عشت ونزفت في كارثة بيروت *

نشر في 31-08-2020
آخر تحديث 31-08-2020 | 00:09
 خولة مطر هي ليست حكايتي وحدي بل بعض مما عاشه أهل بيروت ولبنان في ذاك المساء المغمس بالموت، وليست رواية شخصية بل ربما سرد جماعي ولا تزال المشاهد تتداعى.

السادسة مساءً والنهار يوشك أن يستعد ليوم آخر، المدينة تتثاءب ولكنها بيروت التي تتقن فن العيش، الشباب يستعدون للخروج والشابات أمام المرايا يضعن اللمسات الأخيرة: "هناك حريق في بيت الوسط" أخي يقرأ شريط الأخبار على شاشة التلفاز، لحظات هي أو هكذا تبدو الآن "هناك دخان أبيض صاعد من المرفـأ المقابل للعمارة التي نسكنها"، يأتي صوت أخي: أتحرك سريعا باتجاه البلكونة المغلقة بالزجاج كحال كل بلكونات العمارة، أحمل هاتفي "لا ليس حريقا، ليس حريقا الدخان الأبيض يعلو"، حشريتي الصحافية لم تمت أبدا أعرف ذلك، قلت "تأكد هل شريط الأخبار يذكر حريقا أم...؟".

أنا متقدمة باتجاه البلكونة المغلفة بالزجاج وهو خلفي ربما بخطوتين، من هنا تنتهي روايتي وتتحول إلى خليط من السرد الجماعي لحكاية اغتيال مدينة بل اغتيال بلد، صرخة ضعيفة "آه آه".

بعد صوت الانفجار يتحول فضاء المكان إلى كم من الزجاج المتطاير والغبرة البيضاء، نسيت أنني في ذاك المساء أصررت على "عماش" الشاب الذي قدم من دير الزور قبل أكثر من عشرين عاما حارسا للمبنى الذي سكنته، حينها بقي الرابط متواصلا، انتقلت إلى شقق عدة في بيروت، وبقي هو حارسي الذي ألجأ إليه كلما احتجت للمساعدة... ككل الديرية، أي أهل دير الزور، يبقى الوفاء رابطا مقدسا. كان جالسا بين جدارين يفك زرار النور في غرفة نوم أختي، حصل الانفجار وهو هناك، لم يصب، خرج يجري بين الدخان الأبيض ورذاذ الزجاج، وجد أخي واقفا في الصالون ينزف دما من رأسه ووجهه، فجرى الاثنان للبحث عني، بدأ يصرخ بعد عدم وجودي كعادتي خلف المكتب الذي تحطم بالكامل وطار الزجاج من أمامه فسقط الكثير من الأوراق وغيرها من الطابق الرابع.

"الحجة سقطت... الحجة راحت" كان يناديني بالحجة بسخريته، ولكنه الآن يبكي وينوح، مستمر في الصراخ، ينهره أخي ويجري للبحث بين الدخان الأبيض والزجاج، يبدأ الغبار الأبيض والزجاج في النزول ببطء نحو أرض الشقة المغطاة بحطام كل ما كان فيها، وببطء تتضح الصورة أو تتجلى على حجم الدمار، يسمع صوت أنين قريب من مائدة الطعام، يجري الاثنان نحو مصدر الصوت هناك، يجدونني مستلقية على ظهري حيث رماني الانفجار مغطاة بالدم من رأسي حتى آخر إصبع في رجلي، عيناي مفتوحتان... الآن فقط وبعد أكثر من أسبوعين أعرف أنني ربما رحلت وعدت، غبت عن الوعي للحظات.

يعود الديري للصراخ من خوفه، "ماتت الحجة... راحت الحجة"، ينهره أخي، يربط رأسه بقطعة قماش أو فوطة ويحملني، "عماش" الذي لا يعرف حتى الآن من أين أتته القوة لحملي... يجريان، لا حاجة لفتح باب المطبخ المؤدي إلى درج الخدمات فقد كان مشرعا أي مخلوعا كما كل الأبواب الأخرى وكل شيء في ذاك المكان الذي كان بيتي.

يجريان على السلم بين صراخ الأطفال والمربيات، فالمساء ما زال في أوله وكثير من السكان لم يعودوا بعد إلى بيوتهم، فقط الأطفال، كثير منهم والمربيات من جنسيات مختلفة، عند الطابق الثاني طلبت أن ينزلني وقلت له بصوت بالكاد يسمع "لا تصرخ... لا تصرخ"، قال لي بعدها إنه لم يكن هو الذي يصرخ.

أفزعته كمية الدماء فرفعني مرة أخرى وجرى بي حيث وصلنا لمدخل البناية والحراس يجرون لتقديم المساعدة للهاربين من ذاك الجحيم، الشارع مليء بالحطام والصريخ، المستشفى المقابل لعمارتنا قد تحول إلى حطام وجرت الممرضات والممرضون بالمريضات والمرضى إلى الخارج ووضعوهم على الأرصفة المجاورة محاولين إنقاذهم.

لا عربة إسعاف توقفت لنا رغم محاولات الديري ولا عربات أخرى فكلها كانت مكتظة بالجرحى... الدم في كل مكان والهلع على الوجوه، حتى تلك اللحظة لم يكن الكثيرون قد عرفوا ما الذي حدث، قصف طيران إسرائيلي؟ أم سيارة مفخخة؟ أم تفجير موكب أحد السياسيين؟ أم... أم؟ كلها سيناريوهات اعتادها اللبنانيون.

أطلب أن أحاول المشي يرفض حاملي في البداية ثم ينزلني، يعطيني أخي حذاءه فيبقى هو حافي القدمين فوق طرقات عبدت بالزجاج الذي سيسكن قدمه للأيام بل الأسابيع التي تلت الانفجار، شارع الجميزة الرئيسي ليس أفضل من شارع باستور حيث كنا، الفوضى والصراخ والدم والمسعفون من الممرضين والمدنيين غير قادرين على أخذ الجميع... جميع الجرحى.

تطلع هو حولنا حاول مع كثير من العربات وسيارات الإسعاف، كلها فتحت أبوابها ورصت الجرحى فوق بعضهم... كنا مقابل درج الجميزة المؤدي صعودا إلى سرسق، قال هو ما لنا إلا أن نصعد السلم... كيف صعدته أنا وأخي ودمنا يتطاير؟ عند قصر سرسق الفوضى والخوف على كل الوجوه، يبدو أن رعبهم يزداد كلما رأونا نحن القادمين من الصفوف الأمامية المقابلة للـ"البور" ميناء بيروت.

تمر دراجة نارية يوقفها الديري منقذي، السائق أخذنا إلى المشفى فيضعني في صندوق البضائع ويركب هو خلف السائق، أما أخي فكان عليه أن يتبعنا مشيا حتى أقرب مشفى، كان المستشفى الأقرب قد دمر هو الآخر، فانتقلنا إلى المشفى الأكبر في منطقتنا، وأنزلني من صندوق البضائع، حيث تكومت وجرى بي نحو الطوارئ حيث رفضوا استقبالنا وكثير من الجرحى الآخرين! قالوا ليست لدينا أي قدرة استيعابية، اذهبوا لمستشفى آخر، كنت قد نزفت الكثير من الدم، وبدأت أشعر ببعض الدوخان، فاتصل بأخيه الذي حضر على دراجته النارية، فالشوارع مكتظة بالقتلى والجرحى خلفه.

صعدت وإلى المستشفى الأقرب الذي رفضنا في البدء للأسباب نفسها، ثم اضطرت تلك الممرضة ربما لإسكاته بعد أن صرخ فيها بل فيهم "إنها تنزف منذ مدة لازم تاخذوها لازم"، أدخلوني حيث ارتمت جثث الجرحى في ذاك الممر، يوحدنا الألم، ويجمعنا الدم... كثير منه على الجدران وفي المصاعد وأزرارها، كلها أخذت اللون الأحمر القاني، حضرت صديقتي الأجمل وجاء بعدها أخي أيضا بعد. مغامرة البحث عني في المستشفيات انقطعت الاتصالات لفترة، حيث فقد كثير من اللبنانيين تواصلهم وتفقدهم لبعضهم البعض، ربما كنت محظوظة فقد وجدوا لي غرفة صغيرة وسريرا ألقي بنفسي فوقه، قالت لي تلك الطبيبة الشابة رائعة الجمال الروحي إنها دخلت الغرفة لتجدني مستلقية على السرير مغطاة بدمي دون أن يصدر عني أي صوت... تقول إنها سألتني "جي طبيب شافك؟" قلت لها: لا... بعدها بثلاثة أسابيع سألتني عن سبب هدوئي وعدم طلبي أن تعطى لي الأولوية وأن يفحصني مختص خصوصا أن الزجاج كان حول عيني ويدي اليسرى فُتحت على مصراعيها و... و... إلخ. قلت لها ربما لخجلي من نفسي أمام الأرواح البريئة التي رحلت والأطفال وللشباب الذين فقدوا أعينهم أو أطرافهم وكبار السن وفقراء هذه المدينة المنكوبة الذين وجدوا أنفسهم على حافة الطرق.

ستقوم تلك الطبيبة الشابة بـ"تكبيس جروحي وجروح أخي لإيقاف النزيف وتربط يدي بالشاش وتقول غرف العمليات مكتظة وعلينا الانتظار"، وفي اليوم التالي أجريت العمليات ليدي الاثنتين وتمت معالجة وإغلاق كل الجروح بقطب سريعة من رأسي حتى قدمي، قبلها طلبت تلك الممرضة من صديقتي الرائعة أن تزيل الزجاج من حول عيني لأنهم لا يملكون الوقت وعليهم التركيز على إنقاذ حياة الكثيرين.

سأعرف هذه التفاصيل من هنا وهناك في الأيام التي تلت، وسأعرف أيضا أن مربية المنزل التي رافقتني لأكثر من عشرين عاما والتي تركت بيتي في نهاية يوم عملها متجهة إلى حيث تقيم مع صديقاتها... عرفت أن جثتها موجودة في مشرحة مستشفى الجامعة، فقد أصيبت بنزيف في المخ نتيجة قوة الانفجار، هي الفلبينية التي عشقت لبنان ورفضت تركه، سرق الانفجار رفيقة دربي كما خطف شباب لبنان وشاباته وأطفاله.

فجر الانفجار محبة كبيرة في الأيام التالية لم تتوقف، رسائل السؤال والمحبة لي ولأخي من كل بقاع الأرض سأل الأصدقاء عني وعنه وعن بيروت، لم يكن الألم مقتصرا على جراحنا بل جراح بيروت التي كما تقول: يافطات الشوارع قد ماتت وعاشت مئة مرة... كلمات الرسائل على الواتساب هي وحدها بحاجة أن تبقى محفورة في ذاكرتنا لأن المحبة والحياة أقوى من الموت.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

back to top