بين شجرة الليمون والنخلة *

نشر في 14-09-2020
آخر تحديث 14-09-2020 | 00:10
 خولة مطر جاءت رسالته في ذاك الصباح مختلفة، مغمسة بالمحبة والوجع، هو ككثيرين هنا قرروا الرحيل كما سرب الطيور ذاك الذي حلق في سماء بيروت في ذاك المساء ولم يعد، وكما الحمام الذي حول شبابيك بيتنا الى مسكن له، هو الآخر قيل لي إنه اختفى مع الزلزال الذي ضرب بيروت.

تحدث عن المدن التي تسكننا قبل أن نسكنها، عن الشوارع والزوايا في القاهرة والقدس، عن الترحال الذي يبدو أنه قدر للكثيرين منا لا اختيارهم، عن مدن واجهت الموت مرات ثم استسلمت ربما تعبا أو ربما هي استراحة للمحاربين، أليست للمدن ألف حياة؟

قال إنه لم يستطع أن يرى وجه بيروت الصبوح مشوهاً، فقرر المكوث في البيت والتركيز على ترميم ما دمر، حتى قبل أيام اضطر للخروج ربما للتوجه لسفارة ما وتقديم طلب لتأشيرة أو للهجرة!! كثر المصطفون من اللبنانيين واللبنانيات، من أعمار متفاوتة الشباب منهم كثيرون والكبار أيضا، حتى ذاك الطبيب الرائع ودعهم جميعا بأحضان ودموع، قال لهم: بيروت بالنسبة إلي كمدينتي التي ولدت بها ويعز علي أن أتركها ولكن "ما باليد حيلة". نقيب الأطباء يعلن أن أعداداً كبيرة من الأطباء والممرضين والممرضات قد قدموا طلبات عمل وهم بالطبع مطلوبون في كل دول الجوار نتيجة لخبراتهم الواسعة وتخصصاتهم، حتى الجسم الطبي في ذاك المستشفى الذي صمد وضمد جروح الحرب الأهلية الطاحنة، حتى ذاك الصرح طاله ما طال المستشفيات والاختصاصات الأخرى.

صديقي الذي راح للمرة الأولى يتفحص بعينين مشدوهتين هول المشهد، تجول حتى أخذته قدماه هناك، عند البلكونة التي أحب مع شجرة الليمون التي لم ينل منها الانفجار سوى بضع ورقات، وكذا الحال مع شجرتي الغاردينيا والياسمين، سقط الزجاج وتحطمت الكراسي والطاولات ولم يبق سوى بعض من بقايا حائط والأشجار... حديثه عن شجرة الليمون أعاد مقالة أخرى كان قد صاغها صديق وهو يمر أمام منزل والدي في البحرين، حيث النخلة التي صمدت حتى بعد رحيل وهجرة الأحبة... الأشجار تموت واقفة، بل هي تبقى واقفة لتجدد الحياة لها ولمن حولها.

حديث الهجرة والوقوف أمام أبواب السفارات هو الأكثر انتشارا اليوم، الشباب يرددون بأنه لا أمل بعد رغم أن إحداهن لا تتوقف عن سماع فيروز تردد "إيه في أمل"، ولكن صوتها بين أفراد تلك الشلة بدا وحيداً وضعيفاً لا حجة لها، وهم ينظرون لحطام بيوتهم ومدينتهم التي ما إن يحل المساء حتى تغطس في بحر من العتمة.

قبل أن يخرجوا ويوصدوا الباب تفننوا في تزيين كل ما تبقى من جدران بلوحات وعبارات تعبر عن غضب، بل مزيد من الإصرار على المحاسبة، وعند الجدار القريب من المرفأ وضعوا لوحات تحمل أسماء ضحايا الانفجار، وأخرى لمن لا يزالون يقاومون الموت في غرف الإنعاش بمستشفيات المدينة.

بعضهم قال لنا عودة وآخرون أغلقوا الأبواب وأوصدوا النوافذ خلفهم ورموا المفاتيح حتى يبعدوا عنهم غواية العودة للمدينة والبلاد التي عشقوا.

هي الخمسينية تتلعثم وهي تردد أريد أن أترك خياراتي مفتوحة ولكن إلى أين أرحل في هذا العمر؟ وكيف أبدأ حياة جديدة؟ وفي محاولة لثني نفسها عن التفكير في الرحيل تردد وكأنها تهمس بينها وبين نفسها: "كل البلدان فيها أزمات اقتصادية وبطالة ومشاكل وين بدنا نروح؟". تعود أشباح المدن تطارده، يتذكر كم كانت تلك الأمكنة حنونة عليه، كم كان نهارها صخبا وليلها ضجيج الفرح، كم مدينة سيترك ومعها صور وحكايات وأحبة وكثير من الذكريات المخزنة في القلب.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

back to top