لبنان: «كلّن يعني كلّن»... يتبخر أمام الواقع

نشر في 14-08-2020
آخر تحديث 14-08-2020 | 00:07
متظاهرات لبنانيات يوقفن سيارة نائب متجه إلى جلسة برلمانية في قصر الأونيسكو أمس (أ ف ب)
متظاهرات لبنانيات يوقفن سيارة نائب متجه إلى جلسة برلمانية في قصر الأونيسكو أمس (أ ف ب)
إذا سألت أحد المتابعين للشأن اللبناني عن حراك المجتمع المدني «وثوار 17 تشرين» فسيجيبك على الفور: عن أي مجموعة تريد أن تبحث أو تتحدث؟

الواقع أن تلك المجموعات لا تعمل تحت قيادة موحدة، فكل مجموعة مستقلة عن غيرها، سواء بالتحرك أو بسقف المطالب التي تتبناها، وبنت شهرتها الأولى على شعار «كلن يعني كلن»، وهو المرادف لشعار ثورات الربيع العربي «الشعب يريد إسقاط النظام».

هذا الشعار كان عفوياً وشعبياً، ولذلك كان من الصعب أن تحاسب أو تناقش أي قيادي منهم بكيفية تطبيقه على الأرض، لأنه في الأساس خرج بلحظة غضب وثوران.

الشعار في البداية أغرى الجميع، ودغدغ مشاعر الشباب والمنتفضين، وقد يكون انتهى مفعوله، ولم يعد هو الأساس، وربما كانت الدلالات الأساسية له أنه جمع كل الرموز الحاكمة في سلة واحدة، بدءاً من السيد حسن نصرالله وانتهاء بالرئيس ميشال عون، ومروراً بالأستاذ نبيه بري وآخرين بالطبع، تلك الثورة لم تستثنِ أحداً من الطبقة السياسية، والمستهدف الرئيسي هو «حزب الله».

في التحليل السياسي أن العمود الفقري لهذه الثورة أغلبيته من الطائفة المسيحية بشكل عام، تساندهم مجموعات من الطبقة الوسطى من السنة والشيعة والدروز، وهي الفئة المتحررة من أي التزامات حزبية أو طائفية، في حين انكفأ فقراء الشيعة والسنة والمسيحيين معاً عن هذه المجموعات وظلوا «مجندين» لقياداتهم الحزبية والطائفية يستعينون بهم عندما يشعرون بالضعف والتراجع للنزول إلى الشارع، وفي مواجهة الثوار؛ إما للتخريب والتشويش، وإما للتعطيل والدفع نحو مواجهات مسلحة وطائفية.

تغيرت الشعارات، مع مرور الأيام والتقلبات السياسية، فالتصويب اليوم وصل إلى سدة الرئاسة، أي الكرسي الأول للموارنة، والمطالبة برحيله تماماً، مثلما وضعوا حزب الله بخانة «الحزب الإرهابي»، وهو ما لم يكن مسموحاً به أو مقدوراً عليه.

يؤخذ على ثوار 17 تشرين تشرذمهم وعملهم كمجموعات منفردة، فليس لديهم مرجعية واحدة، وهذا ما أوجد لخصومهم الفرصة لتشتيتهم، وبالتالي عدم الخوف منهم وبقدرتهم على التغيير، فالمتضررون منهم، أي المنظومة السياسية الحاكمة والمتسلطة والفاسدة، رأت أن تستنفر «جماهيرها»، فكانت لهم بالمرصاد عبر تشويه وتعطيل مسيراتهم واعتصاماتهم السلمية... يعني، وبالعربي الفصيح، جيشوا الخزان البشري لطوائفهم، وهم في الغالب من الطبقات الفقيرة، التي يسهل استنفارها وتعبئتها بشعارات طائفية، سواء من الجنوب أم من الشمال أم من عكار أم من بيروت.

من حيث العدد، ربما تزيد المجموعات المنضوية في الحراك المدني، والخارجة من رحم ثورة 17 تشرين على العشرين هيئة أو مجموعة، وتحت مسميات مختلفة، وإزاء هذا التنوع وغياب القيادة الموحدة تداعت هيئة «شرعة الإنقاذ الوطني»، بعد إصدار بيانها الأول بتوقيع نحو 5500 ناشط داخل لبنان وخارجه، إلى إطلاق مشروع توحيد الجهود وورش عمل تتناول قضايا الاقتصاد والقضاء والإصلاح السياسي، وفي مقدمتها قانون الانتخاب، وصولاً إلى عقد مؤتمر وطني عام للإنقاذ وإسناد المهمة إلى لجنة متابعة تمثل مجموعات وقطاعات متنوعة.

الحقيقة أن الشعارات التي يرفعها البعض أقرب للحلم منها للواقع، فرفض النظام القائم هكذا دون وضوح البديل، هو عملياً كالرمي في المجهول.

الذين درسوا هذه الظاهرة، كان واضحاً لديهم أن هذه التجمعات أتت من خلفيات طبقية واجتماعية وطوائف دينية مختلفة، ما يجمعهم هو الجوع وسعر الليرة المتهالك والعوز الاجتماعي والأزمة الاقتصادية، التي وحّدتهم وجعلتهم على مسافة واحدة.

أدبيات تلك التجمعات يمكن الوقوف عندها من خلال مواقعها الإلكترونية، والتعريف بها وبأهدافها، فمثلاً «مجموعة شباب المصرف»، نسبة إلى البنك المركزي، تعمل على «بلورة سلطة بديلة» لدولة مدنية تدير شؤون المجتمع كافة؛ أي أنها ما زالت في طور الإعداد والتفكير وبلورة البديل القادم.

ربما كان «تجمع استعادة الدولة» من الهيئات المؤثرة في الرأي العام اللبناني، نظراً لوجود شخص يقوده، يتمتع بخبرات اقتصادية واسعة، وذي مصداقية في الطرح هو الدكتور حسن خليل، الخبير بالشأن المالي والاقتصادي، وقد سعى بالتعاون مع نشطاء آخرين أمثال غسان النابلسي إلى إيجاد شريحة واسعة تنضم إليه بهدف تكوين ثقل اجتماعي وشعبي.

حملة «دفى» انطلقت عام 2013، وهي واحدة من أكبر حملات التبرع في لبنان، تقف وراءها النائبة بولا يعقوبيان، التي أقدمت الأسبوع الماضي على تقديم استقالتها في مجلس النواب؛ احتجاجاً على الطبقة السياسية الحاكمة وفشلها في إدارة الدولة وتسببها في كارثة المرفأ.

وإضافة إلى دعمها للأسر المحتاجة، ومن كل الطوائف، كانت لها مشاركات بانتفاضة 17 تشرين والنزول إلى الشارع للمطالبة بالتغيير.

سمير صليبا، أحد الناشطين في مجموعة «أنا خط أحمر» الذين كانوا من المشاركين الأقوياء للمطالبة بالتغيير، ووجهتهم القطاع الخاص وكيفية النهوض به. وقد اعتبرت هذه المجموعة أن الثورة هي الأمل الوحيد بالتغيير نحو لبنان الجديد.

يبقى أن «مواطنين ومواطنات في دولة» مدنية وديمقراطية وعادلة وقادرة هي الرؤية التي صاغتها، وبرز فيها اسم الوزير السابق شربل نحاس، فهؤلاء يطرحون شعار إقامة دولة مدنية تتعامل مع المواطن دون وساطة الطوائف... هي باختصار من أجل مظلة لبناء دولة مدنية.

بعد عشرة أشهر وأكثر من عمر ثورة 17 تشرين وخروج التجمعات إلى العلن، وبين صعود وهبوط، ووسط تقلبات الأحوال السياسية الاقتصادية، التي شهدتها الساحة اللبنانية، إضافة إلى تأثيرات الوباء العالمي «كورونا» المستجد على تحركات الشارع تعود تلك المجموعات إلى الواجهة من جديد، بعد أن طفح الكيل بفاجعة المرفأ، وعاد الحراك المدني بقوته إلى الشارع، ويعاد السؤال عن حجم تلك المجموعات، وماذا تشكل من مجموع المواطنين، وهل بإمكانهم فعل التغيير؟

تتفق معظم الدراسات على جملة بديهيات في هذا الشأن، ومنها: أن هذه القوى لا تملك من أدوات التغيير سوى الصوت والنزول إلى الشارع، فالسلاح الذي تلجأ إليه هو «سلاح أبيض»، بالمعنى المجازي، أي أنهم مجردون من عناصر القوة، وبالتالي فإنهم غير قادرين على استبدال الطبقة الحاكمة أو خلعها أو تغييرها.

أمر آخر يستوقف المراقبين، وهو أن الشعار الذي رفعته المجموعات «كلن يعني كلن» لم يعد من مصلحة التغيير التمسك به في المطلق هكذا، فذلك من شأنه تجميع كل الخصوم بالسلطة وبسلة واحدة، وسيكون من الصعب إزاحتهم دفعة واحدة!

والعمل السياسي هو في النهاية فن إدارة المعركة التي تخوضها، وبالتالي تحتاج إلى قيادة متمرسة وناضجة سياسياً، تقدّر متى تتراجع قليلاً ومتى تتقدم، على قاعدة خذ وطالب.

فاقتناص الفرصة هو ما يعطي تلك المجموعات شرعية القيادة، ويمنحها الثبات بالتأهيل على لعب دور وازن بالتغيير المنتظر.

back to top