الأدباء العرب يستذكرون إسماعيل الفهد في الذكرى الثانية لرحيله

نشر في 24-09-2020
آخر تحديث 24-09-2020 | 00:04
تمرّ الذكرى الثانية لرحيل الأديب إسماعيل الفهد، الذي توفي في 25 سبتمبر 2018، وهو الملقّب برائد ومؤسس فن الرواية.

اتسمت تجربة الأديب الراحل بالثراء والتنوّع، لاسيما أنه أقام بأكثر من دولة، في الكويت والعراق والفلبين، وكان يردد أنه «كائن كوني، متجاوز لحدود الجغرافيا، والوثائق الرسمية والتصنيفات»، وتمكّن الفهد من غرس جذور رواياته في مصر ولبنان وفلسطين والعراق والكويت.

ويعد الراحل رائداً ومؤسساً لفن الرواية في الكويت، وحاز عدة جوائز ثقافية مرموقة، منها جائزتا الدولة التشجيعية والتقديرية، وجائزة سلطان العويس، وجائزة الشيخ زايد، إضافة إلى تأهّله للقوائم القصيرة والطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية.

موجّه فني

وُلد الراحل في العراق عام 1940 وحصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية في عام 1979، وعمل مدرسا بمدرسة المتنبي المتوسطة، ورئيسا لقسم الوسائل السمعية في إدارة التقنيات التربوية، وموجها فنيا في إدارة النشاط المدرسي بوزارة التربية.

وبمناسبة مرور السنة الثانية، استذكره عدد من الأدباء العرب، وضمن هذا السياق قال الكاتب طارق هاشم: صديقي... ما زلت أتصفح، بشكل عشوائي، روايتك التي أهديتني إياها «يحدث بالأمس»، لا بتسلسل الصفحات التي نظمتها أنت بعناية فائقة».

وأضاف: «لأنني أشعر بالارتباك في هذا العالم الموحش الذي تركتني فيه ورحلت، آه .. لو تعلم كم كانت مهمة عسيرة كتابة رسالتي الأولى هذه لك، هل أرسلتها إليك إلى هناك حيث اللاعنوان واللامكان، هل ستعكّر عليك روحك الراقدة بسلام، أو ربّما أنت هناك تراقب حماقاتنا وتدونها بحكمة العارف بكل شيء، ربّما ستدون وتصف تصورات عقلنا المتشائم ضد إرادة التفاؤل في هذا الزمن المتلبس».

وحول فيروس كورونا، قال:» زمن جائحة فتكت بأحلامنا وأوهامنا، ولم تكن في الحسبان، ربما نحن من يستحق الرثاء في زمن المحنة والاغتراب وعجائب لم نشهدها من قبل أيها الحكيم العارف، ما زالت الغربة تلاحقني حيث حللت، فلا نسيب ولا رفيق ولا صديق يرثيني على حالي».

ويوجه هاشم رسالة إلى الراحل: «صديقي الغائب الحاضر إسماعيل... أحتاجك أكثر، (فأنا الغريب في الجملة من كلّه حُرقة، وبعضه فُرقة، وليلُه أَسَف، ونهارُهُ لهف، وغَدَاؤه حَزَن، وعشاؤه شَجَن، وآراؤه ظنَن، وجميعه فِتن، ومفرقه مِحَن، وسِرّه عَلن، وخوفه وطن).

بدورها، قالت الكاتبة والمترجمة دنى غالي: لا يمكن ألّا يكون مكانه الفارغ أليما، في الحوارات التي أتخيلها تجري بيننا حيال الحياة، الوجود، في قراءاتي، كتاباتي، في الانتصارات التي أشعر به يبتسم لي زهوا بتحققها. العاطفة التي تجمعنا هي الأشد قدحا لتجذّرنا في الحياة، لتحققنا ومواصلتنا. نحن ممسوسون بها، هي من الرّفعة والرقيّ ما يجعل نسيانه أمرا مرفوضا، حتى ذات الحماسة والانفعال اللذان لا يمكن للعقل ولا الإرادة أن يدخلا ميدانا من دونهما.

وتابعت: «متشعبة الطرق التي مشيناها تتردد فيها أصداء شتى، صدى احتضانه للوالد حال مغادرته العراق قسرا، مُلاحقا من قبل سلطة البعث في عام 79، الكتب المهداة إليّ بتوقيعه في أول الدرب والقراءات. الكائن العزيز وسط العائلة، صدى «النقطة الأبعد» التي حطّت بين يديه، أول رواية لي، منوّها بخطّ يده بقلم الرصاص إلى «كتابة مغايرة»، صدى احتفائنا باسمه وهو يكرّم بحبّ الناس المرة تلو المرة.

وخلصت إلى القول: «في كل مرة أفشل وأعجز ويفوقني الصمت في التعبير عن افتقادي، ولكن محاولة التعبير عن هذه العاطفة ذاتها هي التي تقف خلف مواصلتي المحاولة مرة بعد أخرى».

صروح محبة دائمة

فيصل خاجة

كان أديبنا النوعي متدفق العطاء، مخلصاً لقضيته الأسمى «الإنسان»، فكان نضاله الذي تجاوز ثلاثة ملايين كلمة مطبوعة احتوت عليها أعماله، عبر أكثر من نصف قرن، والتي تنوعت ما بين القصة، والرواية، والمسرحيات، والدراسات، والشعر، والأعمال التلفزيونية وغيرها. وكانت الرواية ميدانه المفضل، مستحوذة على ثلثي إنتاجه الفكري، هذا الميدان الذي صال وجال فيه بأساليب وأدوات تخيل لك أنك تقرأ لكتاب مختلفين؛ من فرط تباينها، مخاطبا مختلف القراء بتباين خبراتهم وأذواقهم مبديا الاحترام لهم، وهو الذي كتب: «عندما يضع الكاتب نصب وعيه أنه يخاطب قارئا نبيلاً نبيهاً في الوقت ذاته، يلزمه احترام ذكاء شريكه». هذه الأعمال كتبت لتبقى على الدوام «خطوة في الحلم».

أما على الصعيد الشخصي، فقد ترك غيابه فراغا في نفسي لا يعوض، فقد كان المعلم والصديق والحكيم الذي ألجأ إليه بفلسفته المتسامحة مع كل الأشياء والمحبة للإنسان والحياة، لم يغب عنه أن يوصينا حتى بكيفية التعامل مع الحزن قائلا: «ورد في سفر الأحوال أن الحزن سمة الكائن البشري، ومن أحسن تداوله عرف كيف يقيم صرح محبة»، وها نحن نقيم من حزننا على غيابك صروح محبة دائمة.

غاب ولم يغب

ليلى العثمان

كيف تركض الأيام والأسابيع لتكتمل السنة الثانية، سنتان مسحتا الكثير من الأحداث، لكنهما لم تستطيعا أن تمسحا حضوره الدائم في القلب والذاكرة، فهو الغائب الحاضر، البعيد القريب.

بالأمس كان يجلجل بضحكته (له ضحكته الخاصة). بالأمس كان يجلس بيننا يحتويتا بالمحبة والرعاية يجاذبنا الحديث فَرِحاً أو حزيناً، يتابع إنتاج الشباب، قراءة مرهقة، رغم وقته الثمين. يناقشهم بأعمالهم، يُسدي لهم النصيحة بلا شدّة، بل بحنان أتضايق منه أحياناً، أقول له لا تُفسد الشباب بدَلَعِكَ لهم، القسوة ضرورية لمن يبدأ أول سطوره. يضحك ويقول: «لا أحبّذُ كسرَ طموحهم، ومع الوقت سيتعلمون».

إسماعيل صديق العمر الذي لازمته طوال السنوات. لا أذكر أننا تخاصمنا يوماً ولا تباعدنا، كنّا رفقاء حياة ورفقاء سفر، كنّا أنا وهو والصديق طالب الرفاعي نشكّل ثلاثياً نادراً، وكان بعض الناس يحسدوننا على علاقتنا المتينة، وكم حاولوا إفساد تلك العلاقة، لكنّها - العلاقة - وقفتْ تجابه الحسد والضغينة بالإهمال والتّرفّع والاستمرار.

أذكر ليلة اتصل بي متأخراً بعد أن قرأ روايتي «حكاية صفية»، كان سعيداً بها، وقال لي مازلتِ متطوّرة في كتابتك وستبقين. ووعدته بذلك. والآن وأنا أكتب روايتي الجديدة يُطلّ عليّ من بين السطور يراقبني ويطلب منّي «احذفي هذه الجملة»، «راجعي هذا الفصل»، «هنا كتبت شيئا جميلاً»، «وهنا غلبكِ الحزن»، «هنا أضيفي بعض الحوار بين حمد وأعمامه». هكذا يشاغبني كما كان يفعل دائماً وأحب مشاغباته التي تُشعرني بحضوره معي.

كان بيننا حبٌ مستقرٌ من نوع خاص، لا تُعكّره الفصول بكلّ تنوّعها، الصيف مع شدّة حرارته يزيدنا دفئاً، والشتاء بمطره يغسلنا من الشوائب، والربيع ينثر علينا وروده الملوّنة، والخريف يُنذرنا بأن للعمر نهاية، ونستمرّ رغم تساقط أوراقنا يوماً بعد يوم.

غاب ولم يغب. ظلّ وجهه الجميل وعيناه الزرقاوان مثل سماء صافية، رحل ولم يرحل، ظلّت أشياؤه وكتبه بيننا نعود إليها كلّما مَسّ الحنين مشاعرنا. مات ولم يمت، فالقلب ما يزال ينبض بحبه حتى نلتقيه في عالمه، سنتان مرّتا يا إسماعيل وما نزال على ذكراك الطيبة اليانعة في قلوبنا.

بتوقيت الشمعة الثانية: إسماعيل فهد إسماعيل

مقداد مسعود

في المرحلة الروائية الأولى تناول إسماعيل فهد إسماعيل فرداً من المجتمع، وشكله روائياً ضمن حقبة الستينيات العراقية المحتدمة سياسياً في البصرة، والجديد هنا هو الاقتصاد الأسلوبي في تناول الشخصية مع شعرنة الوحدات السردية، والتوظيف الحيوي لمنجز تيار الوعي، كل ذلك قام بتكثيف نصوصه فتدفقت روايات إسماعيل: قصيرة وعميقة، وهي: «كانت السماء زرقاء» و«المستنقعات الضوئية» و«الحبل»، وجاء الجزء الرابع «الضفاف الأخرى»، وهنا تفرد إسماعيل على مستوى صدمة التلقي، فالقارئ سيباغت بين الحجم الصغير للرواية والصفحات القليلة وغياب التفاصيل المترهلة التي تآلف القارئ معها، والأجمل هو ذلك الغموض السردي الشفيف.

بعد الرباعية التي تدور في البصرة، يباغتنا إسماعيل بعدة تنويعات من السرود وصولاً إلى ثلاثية تدور في مصر، وهنا يغترف إسماعيل من ذاكرة المؤرخ الجبرتي، ويقوم بتدوير السرد مغترفاً من النيل الذي يجري شمالاً: البدايات/ النواطير/ الطعم والرائحة، وفي التسعينيات صدرت لإسماعيل سباعيته الروائية إحداثيات زمن العزلة.

مهارة إسماعيل السردية هي نقلاته الأسلوبية المتجددة، وعياً منه بضرورة التجاوز على مستويي: المعمار الفني، والموضوع.

نزهتي في عوالم إسماعيل الثرية غدت سنوية، ومن منصة هذه النزهات انطلقت مخطوطة كتابي «فصوص الخاتم»، وفي زيارته الأخيرة للبصرة سلّمت إليه نسخة من المخطوطة التي تناولت فيها: الجهوية الجديدة في سرديات إسماعيل التي تتجاوز نفسها دائماً:

* رأسك في طريق واسمك في طريق أخرى

* في حضرة العنقاء والخل الوفي

* طيور التاجي

* الظهور الثاني لابن لعبون

* السبيليات «ما لم يرد ذكره في سيرة أم قاسم»

* على عهدة حنظلة

* صندوق أسود آخر

في الغالب علاقتي تتحدد بالنصوص، إلا مع الأخ والصديق الشفيف المبدع الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، فعلاقتي تماهت مع شخص إسماعيل ونصوصه، فكنت كأني أقرأها بأذنيّ إذ كانت قراءتي تستضيء بصوته... طيّب الله ثراك يا أبا أسامة... تبقى سيرتك العطرة وأعمالك نجوم هداية لقوافل الأجيال الأدبية.

التواضع والشغف والمحبة

سليمان البسام

في هذا الموسم؛ موسم ذكرى رحيلك المفجع، يحطّ الهدهد على أرض الكويت ليرتوي بالقليل من الماء قبل أن يستأنف رحلته تجاه الهند...

يذكرني هذا الهدهد بهذا الموسم، موسم رحيلك المفجع، بما كنّا عليه ليالي الثلاثاء، فتياتٌ وفتيان، شاباتٌ وشبان، نسوةٌ ورجال، حيث كانت للشعر وللأدب وللفن ملتقىً أشرفتَ على تنميته بكل ما أوتيتَ من حبٍ ومعرفةٍ وطرفة، فرحبت فيه بالمبتدئين الذين احتضنتْ، والمخضرمين الذين استضفتْ، والذين شاركوك التواضع والشغف والمحبة، أنتَ يا من أشعلتَ هذا القبس الحميمي وأنرتَ هذا الفضاء؛ حيث كانت الكلمة تحطّ وتستجمع قواها وترتشف قليلاً من الماء... قبل أن تستأنف رحلتها في دروب الحياة.

واليوم يا أبا فهد؛ ما زالت الطيور المهاجرة تمرّ عبر هذه الأرض، بيد أنه لم يعد «الثلاثاء» ثلاثاء، لكنّ قدرنا - كما الطيور المهاجرة - أن نستدل بالذاكرة.

عامان ومكاتبة أخرى

خالد النصرالله

يومياً، تصادفني صورتك المعلَّقة في صدر المكتب، أدرك يقيناً أنك ما زلت بيننا، لكن عند كلِّ مرة تستحضر ذاكرتي خبر الرحيل، أتوقَّد وكأن الأمر حدث للتوّ. إنك يا إسماعيل منذ ولادتك حتى وفاتك أصل ذهبيٌّ برَّاق، يصحبك زمانك أينما ارتحلت، بوابة كبيرة تُخفي وراءها المدهش والعجيب، وحتى اللحظة تستدعي نصوصك عند قراءتها عبقَ أجوائك وأخبارك والأحاديث. تعرف الرواية التي أطلعتك على ثلثها الأول، كنت أُكملُها وكأنني لا أريدها أن تكتمل؛ لأُشهد النص الذي يعرّفك أنك جذرنا، ومعلّمنا، وأننا توصلنا إلى ما نحن عليه بفضل وجودك. أنت مؤرخ في وجداننا، وتحيا في كتبك، رغم أن المسؤولين الذين وعدونا بتخليدك في مكتبة عامة لم يوفوا بعهدهم حتى اللحظة. اليوم أطالع صورتك، وأودّ لو أُطلِعُك على الشكل النهائي للرواية الجديدة، أو نتشارك اختيار عنوانها، إنها على عتبة النشر، وأنت لست هنا، هذه المرة.

روحه الأبوية

د. سعداء الدعاس

بصوته المعبّأ بالفرح، يستقبل الجميع، من دون تمييز، حيث ابتسامته التي تسيّدت المشهد في جميع اللقاءات الثقافية، تاركاً أثره في الذاكرة، بعبارات مشجّعة، تُشعرك بالخصوصية والتفرّد.

حميمية صوته، وروحه الأبوية هبة كان يمنحها الراحل إسماعيل فهد اسماعيل لكل من حوله، دون شروط. وبأريحية المُحب، كان يتعامل مع الجميع كتعامله مع أي من أبنائه المقرّبين، الذين ارتبطوا به وحظوا باهتمامه، وهم كثر.

ولعلّ تجربتي الشخصية في الأمسية التي أعدها المعهد العالي للفنون المسرحية وفاء للراحل، بعنوان "مسك" منحتني الفرصة الحقيقية للتعبير عن اعتزازي بقامة مميزة تركت مُنجزاً بحجم وقيمة منجز إسماعيل فهد إسماعيل، بروح كويتية - عربية خالصة.

كنا - فريق العمل - نؤمن بأنّ إقامة أمسية من هذا النوع، وفاء للأدب بصورة عامة، قبل أن تكون وفاء لإسماعيل ذاته. لم نفكر في مدى تأثيره علينا شخصياً، بقدر تفكيرنا في مدى تأثيره على الوسط الثقافي أجمع، وأهمية تعريف طلبتنا على صورة مشرّفة لأحد أبناء المعهد العالي للفنون المسرحية، وقسم النقد والأدب المسرحي تحديداً.

بدأت الأمسية برغبة صادقة من عميد المعهد، د. علي العنزي، وانتهت بأغنية مؤثرة صاغ كلماتها ولحّنها شريك الحياة والروح علاء الجابر، حفظها كل من استمع إليها من طلبتنا، وضيوفنا، ولا يزال صداها يتردد في ذاكرة المكان "من ضفاف دجلة، إلى سماء الخليج"، مخلّفة أثراً لا يمكن نسيانه، لمسناه في عيون كلّ من حضرها وتفاعل معها من عائلة الراحل، أصدقاء مشواره الطويل، وأحبّته ومريديه.

* رئيسة قسم النقد والأدب المسرحي/ المعهد العالي للفنون المسرحية

زاد فكري ومعرفي

سامي القريني

‎في تذكّره بعد عامين من الغياب، يزداد إسماعيل فهد إسماعيل حضورًا في حكايات وكتابات من رافقوه، ومن خلال كتبه ومسودات أعماله التي بقيت على رفوف مكتباتنا تحمل كلماته، وبصماته الإبداعية بخطّ يده الأنيق. تتجدد ذكراه في كل قراءة حديثة لأعماله، وكل طبعة تصدر من كتبه المنشورة وغير المنشورة. إنني أدعو في هذه المناسبة التأبينية، الأصدقاء المسرحيين والعاملين في الحقل الدرامي لقراءة قصصه ورواياته ومسرحياته، وتحويل ما يمكن تحويله، وهو كثير، إلى أعمال قد تسهم في نهضة واقعنا المسرحي والدرامي، ومن ثم الاجتماعي في المستقبل، ونفض ما تراكم من أعمال لا تمتّ إلى الفن بصلة.

لقد ترك إسماعيل زادًا فكريّاً ومعرفيّاً يستحق التكريم لا بالقول فحسب، بل بالعمل الجاد نحو إيصال كلمته إلى الإنسان - هنا وهناك - الإنسان الذي أوقف إسماعيل حياته على الكتابة عن همومه والدفاع عن قضاياه.

إلى إسماعيل فهد إسماعيل

حمود الشايجي

يحق لك أن ترتاح، ويجب عليّ أن أتعب، وكيف لا وأنت من فعل ما فعل، دائمًا كنت أقول من بعد غيابك إن منجزك الأعظم ليس هي رواياتك التي حققتها، وليست النجاحات والجوائز التي نلتها، بل هو الجيل الذي خلقته من بعدك، أو بالأصح الأجيال التي خلقتها من بعدك، ربّما البعض لا يعجبه ما أقوله، ويراه إجحافًا بتجربتك الروائية، لكنّ وجهة نظري تقوم على أسس من عرفك من داخلك قبل خارجك، أو هكذا أزعم، لذلك أرى أنّ منجزك الأعظم هو امتدادك الإنساني عبر أجيال من الكتاب، يحملون كلّهم القدر ذاته منك، يمتدون ويتمددون عبر أجيال أخرى إلى ما لا نهاية، وما فعلته بهم هو أن جعلتهم كتّابًا يقدّرون الكتابة بشكل صحيح، يحترمون ذواتهم أمامها، يكونون صادقين ومصدقين بها. وفعلك هذا لا يقدر على فعله أي إنسان، إلا لو كان به قدر عجيب من إنكار الذات وحب للآخر، مما يجعل الآخر أمام مسؤولية كبيرة لما حُمِّل، وهذا ما أواجهه يوميًا، فما حمّلتني إياها يا أبي على الرغم من ثقله، فإنني فخور به وعاشق له، ولا أقوى على الحياة دونه.

عامان.. غُربة

محمد جواد

عامان وأنا أجمع ذكرياتي وآلامي، عامان وأنا أجمع بعض الذي أحصده كي أضعه على بيدرك البهي، فحقلك مخضرّ دائمًا، ومريدوك يلهجون بذكرك، وما فتئوا يؤمّونك كإمام لصلاتهم وموحّد لآرائهم، الكثير يفتقدك، ولكن درسك قائم وحاضر، ونجمك هو الضياء الذي ينير درب الصادقين.

أعرف أن الثرى قد طواك، ولكن بالنسبة لي فأنت كما كنت لم يمسسك المرض، ولم يؤوك قبر، إسماعيل الذي هو نشيد الصباح، ولازمتي التي أرددها كل يوم وإن مضت السنين تبقى الجوهرة المحفوظة بعقولنا تصقلها القراءات وتزيدها الكتابة توهجًا.

نعم ذهبت ولحظة واريناك في مقبرة الصليبيخات يوم 2018/9/26 تنحّيت جانبًا كي لا أشهد خلدك بدارك الأبدية، ولكن الأخ وليد العوضي أخذ بيدي كي أكون بين المهيلين التراب كيّ يسجل هو فيلمه الذي يخلّد إسماعيل، لكن حقيقةً وقفت على حافة القبر وأشحت بوجهي إلى البعيد.

غادرتنا إسماعيل، وكانت أجندتك مملوءة بالطموحات والمشاريع، لكنّك خذلتنا ورحلت، حققت أنت الكثير الكثير، ولكن.

ها هم أبناؤك والذين ذرفوا الدمعة، استبدلوا الدمعة بالمداد كي يسجّلوا إسماعيل في سجل الخالدين، نعم أنت خالد وسيل الناس الذي يقتني كتبك ويتعرّف عليك من جديد زاد عددهم، ولكن حينما تأتي ثمار الغرس الذي زرعت ويسير على هداك، بل يضعك نبراسًا وطوداً شامخًا ومعلمًا هذا هو الفخر.

عامان يا إسماعيل، سجلت لك من خلالهما بعض ما أفصحت به الذاكرة من سيرة عطرة وذكر طيّب، وضعت نفسي في امتحان عسير، هل أستطيع أن أقدّم إسماعيل فهد إسماعيل كما عايشته؟ ربما نعم وربما لا، وهذا يعود إلى القارئ، وكذلك للصديق الذي اخترته كي يذكر إسماعيل معي.

نعم أنجزت كتابي «شجون الحكايا... رحلتي بإسماعيل فهد إسماعيل»، ضمنته الكثير مما خزنته الذاكرة، وربما لم أصل خطوة نحو عُلاك، ولكنّي على أقلها وجدتني أذكر إسماعيل، وقد اجتهدت معي دار صوفيا للنشر، لتضعه بين يدي القراء عرفانًا لإسماعيل.

إسماعيل لم أفتأ ولم أنقطع لزيارة قبرك بمناسبة أو بدونها، ففي كل زيارة أجمع همومي، وكالعادة في أيام حياتك السالفة، أجلس لأفضي إليك همي ونتناقش أمرًا ما.

في آخر زيارة لي يوم عيد الأضحى، والشمس لازالت في بواكيرها، وكم كنت تشتاق إلى هذا المنظر، جلست جنب قبرك وفتحت الحديث، المآقي فضيت، فهموم الحياة لم تترك لنا فرصة كي نبكي لأننا أصبحنا حالة مبكية.

إن المؤلم يا إسماعيل أنني ومَن معي مازلنا نراوح في المكان نفسه، رغم كل الوعود، فالأماني مازالت تحت بند التأجيل، فلا وزارة نفّذت ولا جمعية نفع عام باشرت لتخليد ذكرك.

إسماعيل... أبلّغك أن التخليد جاء من مختلف أطراف الكون كي تكون عنوانا لرسالة ومادة الدرس، وهذا ما يثلج قلبي ويجعلني في دائرة الضوء التي نشرها إسماعيل.

دائمًا المعلم الكبير أنت، في كل مرة كنت، ولكل المبتدئين أو ذوي الخبرة، عليكم بقراءة فن الشعر لأرسطو، لأنّه كان الخطوط العريضة لكل كاتب ودرس نافع لمريدي الثقافة والتطور، واليوم أجد كتاباتك وعطاءاتك التي أودعتها بكتبك ومقالاتك أصبحت تعويذة لكل من يريد الاقتراب من شواطئ الكتابة، كما وجدت أن سمعتك وإرثك الثقافي نالا دراسات ودرجات علمية ازدهرت بها الجامعات في مختلف أقطار العرب، وها هي دور عالمية للطبع قد ترجمت كتبك يا سيدي.

إسماعيل... لقد أبلغتني قبل ليلة من رحيلك ألّا أحمل همّا، فالرحيل اقترب، نعم رحلت، لكني ومن معي سنبقى كما كنّا، وأنت معنا.

كلمات الصمت وحروفه

لطيفة بطّي

عامان من عمر الغياب الذي يتكئ ويحسب على عدادته، يعلمنا أن سنينا من عمر الحضور من عمر الحياة واللقاءات والكلمات كلها مجتمعة لا تقوم ليوم واحد من عمر الفقد!

العزيز أبو مازن... تمرّ الذكرى وترغب في أن نكتب كلمات في حق من علّمنا كتابة الكلمات، كيف نكتب أو كيف أكتب وأنا التي داخلني الصمت، منذ رحيله، كيف هي تكون حروف وكلمات الصمت لأكتب بها؟!

هل هي تشبه انطفاء المصابيح في مكتبه، أم أنها تشبه وجع مغادرته؟! مغادرته التي قال إنها ستطول عمرا إضافيا، فآمنا وأمّنا، وما وعينا أن الرحيل مخلص لسرّه لا يبوح بموعد مجيئه، يحتفظ بحقه في المفاجأة ووضع لمسات الختام.

وجع الكتابة عن إسماعيل فهد إسماعيل يشبه وجع غيابه! كيف لنا أن نكتب عمّن كان يكتبنا! كيف نكتب في أمان الله للذي كان يبارك دخولنا جنته بـ «حيا الله»؟!

الحروف والكلمات ليست طوع البنان ولا طوع القلم وحبره، منذ رحيله ابتلعت نفسها فلم يبق للأبجدية إلا الصمت، رحل إسماعيل والوجع ترك ندوبه على الروح ومضى... رحل إسماعيل والحزن استقر في القلب وكفى.

back to top