تراجع أهمية الشرق الأوسط في السياسة الخارجية الأميركية

نشر في 11-09-2020
آخر تحديث 11-09-2020 | 00:02
مضيق هرمز ورقة إيران الرابحة والمحفوفة بالمخاطر
مضيق هرمز ورقة إيران الرابحة والمحفوفة بالمخاطر
سيعيش الشرق الأوسط حالة من الفوضى لسنوات طويلة مقبلة، فهو منطقة يصعب التنبؤ بتطوراتها، ويمكن أن تطرح أزمات أمام الولايات المتحدة لم تكن تتوقعها على الإطلاق، ولكن ليس علينا أن نجهز أنفسنا لمواجهة الفشل، والنظر الى تلك المنطقة كما نريدها لا كما هي في الواقع.
أوضح جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية في شهر نوفمبر المقبل أنه يريد "عودة أميركا الى رأس الطاولة من أجل حشد العالم الحر لتلبية التحديات التي تواجه العالم اليوم... وقال لا توجد دولة أخرى لديها تلك القدرة".

وفي حين تعتبر استعادة الولايات المتحدة للزعامة والصدقية في قضايا تمثل أهمية حيوية بالنسبة الى الأمن القومي والازدهار أساسية ومفصلية فإن اللافت وجود إقليم واحد لم يعد يتمتع بالأهمية التي كان يتمتع بها في الماضي: الشرق الأوسط.

وبغض النظر عن الفائز في سباق الرئاسة الأميركية فإن من المهم أن ندرك أن الشرق الأوسط شهد في السنوات القليلة الماضية موجة من الاضطرابات جعلته يفقد أهميته في نطاق السياسة الخارجية الأميركية ومصالح واشنطن القومية، فلا يعكس ذلك التغير ديناميكية إقليمية جديدة وأولوية أميركية على الصعيد المحلي فقط، بل تغيرا في طبيعة المصالح الأميركية في ذلك الجزء من العالم.

جدير بالذكر أن الزعامة والاستثنائية الأميركية لا يمكنهما إصلاح الضرر الذي لحق بالشرق الأوسط أو أن تؤدي دوراً بارزاً في دفعه نحو مستقبل أفضل، ولا يزال لدى الولايات المتحدة شريحة من المصالح هناك يتعين عليها حمايتها ولكن يتعين عليها أيضاً أن تكون واقعية وحكيمة في تحقيق أهدافها، فإذا أحسنت الإدارة الأميركية التصرف فيمكنها تفادي المبالغة في النتائج والتداعيات المؤسفة والمتاعب غير الضرورية.

وإذا حرصت الولايات المتحدة في السابق على عدم المبالغة في الالتزام بقضايا الشرق الأوسط قبل انتشار وباء كورونا يتعين عليها اليوم أن تحذر بقدر أكبر الدخول في خطوات غير ضرورية في ظل انتشار الوباء، ويتعين أن تتقدم الأولويات الداخلية على أي مغامرات يحتمل أن تستنزف وقت الرئيس الى حد كبير، كما أن الإدارة الأميركية الجديدة ستواجه تحديات أكبر حول التعافي القومي بقدر لم تشهده البلاد منذ أربعينيات القرن الماضي، وهي لن تخوض حرباً عالمية تجعل منها دولة مهيمنة في الخارج عن طريق انعاش اقتصادها، ويضاف الى ذلك الأزمة الداخلية الناجمة عن القلاقل العرقية والطبقية والسياسية وفقدان الثقة في مؤسساتنا الدستورية، ويمكن القول إن الضغوط التي أفرزها ارتفاع معدل الديون والعجز المالي ستفرض قيوداً مالية حادة أمام السعي لتحقيق أي شيء غير المصالح الحيوية الأميركية في الخارج.

الأولويات الاستراتيجية الأميركية

وتظهر نظرة سريعة إلى العناوين اليومية مدى تغير الأولويات الاستراتيجية الأميركية وبعدها عن منطقة الشرق الأوسط خلال الأعوام القليلة الماضية، وقد ألحق وباء كورونا خسائر فادحة في أرواح الأميركيين وطرق معيشتهم إضافة الى صدقيتنا في الخارج، كما أن الأحداث المناخية التي شملت حرائق الغابات في ولاية كاليفورنيا وإعصار لورا الذي اجتاح ساحل الخليج وفصل الصيف الشديد الحرارة بصورة غير عادية، والذي ارتبط بتغير المناخ وقيام الصين باستعراض عضلاتها في شتى أنحاء قارة آسيا والمحيط الهادئ وتنافس الولايات المتحدة والصين على السيادة في الميادين العسكرية والاقتصادية والتقنية، وتصرفات روسيا المثيرة للريبة (تسميم المعارض أليكسي نافالني) واستمرار تدخل الكرملين في الانتخابات الرئاسية الأميركية وزيادة موجة الإرهاب من جانب الوطنيين البيض، وكل ذلك سيفرض شريحة متغيرات لا يمكن تجاهلها.

وقد اكتسبت تلك التحديات أهمية تفوق الى حد كبير التهديد الإرهابي للولايات المتحدة القادم من الشرق الأوسط، وخلال فترة الحرب الباردة كان تحرك واشنطن الرامي الى الهيمنة على الشرق الأوسط مدفوعاً بدرجة عالية بالحاجة الى ضمان تدفق سلس لموارد الطاقة فيه الى الولايات المتحدة وحلفائها. وطوال معظم تلك الفترة كان الخليج الفارسي يشكل نسبة متباينة من الاحتياطي العالمي من النفط ومن مستوردات الولايات المتحدة منه.

ومع نمو مصادر الطاقة غير التقليدية واكتشاف مكامن ضخمة للنفط والغاز الطبيعي خارج منطقة الخليج الفارسي وزيادة إنتاج النفط والغاز الطبيعي في الولايات المتحدة بدأ تراجع الأهمية الاستراتيجية لموارد الطاقة الواسعة من الشرق الأوسط كما أن أسعار النفط شهدت تراجعاً كبيراً في السنوات القليلة الماضية على الرغم من حدوث اضطرابات في دول رئيسة منتجة للنفط مثل العراق وإيران وليبيا إضافة الى شحن نحو 85 في المئة من صادرات نفط الخليج العربي الى الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية.

دور مضيق هرمز

وعلى الرغم من ذلك ظل الانتاج النفطي في منطقة الخليج يشكل نحوالي 20 في المئة من انتاج النفط العالمي مع مرور قرابة ثلث كميات النفط المشحونة بحراً عبر مضيق هرمز، وهكذا كانت المحافظة على أسعار مستقرة للنفط العالمي تعتمد بشكل جزئي على منع حدوث انقطاعات في صادرات النفط يمكن أن تفضي الى ارتفاع مفاجئ ودراماتيكي في أسعار النفط يصعب على الأسواق التكيف معها خلال فترة زمنية قصيرة، ويمكن تخفيف هذا التهديد من خلال المحافظة على وجود بحري أميركي بسيط في البحرين وسحب كميات من النفط من الاحتياطي الوطني، وبكلمات أخرى أصبح لدى الولايات المتحدة الآن إمكانية الاستجابة السريعة لتغيرات الأسعار عن طريق آلية السوق ومنع الأزمات من التأثير على أسعار النفط، وبذلك تصبح لكل الدول المنتجة للنفط- بما فيها إيران- مصلحة في ايصال انتاجها الى الأسواق.

من جهة اخرى، تعتبر الحروب في أفغانستان والعراق الأطول من نوعها في التاريخ الأميركي، والسؤال هو هل يمكننا تحقيق النصر فيها؟ ومتى يمكننا الانسحاب؟ ولا توجد حكمة في تقديم كل تلك التضحيات من جانب الولايات المتحدة وأفغانستان والعراق.

في غضون ذلك يتعين القول إنه من ضروب الخيال الظن بأن سياسة خارجية تعتمد بدرجة أقل على القوة العسكرية وتركز على الدبلوماسية بشدة ووضع برامج للمساعدات وبناء الديمقراطية بدلاً من استخدام القوة الحربية ستحقق نتيجة أفضل. ثم إن المنافسة العرقية والعنصرية والإقليمية والقبلية وندرة القيادة وحكم القانون والحريات الأساسية وضعف الحوكمة والمؤسسات ونقص الشفافية واحترام حقوق الانسان والمساواة بين الجنسين وانتشار الفساد على نطاق واسع كل ذلك أفضى الى وجود منطقة معطلة وعاجزة ليس في وسع الولايات المتحدة اصلاحها.

أزمة الإدارة الأميركية

وقد واجهت الولايات المتحدة مشكلة قاسية في الشرق الأوسط، حيث علقت في منطقة لا تستطيع تغييرها ولا مغادرتها بسبب وجود مصالح لها فيها إضافة إلى حلفاء وخصوم أيضاً، ولم تكن سبل النجاح والبقاء مقتصرة على فهم الحدود المتعلقة بالنفوذ الأميركي فقط، بل على التمييز بين المصالح الحيوية والجانبية أيضاً، ونحن نعتقد أن المصالح الحيوية تتمثل بالأمور التي تؤثر مباشرة على أمننا القومي وازدهارنا وطريقة معيشتنا والتي من أجلها يتعين على الرئيس نشر قوة عسكرية وخوض حرب وإنفاق موارد مهمة والاستثمار في هيبة أميركا وصدقيتها في العالم.

ولكن لا شيء من ذلك كله يعني أن على واشنطن تجاهل التحديات القاسية التي تحيق بتلك المنطقة وخاصة الأزمات الانسانية في سورية واليمن، ولكن علينا عدم الاستثمار بشدة وخاصة في ضوء الأزمات الأخرى التي تواجه الولايات المتحدة وأبرزها السعي الى تحقيق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين.

ومن وجهة نظرنا نحن نرى أن للولايات المتحدة ثلاث مصالح حيوية في الشرق الأوسط وهي: الحد من الارهاب، وحماية تدفق النفط، ومنع إيران من الحصول على سلاح نووي، وقبل انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي مع إيران كانت الولايات المتحدة تعمل بشكل جيد من أجل حماية تلك المصالح المهمة.

هجمات 11 سبتمبر

وتجدر الإشارة الى أنه منذ هجمات 11 سبتمبر تمكنت حركة جهادية من تنفيذ هجوم واحد فقط ضد هدف أميركي، وفي حقيقة الأمر أن الولايات المتحدة أنفقت أكثر من 6 تريليونات دولار منذ هجمات 11 سبتمبر على مواجهة ذلك التهديد، في حين تجاهلت خطر انتشار وباء كورونا الذي أودى بحياة أكثر من 180 ألف أميركي وتسبب بتدمير اقتصاد البلاد. ونحن لسنا في حاجة الى تمركز الآلاف من الجنود الأميركيين في الخارج بصورة دائمة وفي وسعنا تقليص ذلك الخطر عن طريق استخدام عدد صغير من القوات الخاصة من أجل قتل إرهابيين يريدون إلحاق الأذى بالولايات المتحدة.

ونحن قد نقلص حجم كمية الهيدروكربونات العربية ولكن بقية دول العالم غير قادرة على تحقيق ذلك الهدف حتى الآن، ثم إن الاضطراب الخطير والمستدام لتدفق النفط من الخليج العربي يمكن أن يحدث تأثيرات مدمرة لاقتصاد العالم وللاقتصاد الأميركي أيضاً، وربما تتمكن ايران من اغلاق مضيق هرمز لفترة قصيرة من الوقت ولكنها تفتقر الى القدرات العسكرية وربما الى المصلحة في إغلاقه بشكل دائم. وفي وسع الولايات المتحدة حماية مصالحها في الطاقة عبر الشرق الأوسط من دون زيادة كبيرة في الاستثمارات العسكرية أو الاقتصادية.

وإيران ليست دولة عملاقة وهي مقيدة في الوقت الراهن بعقوبات معطلة تماماً وباحترام روسيا واسرائيل لقوة الولايات المتحدة العسكرية إضافة إلى ما لحق طهران من تبعات مؤلمة بسبب سوء إدارة الاقتصاد وانتشار الفساد فيها، ومن الواضح أن البديل الأفضل من أجل إبقاء إيران بعيدة عن امتلاك سلاح نووي يتمثل في التوصل الى نوع من الاتفاق حول القضية النووية، ويتعين على الادارة الأميركية الجديدة اختبار فرصة الحوار مع طهران من أجل تحديد ما يمكن تحقيقه في هذا الشأن مع تذكر أن صفقة كبيرة مع إيران بهدف تقليص نفوذها بشكل مؤثر في المنطقة أو برنامجها لإنتاج صواريخ باليستية هي مجرد سراب.

وسيعيش الشرق الأوسط حالة من الفوضى لسنوات طويلة مقبلة، وهو، طبعاً، منطقة يصعب التنبؤ بتطوراتها، ويمكن أن تطرح أزمات أمام الولايات المتحدة لم تكن تتوقعها على الاطلاق، ولكن ليس علينا أن نجهز أنفسنا لمواجهة الفشل عن طريق السعي الى تحقيق طموحات غير واقعية والقيام بتصرفات بعيدة عن الحكمة والنظر الى تلك المنطقة كما نريدها لا كما هي في الواقع.

ومذكرة موجهة الى ادارة جو بايدن: إنها ليست منطقة أحد بعينه، ولا توجد دولة داخل تلك المنطقة أو خارجها تستطيع الهيمنة عليها، وفي حقيقة الأمر، لم تعد الولايات المتحدة الدولة الأقوى في ذلك الجزء من العالم، وليس عليها أن تكون كذلك.

الزعامة الاستثنائية الأميركية لا يمكنها إصلاح الضرر الذي لحق بالشرق الأوسط أو أن تؤدي دوراً بارزاً في دفعه نحو مستقبل أفضل

البديل الأفضل لإبقاء إيران بعيدة عن امتلاك سلاح نووي هو التوصل إلى اتفاق حول تلك القضية
back to top