لماذا لا يستطيع «زووم» إنقاذ العالم؟

نشر في 01-09-2020
آخر تحديث 01-09-2020 | 00:00
اكتشف العديد من الناس أن بإمكانهم عندما يعملون من المنزل ويتواصلون من خلال (زووم) تحقيق الإنتاجية نفسها التي كانوا يحققونها عندما كانوا يعملون في المكتب أو يسافرون في رحلات عمل.
 بروجيكت سنديكيت لقد بلغ إجمالي حجم الإنفاق على رحلات العمل 1.5 تريليون دولار أميركي سنويا قبل "كوفيد-19" (حوالي 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي) واليوم انخفض هذا المبلغ الى مبلغ لا يكاد يذكر في حين تغلق الدول حدودها وينتشر التباعد الاجتماعي.

الطائرات تربض في المطارات وتم إغلاق الفنادق ولم يعد المسؤولون التنفيذيون في الشركات يكسبون النقاط من شركات الطيران بسب سفرهم المتكرر كما تأثرت سلبا الكثير من الوظائف المرتبطة بقطاع السفر والضيافة، لكن لو كانت العوامل السلبية تنحصر بتلك الأمور فحسب، لكان التأثير مهما كبر حجمه أقل بكثير من التدهور الحاصل في السياحة العالمية بشكل عام، ويمكن استعادة الوضع الطبيعي بسهولة عندما تنتهي الجائحة.

للأسف، فإن الأبحاث الأخيرة التي قمت أنا بها مع فرانك نيفك من جامعة هارفارد وميشيل كوسكيا من جامعة "أي تي أوف كوبنهاغن" التي تم نشرها مؤخرا في المجلة التي يستعرضها الأقران السلوك البشري في الطبيعة "نايتشر هيومان بيهافير"، أشارت إلى أن من الممكن أن يكون تأثير وقف رحلات العمل أكبر بكثير وأكثر استدامة، وحتى نفهم السبب يجب أن نسأل أنفسنا أولا لماذا كان قطاع رحلات العمل قطاعاً كبيراً جدا منذ البداية؟ ولماذا كان ذلك القطاع ينمو بمعدل ثلاثة أضعاف معدل الناتج المحلي الإجمالي العالمي على الرغم من توافر "سكايب" أو "فيس تايم" أو "واتساب" أو "البريد الإلكتروني" علما أن كل تلك الأدوات تسبق "كوفيد-19" وزووم؟

هل كان الموضوع برمته يتعلق بالامتيازات، أم أن مبلغ 1.5 تريليون دولار أميركي تم في الغالب إنفاقه بشكل جيد؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا؟ وما الآثار المترتبة على تقييد هذه الأنشطة الآن؟

بالطبع عندما بدأنا هذا البحث لم نكن نتصور أنه سيحصل وقف كامل لقطاع رحلات العمل ولكن تحليلنا يسلط الضوء على العواقب المحتملة.

لقد كنا في ذلك الوقت ندرس الانتشار التكنولوجي، حيث نرى أن التكنولوجيا هي في واقع الأمر ثلاثة أنواع من المعرفة: المعرفة الكامنة في الأدوات والمعرفة المنظمة في الرموز والوصفات والصيغ والخوارزميات وكتيبات كيفية التنفيذ والمعرفة الضمنية في العقول، ومن بين تلك الأنواع الثلاثة فإنه من السهل تحريك الأدوات والرموز، ولكن الخبرة والمهارة تتحرك بشكل بطيء جدا من دماغ الى آخر وذلك من خلال عملية طويلة من التقليد والتكرار والتعليقات كما هي الحال عند تعلم التحدث بلغة جديدة أو العزف على آلة موسيقية.

وكما يجادل مالكولم غلادويل في كتابه "الحالات المنعزلة" فإنه يمكن أن يستغرق المرء 10.000 ساعة من التمرين ليصبح متمرسا في شيء ما، وعندما واجهت الناس مصاعب من أجل نقل الخبرة والمهارة من عقل لآخر، استنتج هؤلاء الناس قبل وقت طويل أنه سيكون أسهل بكثير نقل العقول نفسها وعليه قام العديد من الباحثين بمن فيهم نحن بدراسة حركة الخبرة والمهارة بين الشركات والمناطق والبلدان، وذلك من خلال انتقال العمالة والهجرة والشتات.

لكن ماذا بالنسبة إلى رحلات العمل؟ لقد أظهرنا في بحثنا السابق أن هناك ارتباطا ضعيفا بين رحلات العمل والتجارة أو حتى تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، ويبدو أن رحلات العمل ترتبط ارتباطا وثيقا بعدد من المؤسسات في بلد ما تمتلكها شركات في بلد آخر.

طبقا لمؤسسة دان آند برادستريت فإن هناك 1.5 مليون مؤسسة من تلك المؤسسات في العالم، وحتى تدير شركة فإنك لست بحاجة للمعلومات فقط، ولكن أيضا للقدرة على فهمها، مما يعني أنك بحاجة للخبرة والمهارة، ومن مزايا المؤسسات المتعددة الجنسيات وشركات الاستشارات والمحاسبة والمحاماة العالمية أنه يمكنها تحريك تلك القدرة الى نقاط مختلفة في شبكتها.

مع وجود بيانات كلية ومجهولة المصدر عن رحلات العمل لدى مركز ماستركارد للنمو الشامل، تمكنا من معرفة ما إذا كانت رحلات العمل مهمة في الانتشار التكنولوجي وذلك من خلال جعل المهارة والخبرة متوافرة للدول المتلقية، وهذا بالضبط ما وجدناه، فرحلات العمل من البلدان التي تعتبر جيدة في صناعة معينة تترجم إلى إنتاجية أعلى وتوظيف وصادرات في تلك الصناعات في البلد المتلقي خلال السنوات الثلاث اللاحقة، بالإضافة الى ذلك فإن الاختلافات في رحلات العمل المرتبطة بالفروقات في أنظمة التأشيرات الثنائية لا تمكننا من تفسير تلك العلاقة كرابط فقط بل كرابط مسبب.

إن أكثر الدول المستفيدة من تدفق الخبرة والمهارة من خلال رحلات العمل هي النمسا وأيرلندا وسويسرا والدنمارك وبلجيكا وهونغ كونغ وسنغافورة، علما أنه لا يوجد أي من الدول النامية بين أفضل 25 دولة متلقية، وإن أفضل الدول من حيث الأداء في العالم النامي هي بنما والأوروغواي وصربيا وماليزيا وجنوب إفريقيا وتشيلي، وإن البلدان التي تساهم بشكل أكبر في تبادل المعرفة هي ألمانيا وكندا والولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وكوريا الجنوبية وفرنسا واليابان، أما الهند والبرازيل والصين فهي تحتل المراكز 12 و15 و17 على التوالي. طبقا لتقديراتنا فإن الوقف الدائم والكامل لرحلات العمل الدولية سيؤدي إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأكثر من 17%، أي بالنسبة إلى الحجم يعتبر ذلك أكبر من نسبة 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي الذي تم إنفاقه سنة 2018، وإن الدول الأكثر تضررا ستكون تلك الدول الأكثر استفادة حاليا من تدفقات الخبرة والمهارة.

لقد كان عالم ما قبل الجائحة يعتمد بشكل متزايد على القدرة على إيجاد الخبرة والمهارة عالميا، وإن الاقتصادات التي كانت قادرة على أن تربط نفسها بتدفقات الخبرة والمهارة تلك استفادت من زيادة في الإنتاجية والإنتاج والصادرات، لقد كانت الكثير من دول العالم النامي على هامش تلك التدفقات ولكن مهما كان الذي حصلت عليه تلك الدول فإنه لا يزال مهما جدا لتنوعها وتنميتها الاقتصادية.

لقد اكتشف العديد من الناس بمن فيهم أنا شخصيا أن بإمكانهم عندما يعملون من المنزل ويتواصلون من خلال (زووم) تحقيق الإنتاجية نفسها التي كانوا يحققونها عندما كانوا يعملون في المكتب أو يسافرون في رحلات عمل، ولكن من الممكن أن يكون هذا وهم قصير المدى يختلف بشكل كبير طبقا لطبيعة النشاط.

لقد كان صندوق النقد الدولي قادرا على توزيع المساعدة المالية للعديد من البلدان بسرعة، وذلك بالعمل في المكاتب والتحدث من خلال (ويبيكس) ومن ثم تحويل الأموال، ولكن البنوك التنموية واجهت مصاعب أكثر بكثير من أجل تنسيق مشاريع البنية التحتية، حيث الحضور العملي يعتبر أمرا لا يمكن تجنبه وبدون القدرة على الوصول للخبرة والمهارة العالمية على الأرض فإن الشركات المحلية واجهت المتاعب في تشييد هياكل المباني أو إصلاح المعدات أو معرفة كيفية تحسين العمليات.

إن أبحاثنا توحي بأن العالم سيدفع ثمنا باهظا للإيقاف الحاصل في رحلات العمل، حيث سيظهر هذا الثمن جليا من خلال انخفاض نمو الإنتاجية والتوظيف والإنتاج في مرحلة ما بعد الأزمة، وإن الوقت ليس موردا متجددا والسفر المفقود لن يرجع مرة أخرى، وحتى لو رجع السفر المستقبلي إلى معدلاته الطبيعية فإن التكاليف حقيقية.

ستتصاعد تلك التكاليف بشكل أكبر لو تخلينا عن الاستثمارات العالمية في اللقاحات والشهادات والتراخيص اللازمة لإعادة فتح قطاع السفر بأسرع وقت ممكن، علما أن من الواضح أن البلدان ستدفع ثمنا أكبر لو استخدمت "كوفيد-19" كحجة من أجل فرض نظام تأشيرات متشدد كما حاولت إدارة الرئيس دونالد ترامب أن تفعل، وذلك من خلال الحد من إصدار التأشيرات المهنية ومنع الطلبة الأجانب من دخول أميركا إذا قررت جامعاتهم ألا تفتح الحرم الجامعي في الخريف.

في واقع الأمر فإن من المرجح أن الجائحة والتقنيات مثل (زووم) ستظهر أن بعض رحلات العمل هي فعلا غير ضرورية، ولكن أبحاثنا تشير الى أن تحريك العقول من أجل تبادل الخبرة والمهارة سيكون أمرا حيويا في عالم ما بعد "كوفيد- 19"، كما كان قبله، وأن عواقب وقف رحلات العمل ستدوم لفترة طويلة.

* وزير فنزويلي سابق للتخطيط كما عمل سابقا ككبير الاقتصاديين في بنك التنمية للدول الأميركية وحاليا أستاذ في كلية جون ف كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد ومدير مختبر هارفارد للنمو.

«ريكاردو هاوسمان»

back to top