أحمد بلال: التقنيات الإلكترونية حطّمت مركزية العواصم الأدبية

«أحاول في كل ما أكتب أن أكون منهجياً ومنضبطاً من الناحية العلمية»

نشر في 01-09-2020
آخر تحديث 01-09-2020 | 00:03
يُعد د. أحمد كريم بلال واحداً من الكتّاب والنقاد المصريين، الذين يعملون على مشاريعهم الأدبية بتأنٍ شديد، لأنه يحرص على تقديم جرعة تنويرية للقارئ العربي، وتتميز كتاباته بالانتماء للبيئة الصعيدية العريقة، وحظيت كتاباته بانتشار كبير، ومن أبرزها: "النزعة الدرامية في الشعر العربي المعاصر"، و"أصداء السيرة والفجوة الدلالية"، و"جدلية الرمز والواقع"، و"كتابية الشعر وتحولات البناء- دراسة في التشكيل البصري الكتابي لقصيدة التفعيلة"، عن دار النابغة بالقاهرة، والذي صدر منذ أيام.
كما حصد العديد من الجوائز الأدبية، وقال عنها في حواره لـ"الجريدة": هذه الجوائز بالنسبة إليّ أوسمة تؤكد أن أعمالي الفائزة بها أعمال جيدة، وطبعاً كل جائزة تمثل حافزاً لمضاعفة الإتقان والتجويد، فضلاً عن كونها حافزاً للعمل، والقيمة الأدبية الشَرَفِيّة التي تحملها هذه الجوائز أسمى من القيمة المادية. وإلى نص الحوار:
● ما هي المنطلقات التي تستند إليها أعمالك المتنوعة بين الخطاب البلاغي والنقدي؛ القديم منه والحديث؟

-الحقيقة أنني أحاول في كل ما أكتب أن أكون منهجيّاً ومنضبطاً من الناحية العلمية؛ وفي الوقت ذاته أكون قريباً جداً من القارئ، ويزعجني جداً أن تكون عباراتي غامضة وغير مفهومة، ولست مع الكتابات النقدية المستغلقة؛ لأن وظيفة النقد من وجهة نظري تبصير القارئ وزيادة وعيه بجمالية النصوص الأدبية، وهذه الموازنة ليست صعبة إذا كانت الأفكار والرؤى واضحةً في ذهن الناقد.

أدباء الأقاليم

● لك أربع مجموعات قصصية تنتمي جميعاً لأدب الجنوب، ما خصوصية المشهد الثقافي في صعيد مصر؟

-المشهد الثقافي في الصعيد المصري ثري، وهناك الكثير من المواهب الجيدة التي لم تجد الفرصة الكافية للانتشار، ويؤسفني أن أقول: إن هؤلاء الأدباء الذين يعيشون بعيدا عن القاهرة (في الصعيد وغيره) لا يجدون الفرص مهيَّأة بشكل كبير للنشر أو الانتشار، وربما ينظر إليهم بشيء من الطبقية عندما يُصنَّفون بكونهم من أدباء الأقاليم، إلا أننا نجد أن لبعضهم حضوراً قويّاً من خلال الوسائل غير الرسمية المتمثلة في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد حطمت هذه التقنيات الإلكترونية الحديثة فكرة مركزية العواصم الأدبية، وحققت لبعض المتميزين انتشاراً ضخماً وجماهرية كبيرة.

طه حسين

● وُلدتَ في محافظة المنيا وأنت تعيش الآن فيها، وهي نفس المكان الذي ولد فيه طه حسين عميد الأدب العربي، هل لعب المكان دوراً في تشكيل رصيدكم الثقافي؟

-الحقيقة أنا تخرجت في جامعة القاهرة، وعشت الشطر الأكبر من حياتي في القاهرة، قبل انتقالي للحياة في الصعيد بالسنوات الأخيرة، وكذلك طه حسين لم يعش في المنيا إلا فترة طفولته، غير أن المكان الصعيدي قد ترك أثرا كبيرا في كتابات طه حسين الأدبية، كما في "الأيام" و"دعاء الكروان" وغيرهما، وهنا يجب التنبيه على أن المكان مؤثر قطعا في الكتابة الأدبية، وليس الأمر على هذا النحو في الكتابات النقدية.

التشكيل البصري

● "كتابية الشعر وتحولات البناء- دراسة في التشكيل البصري الكتابي لقصيدة التفعيلة"، عن دار النابغة بالقاهرة، والذي صدر منذ أيام، ما الرؤى النقدية التي خلصت إليها في كتابكم؟

-هذا الكتاب يعالج التشكيل البصري الكتابي للقصيدة الشعرية، مع تحول القصيدة إلى أدب مقروء، وقد كان الأصل فيها أن تُنشد على مسامع المتلقين، وأبرز ما في التحول للكتابية استثمار تقنيات الطباعة وابتداع وسائل تعبيرية جديدة تُشتغل في إثراء الدلالة والإيحاء الفني؛ صحيح أن كثيراً من هذه الوسائل فيها ما فيها من غلواء التجريب والافتتان بالجديد؛ لكن بعضها جاد ودال ومؤثر، ولعله من الجدير بالذكر أن أقول: إن أصل هذا الكتاب هو رسالتي التي نلت بها درجة الماجستير سنة 2003، وقد كان الموضوع ساعتها جديداً وغير مطروق، وقد شغلتني الكثير من الشواغل عن نشره طوال تلك السنوات، حتى تهيأت الفرصة فأعدت النظر والتنقيح في بعض محتوياته ونشرته.

الأعمال الرديئة

● باعتبارك ممارساً للنقد، ومتابعاً للحركة النقدية، إلى أين يتجه النقد الأدبي؟

-لقد ذكرتُ في إجابتي عن سؤالك السابق موجة التغريب والتعقيد، وهذه واحدة من مشكلات النقد المعاصر التي حالت دون جماهريته، وجَعَلَته مقصوراً على نخبة النخبة من الأساتذة المتخصصين وطلاب الدراسات العليا في الجامعات العربية، وسأذكر طرفاً آخر من المشكلة هو: التواطؤ على تسويق الأعمال الرديئة، ومحاولة تقديمها باعتبارها النموذج الجمالي الأمثل، وهذه المغالطات تُزيف وعي الناشئة الأدبية، وتعمل على إيجاد قطيعة معرفية ووجدانية بينهم وبين تراثهم الأدبي في أزهى عصوره.

الثقافي والفكري

● كيف تصف المشهد الثقافي العربي الراهن؟ هل هو في حالة غياب؟

- لنعترف أن ثقافة الكتاب المقروء، التي تحتاج إلى صبر ودأب في التحصيل، قد تراجعت كثيراً جداً أمام ثقافة السمعي والبصري التي توفرها شبكة الإنترنت، لقد أصبح الناس يستقون معارفهم من مصادر غير موثوق فيها، وأصبح تكوينهم الثقافي والفكري مسخاً مشوّهاً، ولغلبة المغلوط والرديء بدت آثار هذه الثقافة سلبيةً تتجه نحو السطحي والاستهلاكي، الثقافة الإلكترونية لا تخلو بطبيعة الحال من فوائد، لكنها تحتاج إلى البصير الذي يحسن النقد والانتقاء، والغالب على الجيل الناشئ من شبابنا افتقاد الرويّة والتمحيص، وقبول كل شيء وأي شيء دون تدقيق وتفكّر.

زمن الرواية

● ما رأيك في مقولة زمن الرواية وقصيدة النثر، وتجربة شعر السبعينيات؟

- الحقيقة أن هذه القضايا الجدلية تحتاج إلى الكثير من المناقشة، ولكن سأقول رأيي الخاص في هذه القضايا بإيجاز شديد جدا، فقصيدة النثر لست محباً لها، ولا مؤيداً لكونها بديلاً عن الشعر المـُنغَّم، ليس شرطاً أن يكون التنغيم وفق بحور الخليل، ولكن لابد من نظام موسيقي مُحكم، ما يسمونه قصيدة النثر هي كتابات فنية نثرية أجود ما قرأته منها عند الأديب السوري الراحل محمد الماغوط، أما قصيدة النثر الحديثة فقد بدأت أولا بطرح الوزن والتعويض بكثافة المجاز، ثم ظهر تيار جديد يدعو إلى استخدام لغة بسيطة مباشرة مجردة من المجاز، وأخيراً قرأت عن دعوة لكتابة قصيدة النثر العامية! والآن ماذا تبقى من الشعر؟ بينما تجربة شعر السبعينيات، بعض الشعراء المصريين في تلك الحقبة أوغلوا في التجاوزات على المستوى الفني والدلالي، مثل حلمي سالم ورفعت سلام وغيرهم، وتم الاصطلاح نقديا على تسمية تلك التجربة بتجربة شعر السبعينيات، لست مؤمنا بتقسيم الشعر إلى عقود، وتقسيم الشعراء إلى أجيال، فالتجربة الشعرية ممتدة ومتحولة ولا يمكن تجميدها في حيز جيل أو حقبة، كما أن هؤلاء الشعراء لم يكونوا الصوت الأوحد في ذلك الزمان، والسمات الفنية لشعر فترة السبعينيات في مصر غيرها تماما في السعودية أو السودان مثلا.

وفي زمن الرواية، فالحقيقة أن الرواية أقرب الفنون الأدبية إلى محاكاة الواقع فنيّاً والتعبير عن قضايا الإنسان المعاصر وهمومه، ولذا فهي بالفعل تكاد تكون ديوان العرب المعاصر، على الأخص مع تراجع الفن الشعري بسبب موجة التغريب والتعقيد، وبالفعل هذا زمان الرواية.

القيمة الأدبية

● حازت أعمالكم عدة جوائز في النقد الأدبي والدراسات الأدبية، منها: جائزة إحسان عبدالقدوس، وجائزة الطيب صالح من السودان، وجائزة المقال الأدبي من وزارة الثقافة المصرية، وجائزة كتاب الجمهورية فرع النقد الأدبي من مصر، وجائزة مجمع اللغة العربية بالقاهرة في الدراسات الأدبية، وجائزة كتارا في النقد الأدبي الروائي، ما الذي تضيفه الجوائز عادة للمبدع؟

-هذه الجوائز بالنسبة إلي أوسمة تؤكد أن أعمالي الفائزة بها أعمال جيدة، وطبعا كل جائزة تمثل حافزاً لمضاعفة الإتقان والتجويد، فضلا عن كونها حافزاً للعمل، والقيمة الأدبية الشَرَفِيّة التي تحملها هذه الجوائز أسمى من القيمة المادية، على الأخص جائزة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، لأن المجمع مؤسسة عريقة ذات تاريخ طويل مشرف في خدمة العربيّة، وجائزة المجمع تُمنح لفائز واحد فقط من بين عشرات المتنافسين، فهذه الجائزة -وكذلك كل الجوائز التي حصلت عليها- تمثل تقديرا كبيراً لعملي، يلزمني أن أكون دوماً في مستوى أعلى من الإجادة والإتقان.

الرواية العربية

● وماذا عن كتاباتك في المرحلة القادمة؟

-أنا مشغول في الفترة الحالية بعدة قضايا في الشعر، وخصوصاً الشعر المكتوب للأطفال، فضلا عن انشغالي بدراسة بعض الاتجاهات الجديدة في الرواية العربية، وآمل بإذن الرحمن أن أوفق في تقديم إضافة تثري وتفيد في هذين المجالين.

الرواية ديوان العرب لتراجع الفن الشعري أمام موجة التغريب والتعقيد
back to top