العيش بما يكفي لتصبح شريراً... قضية أبو محمد المقدسي

نشر في 09-10-2020
آخر تحديث 09-10-2020 | 00:02
أبو محمد المقدسي
أبو محمد المقدسي
يواصل نفوذ المقدسي التقلص بسبب انكفاء الإجماع في أوساط الحركة الجهادية الأوسع على مدار خمسة عشر عاماً الماضية، ورغم أن أحداً لم يطغَ على نفوذ المقدسي على الأرجح، فإنه لم يعد من المنطقي بعد الآن القول إن المقدسي هو أهم منظّر جهادي في العالم اليوم حين يعارضه اثنان من ثلاثة أقطاب جهادية.
أصبح من الشائع في حقل الدراسات الجهادية وصف أبو محمد المقدسي (اسمه الحقيقي عصام بن محمد بن طاهر البرقاوي) بأنه أهم منظّر جهادي لا يزال على قيد الحياة، ويعزى ذلك جزئياً إلى دراسة كتبها ويل ماكانتس في عام 2006 أشار فيها إلى أن المقدسي هو أكثر المنظّرين الجهاديين الأحياء الذي يتم ذكره في المؤلفات الجهادية الرئيسة. وفي ذلك الوقت، ومن نواح كثيرة، كان تنظيم «القاعدة» أيضاً الرائد الأحادي القطب للعالم الجهادي.

ومنذ ذلك الحين، أدّت التصدعات في أساس الدور الريادي لهذا التنظيم إلى خلق رؤى بديلة لمستقبل الحركة الجهادية، وكان أبرزها مثال تنظيم «الدولة الإسلامية»، ولكن مثالاً آخر هو «هيئة تحرير الشام» (الهيئة)، وفي محاولتها لتعزيز شرعيتها ابتعدت هذه التيارات المختلفة عن المقدسي، حتى أنها سخرت منه، وتُعتبر قصة مشاكل المقدسي مع زعيم سلف تنظيم «الدولة الإسلامية»، أبو مصعب الزرقاوي، وقصة تلاعب «داعش» معه خلال مفاوضات مزيفة حول الطيار الأردني معاذ الكساسبة، منحى شائعا في هذه المرحلة، لكن الاتهامات المتبادلة مؤخراً بين المقدسي و«هيئة تحرير الشام» تستحق أيضاً النظر فيها، لأنها تشير إلى تغيير في اللهجة.

وعلى الرغم من حصول جدالات محتدمة بين المقدسي و«هيئة تحرير الشام» حول قرارات الابتعاد عن تنظيم «القاعدة» ومزاعم «هيئة تحرير الشام» بـ«تشويه» أيديولوجيتها، تشير هذه الجولة الأخيرة من الجدل إلى حلقة محطمة أخرى داخل الحركة الجهادية وترسّخ بشكل أكبر عدم صحة الادعاء بأن «هيئة تحرير الشام» هي نوع من الواجهة لتنظيم «القاعدة» تماماً كالقول بأن تنظيم «الدولة الإسلامية» كان لا يزال فرعاً من تنظيم «القاعدة» في عام 2013.

تأسس تنظيم «حراس الدين» في فبراير 2018 كفرع رسمي لتنظيم «القاعدة» في سورية، بعد أن نأت «هيئة تحرير الشام» نفسها علناً عن المنظمة الأم، وفي وقت لاحق، في أكتوبر 2018، أسس «حراس الدين» غرفة عمليات «وحرّض المؤمنين» بالاشتراك مع جماعتين أصغر حجماً متحالفتين مع «القاعدة»، هما «جبهة أنصار الدين» و«جماعة أنصار الإسلام». وتم السماح لـ«حراس الدين» وغرفة العمليات بالعمل تلبية لأمر «هيئة تحرير الشام» وتلقي الطعام والذخيرة من «الهيئة»، لذلك، كما أشرتُ في سبتمبر 2019، «إذا أراد «حراس الدين» زيادة قوته، فقد تحاول «هيئة تحرير الشام» قمعه واعتقال قادته من أجل الحفاظ على قاعدة القوة الخاصة بها، وبهذا المعنى فإن إمكانات النمو المحلي لتنظيم «حراس الدين» محدودة إلى حد ما».

ومن نواحٍ عديدة، هذا ما حصل فعلاً، ففي 12 يونيو 2020، أسس «حراس الدين» إلى جانب شريكيه في غرفة العمليات، غرفة عمليات جديدة حملت اسم «فاثبتوا» التي شملت أيضاً جماعتي «تنسيقية الجهاد» و«لواء المقاتلين الأنصار»، وكان زعيما هاتين الجماعتين الأخيرتين، أبو العبد أشداء وأبو مالك التلي، على التوالي، قد اختلفا مع «هيئة تحرير الشام» حول مسار الجهاد والعلاقات مع تركيا وقضايا الفساد. وعلى نحو مماثل، وقبل صدور هذا الإعلان، حوّل زعيم «كتيبة التوحيد والجهاد» أبو صلاح الأوزبكي ولاءه من «هيئة تحرير الشام» إلى «جبهة أنصار الدين»، مما أضاف قوة أخرى إلى هذا التكتل الجهادي البديل.

ونتيجة لهذه التحالفات المتغيّرة ودعم الجهاد البديل بقيادة «حراس الدين»، اعتقلت «هيئة تحرير الشام» الأوزبكي في 17 يونيو والتلي في 22 يونيو، وقد أدى ذلك إلى قيام غرفة عمليات «فاثبتوا» الجديدة بـ تحذير «هيئة تحرير الشام» بأنها قد «تتحمل العواقب» إذا لم تطلق سراحهما أو ستخضع نفسها لمحكمة دينية.

من جهتها، زعمت «الهيئة» بأثر رجعي في منشور صادر عن «لجنة المتابعة والإشراف العليا» التابعة لها، أنه يتعيّن على العناصر الحصول على موافقتها إما لترك الجماعة أو الانضمام إلى جماعات أخرى، وتوقعاً لسياسة كان سيتمّ الإعلان عنها في بيان بعد أيام من ذلك التاريخ، أرادت «هيئة تحرير الشام» أن تظهر أنها لن تسمح للآخرين باحتكار العنف في الأراضي التي تسيطر عليها. وقد أدت الاعتقالات وانعدام الشفافية في هذا الخصوص إلى وقوع اقتتال داخلي بين الفصيلين في قرى عرب سعيد والحمامة واليعقوبية والجديدة وأرمناز وكوكو والشيخ بحر خلال الأيام القليلة التالية، إلى حين التوسط للاتفاق على هدنة بسبب تفوق «هيئة تحرير الشام» على «حراس الدين» وحلفائه.

وقد دفع ذلك «هيئة تحرير الشام» إلى الإعلان في 26 يونيو بأن الجهود العسكرية الوحيدة التي يمكن بذلها ستكون عن طريقها أو من خلال غرفة عملياتها العسكرية «الفتح المبين»، وبالتالي حظرت أي جهود أخرى خارج هذه البنية الأساسية على غرار «حراس الدين» وغرفة عملياته. ونتيجةً لذلك، أغلقت «هيئة تحرير الشام» القواعد العسكرية التابعة لتنظيم «حراس الدين»، ومنذ ذلك الحين، لم يعمل التنظيم أو غرفة عملياته «فاثبتوا» بشكل علني، مما أحبط قدرة تنظيم «القاعدة» على العودة إلى طليعة التمرد في سورية (على الأقل في الوقت الحالي).

ردود أبو محمد المقدسي

بعد يومين، رد المقدسي على هذه الأحداث، وفي مقال على الإنترنت وصف فئتين من الجماعات التي يعتبر أنها تعمل ضد مصالح الجهاديين الحقيقيين في شمال غرب سورية: جماعات عميلة علنية وسرية، فالجماعة الأولى هي التي تحظى بدعم تركي مباشر على غرار «الجيش الوطني السوري» أو«الجبهة الوطنية للتحرير»، التي تعمل في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا والتي انتُزعت من «قوات سورية الديمقراطية» المدعومة من الأكراد في أجزاء من شمال غرب وشمال شرق سورية، أما الجماعات الثانية فهي نقطة مرجعية ضمنية لـ«هيئة تحرير الشام» التي يعتبرها المقدسي أكثر خطورة لأنها تدّعي أنها جماعة جهادية، ولكنها في الحقيقة تساعد تركيا في تحقيق أهدافها في المنطقة.

ويسلّط المقدسي، على وجه الخصوص، الضوء على كيفية توفير «هيئة تحرير الشام» الحماية للدوريات التركية ومنع الجهاديين الحقيقيين من استهداف الروس عندما تقوم روسيا بتسيير دوريات مشتركة مع تركيا. علاوةً على ذلك، يلمّح المقدسي إلى الاقتتال الداخلي وتَفكُك «هيئة تحرير الشام» وغرفة عمليات «فاثبتوا» المذكورين أعلاه من خلال الإشارة إلى أن هذه «الفصائل التي يتمّ التلاعب بها قتلت جهاد الشام، وفككته، وأخضعته للأتراك العلمانيين».

ورداً على ذلك، يقترح المقدسي طريقتين محتملتين لتخطي هذه الاعتداءات على الجهاديين الشرعيين، حيث تنطوي الأولى على اجتثاث جماعات العملاء العلنية وإصلاح جماعات العملاء السرية من خلال جعل الأفراد الأكثر ولاء فيها ينشقون عنها، ومن ثم استبدال قادتها وتجاوزهم ببطء.

وبطبيعة الحال، إن القول أسهل من الفعل في هذه الحالة، وبالتالي، ينصح المقدسي الجهاديين الحقيقيين باتباع مسار العمل الثاني المحتمل، المتمثل بالانشقاق وانتظار الفرصة المناسبة للعودة، ومن المنطقي اعتبار التشكيلات الجديدة والأكثر سرية مثل «كتائب خطّاب الشيشاني» (التي أعلنت عن نفسها في منتصف يوليو) وسرية «أنصار أبو بكر الصديق» (التي أعلنت عن نفسها في أواخر أغسطس) أمثلة واضحة على ذلك.

«هيئة تحرير الشام» تتنكر للمقدسي

بعد شهرين، في 21 أغسطس، تجدد العداء بين المقدسي و«هيئة تحرير الشام» عندما نشر المقدسي منشوراً على «قناة تلغرام» الخاصة به كتبه أحد أنصار تنظيم «القاعدة» باسم «يا سارية الجبل»، وكرر المنشور ادعاءات وتأكيدات حول تعاملات سرية بين «هيئة تحرير الشام» والاستخبارات التركية، وقد دار الجزء الأكثر إثارة للجدل حول كيفية تسبب هذه الإجراءات المزعومة بابتعاد «الهيئة» فعلياً عن الإيمان: «كل من يعلم بشأن نواقض الإسلام وعلى دراية بهذه التفاصيل [المتعلقة بالإجراءات التي يزعم أن «هيئة تحرير الشام» اتخذتها بالتعاون مع تركيا]، سيلاحظ بعد التدقيق فيها أن قيادة «هيئة تحرير الشام» تقترب يوماً بعد يوم من الكفر وتبتعد أكثر فأكثر عن الإيمان»، وهكذا فسّر أعضاء ومناصرو «هيئة تحرير الشام» مشاركة المقدسي لهذا المنشور بأنها بمثابة تكفير «الهيئة».

وردّ كبار منظري «هيئة تحرير الشام» الدكتور مظهر الويس في ذلك اليوم على هذا المنشور عبر موقع «تويتر»، وأعادت نشره الوسيلة الإعلامية غير الرسمية الداعمة لـ«هيئة تحرير الشام»، «البيّنة»، تحت عنوان «بعد اتهامه بإضعاف الجهاد والانحراف عنه وتسفيهه [في سورية]، يكفر المقدسي الآن بـ«هيئة تحرير الشام»».

وكتب الويس أن اتهامات المقدسي الكاذبة ضد «الهيئة» لا تختلف اليوم عن تلك التي وجهها تنظيم «الدولة الإسلامية» ضد الجماعات الجهادية في سورية قبل بضع سنوات، وبالتالي فهو «شيخ الخوارج»، وسيكون تلميح الويس بأن الحساب الذي شاركه المقدسي كان في الواقع حساباً أنشأه بنفسه في محاولة لتعظيم الرسالة مع الظهور بأنه ليس هو من قالها، أسوأ وأكثر إحراجاً ربما بحق المقدسي إذا كان ذلك صحيحاً، فالتهمة ليست غير محتملة لأن المقدسي كان معروفاً من قبل بكتابة محتوى بأسماء مستعارة.

وفي اليوم التالي، نشرت «البيّنة» مقالة كانت بمثابة حملة مباغتة كاملة على المقدسي ازدرى فيها الويس به وكانت بعنوان «توحيد البرقاوية»، في إشارة إلى الاسم الحقيقي للمقدسي وكوسيلة لتجريده من شرعيته الفخرية.

وفي هذه المقالة، وجه الويس انتقادات للمقدسي بسبب نسخته الخاصة من التوحيد التي يستخدمها لمهاجمة معارضيه وتشويه سمعتهم، ويذكر الويس أيضاً أن المقدسي ليس غير ملم بأمور الشريعة وحدود تعاليمها المتعلقة بالتكفير فقط، بل يجهل أيضاً ما يجري على أرض الواقع في شمال غرب سورية بما أنه يبني آراءه بالأحداث على التقارير التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي. ومن المثير للاهتمام، أن الويس يدّعي أن المقدسي يمارس التقية باستخدامه عبارات ملطفة على غرار اتهام «هيئة تحرير الشام» بـ«تشويه» الإيديولوجية بدلاً من تكفيرها صراحةً.

ومن أجل تشويه سمعة المقدسي بشكل أكبر، أسست «البيّنة» للإعلام موقعاً إلكترونياً ساخراً يبدو وكأنه مكتبة «منبر التوحيد والجهاد» القديمة الخاصة بالمقدسي التي تضم مصادر رئيسية للجهاد، لكن بخلاف الموقع الأصلي، فإن هذا الموقع هو بمثابة خدعة تسعى إلى نزع الشرعية عن المقدسي من خلال تسليط الضوء على مقالات تعرض تطرفه ووجهات نظره الخاطئة. وفي القسم العلوي من الموقع، يشير مبتكروه إلى أن المقدسي كان قد صمم موقع «منبر التوحيد والجهاد» ليكون «منصة إعلامية كرتونية له» وشرحوا بتهكم أن «التوحيد هو علامة مسجلة باسم المقدسي» الذي سُمح له بمحض إرادته تحديد من هو شرعي.

ومن الواضح أن الموقع مُعد لفضح وجهات نظر المقدسي المثيرة للجدل على مر السنين، ومن المثير للاهتمام أن الموقع ينشر أيضاً اقتباسات من مؤسس تنظيم «الدولة الإسلامية» أبو مصعب الزرقاوي وأحد أبرز منظّري «القاعدة» تاريخياً، عطية الله عبدالرحمن الليبي، والتي تصف المقدسي بأنه مهم وساهم في الحركة الجهادية لكنها ترفض فكرة كونه معصوماً عن الخطأ وأن كل ما يقوله حقيقياً.

وبناءً على كل ذلك، اتهم جلاد المرجئة، أحد أبرز مناصري تنظيم «القاعدة» على موقع «تلغرام»، «هيئة تحرير الشام» بأنها تشن حملات تضليل وأن «الهيئة» هي أشبه «بسحرة فرعون عندما كانوا يسحرون أعين الناس، ويضللونهم، ويجعلون من الحق باطلاً، ومن الصح خطأ».

ساحة جهاد منشقة

على الرغم من اعتبار البعض بأن قطع العلاقات المبدئي بين «هيئة تحرير الشام» وتنظيم «القاعدة» هو مجرد غطاء لإخفاء علاقة قوية وثابتة، فإن هناك أدلة من السنوات القليلة الماضية في شمال غرب سورية- عن حصول اعتقالات ووقوع اقتتال داخلي وجدالات إيديولوجية، والآن هذه الديناميكيات الأخيرة بين «هيئة تحرير الشام» وفصائل «القاعدة» منذ يونيو- تتعارض مع هذا الرأي. فالديناميكية بين «هيئة تحرير الشام» وتنظيم «القاعدة» لا تشبه تلك القائمة بين حركة «طالبان» و «القاعدة» اللذين جمعتهما علاقة وطيدة لم تتزعزع قط، فقد خلقت «هيئة تحرير الشام» فعلياً قطبها الجهادي الخاص بها خارج إطار عمل الشبكة التاريخية لتنظيم «القاعدة» أو شبكة تنظيم «الدولة الإسلامية» الأكثر حداثةً.

ومن الصعب تحديد ما يعنيه هذا بالنسبة لمستقبل الحركة الأوسع لأنه لا يبدو (حتى الآن) أن لـ«هيئة تحرير الشام» طموحات تتخطى سورية مقارنةً بالشبكات العالمية لتنظيمي «القاعدة» و«الدولة الإسلامية»، غير أن التداعيات بالنسبة للمقدسي أكثر وضوحاً. فبالنظر إلى الكراهية التي يكنّها له تنظيم «الدولة الإسلامية» والآن «هيئة تحرير الشام»، يواصل نفوذ المقدسي التقلص بسبب انكفاء الإجماع في أوساط الحركة الجهادية الأوسع على مدار خمسة عشر عاماً الماضية، ورغم أن أحداً لم يطغَ على نفوذ المقدسي على الأرجح، فإنه لم يعد من المنطقي بعد الآن القول إن المقدسي هو أهم منظّر جهادي في العالم اليوم حين يعارضه اثنان من ثلاثة أقطاب جهادية.

*هارون ي. زيلين- جهادِكَ

حتى الآن لا يبدو أن لـ«هيئة تحرير الشام» طموحات تتخطى سورية مقارنةً بالشبكات العالمية لتنظيمي «القاعدة» و«الدولة الإسلامية»

تنظيم «حراس الدين» تأسس في فبراير 2018 كفرع رسمي لتنظيم «القاعدة» في سورية بعد أن نأت «هيئة تحرير الشام» نفسها علناً عن المنظمة الأم
back to top