون سبب نكستها في "الدين"، وتحديداً في "الإسلام"، فكان تفكيرها البديل وسط حالة الهزيمة النفسية والانكسار الحضاري، أن تعلن عن حالة انفصام ونكد بينها وبين الدين (الإسلام)، حتى تسير بموكب تقليد أعمى للغرب، اعتقاداً منها أن ذاك المسلك هو الذي شكّل "حضارة الغرب" ومنحه ذلك التقدم والنقلة النوعية في تطوره الحضاري والفكري والثقافي، والذي صنع منه "حضارته الراهنة"، ألا وهو وهْم انفصام الدين عن الدولة، أو بمعنى آخر "علمانية الدولة" لعزل الدين عن الحياة المتكاملة للأمم باقتصادها وأنظمتها وسياستها وتربيتها وثقافتها.

وهكذا تسلّل أو أقحم مفهوم دخيل "عليها"، أطلقه صراع كنَسي ارتبط باضطهاد الناس وإذلالهم في سياق مواجهة وجهها الآخر، وهو أيضاً كنسي وديني، لكنّه غلّف بثوب ادُّعي في ارتدائه أنه متحلل من الدين (علماني)، وهو عكس ذلك تماماً، فلم يتخلّ الغرب، لا شعوباً ولا أنظمة ولا وثائق ولا ممارسة، عن بنائه الديني الكنسي، وظهرت تبعاً لذلك مقولتهم المغلفة "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، لتشيّد فكرة فصل الدين عن الدولة، باعتبارها الركن الذي ليس للدولة من وجود بدونه، للتبشير بـ "نظرية علمانية الدولة" في الغرب.

ويتم التسليم بصحة هذه النظرية وصوابها، رغم أن الحقيقة بالأدلة والبراهين الوثائقية والعملية والواقعية تبرهن على أن الدولة الغربية اليوم شديدة الارتباط بالدِّين، بل إن مدوناتهم الأساسية بالدساتير والمواثيق والسوابق والممارسات تؤكد متانة وشائج الدين بالنسبة للدولة الغربية المعاصرة، (فالقسم عند تولّي المسؤولية، ومرجعية رأس الدولة، وتبادل السفراء، ونظام الانتخاب، ومواثيق الحقوق وفكرة الأغلبية، وإجراءات التقاضي، وقسَم القضاة والعزل، وغيرها، جميعها مصدرها الأول ولا يزال كنسياً)، وأن شعار علمانية الدولة هو إطار نظري تدحضه حال هذه الدول ومدوناتها وممارساتها، وما ذكرت بعجالة مسألة تؤكدها وثائقهم.

والمؤسف أننا بلعنا طُعم الغرب لنا أمام حالة الهزيمة النفسية والانكسار الحضاري، فلم نتمكن من إدراك ذلك لنحقق توازناً وثقة ذاتية، وكان بديله انسلاخنا عن هويتنا وتخلّينا عن أصالتنا، فتولّدت أو قل "وُلدت" لدينا "أنظمة" و"شخصية" أعلنت انفصامها عن هويتها، فتاهت في لافتات وهويات لا تمتّ لها بِصلة، فصارت غريبة في ديارها، وفرضت على مجتمعاتها اغتراباً ووحشة من خلال ذلك الانفصام، وظهرت لدينا أنظمة "تقدمية" أو "اشتراكية" أو "بعثية" أو "إقليمية" أو "وحدوية" أو "ثورية"، أو أي مسمى آخر غايته "علمانية".

غاية ما في الأمر هو التنكر والانسلاخ عن الهوية، واعتبارها علّة تخلّفنا وتراجعنا وتفوّق "الغرب" علينا في سياق حالة الهزيمة النفسية والانكسار الحضاري، وقادنا ذلك إلى الإفلاس من الأمرين، فلم نحفظ أصالتنا وهويتنا، ولم نبلغ ما وصل إليه "الغرب" من تقدّم وازدهار. ذلكم أن أزمة ضياع الهوية هي حقيقة أزمة الإنسان العربي، بل الأنظمة العربية.

back to top